للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إعجاز القرآن
كان صديقنا خزانة الأدب، ولسان العرب مصطفى صادق الرافعي خص
الجزء الثاني من كتابه آداب اللغة العربية ببيان إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ثم
رأى أن يفصله منه ويصدره بالعنوان الدال على موضوعه واقترح عليَّ أن أكتب له
مقالا وجيزًا يُصدر به الكتاب ويعرضه به على أولي الألباب فكتبت له ما يأتي
فصدَّره وعرضه به وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: ٨٨) .
القرآن كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه وفي علومه وحكمه وفي
تأثير هدايته وفي كشف الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة وفي كل باب من
هذه الأبواب للإعجاز فصول، وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول وقد
تحدى محمد رسول الله النبي العربي الأمي العرب بإعجازه وحكى لهم عن
ربه القطع بعجزهم عن الإتيان بسورة من مثله فظهر عجزهم على شدة حرص
بلغائهم إلى إبطال دعوته واجتثاث نبتته، ونقل جميع المسلمين هذا التحدي إلى
جميع الأمم فظهر عجزها أيضًا وقد نقل بعض أهل التصانيف عن بعض
الموصوفين بالبلاغة في القول أنهم تصدوا لمعارضة القرآن في بلاغته ومحاكاته في
فصاحته دون هدايته ولكنهم على ضعف رواية الناقلين عنهم لم يأتوا بشيء تقر به
أعين الملاحدة والزنادقة فيحفظوه عنهم ويحتجوا به لإلحادهم وزندقتهم.
ثم ابتدع بعض الأذكياء في القرن الماضي دينًا جديدًا وضعوا له كتابًا [١]
توخوا وتكلفوا فيه تقليد القرآن في فواصله وادعوا محاكاته في إعجازه بهدايته
ومساهمته بإنبائه عن الأمور الغائبة المستقبلة فكان من خزيهم وخذلان الله لهم أن
اضطروا إلى كتمان هذا الكتاب المختلق والإفك الملفق لكيلا يفتضحوا بظهوره
وهم مازالوا يجمعون ما كانوا طبعوه من نسخه قبل أن يظهر فيهم الداهية [٢] الواقف
على مخازي تزويره وهم يحرقون ما جمعوه منها، ولعلهم ينقحونه ثم يبرزونه
لجيل لم يطلع عليها.
وقد نبتت في مصر نابتة من الزنادقة الملحدين في آيات الله الصادين عن دين
الله قد سلكوا في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابًا جددًا وللتشكيك في الدين طرائق
قددًا منها الطعن في اللغة العربية وآدابها والتماري في بلاغتها وفصاحتها وجحود ما
روي عن بلغاء الجاهلية من منظور ومنثور وقذف رواتها بخلق الإفك وشهادة الزور
ودعوة الناطقين باللسان العربي المبين إلى هجر أساليب الأولين واتباع أساليب
المعاصرين ومنهم الذين يدعون إلى استبدال اللغة العامية المصرية بلغة القرآن
الخاصية المضرية، والغرض من هذا وذاك صد المسلمين عن هداية الإسلام وعن
الإيمان بإعجاز القرآن؛ فإن من أوتي حظًّا من بيان هذه اللغة وفاز بسهم رابح من
آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز
القرآن ببلاغته وفصاحته وبأسلوبه في نظم عبارته، وقد صرح بها من أدباء
النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأميركانية
في كتابة الخواطر الحسان [٣] .
وقد رأيت شيخنا الأستاذ الإمام مرة يقرأ في كتاب إفرنسي اللغة لحكيم من
حكمائها فكان مما قرأه علي منه بالترجمة العربية رد المؤلف على من قال من دعاة
النصرانية: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يأتِ بمثل آيات موسى وعيسى
المسيح (ع. م) ، قال: إن محمدًا كان يقرأ القرآن مولهًا مدلها [٤] ، صادعًا
متصدعًا فيفعل في جذب القلوب إلى الإيمان به فوق ما كانت تفعل جميع آيات
الأنبياء من قبله اهـ.
لقد حار العلماء في حجب البيان عن وجوه إعجاز القرآن بعد أن ثبتت
عندهم بالوجدان والبرهان حتى قال بعضهم: إن الله - تعالى - قد صرف عنه قدر
القادرين على المعارضة بخلق العجز في أنفسهم وألسنتهم وذلك أن إدراك كنه
العجز والإحاطة بأسبابه وأسراره ضرب من ضروب القدرة، والمقام مقام عجز
مطلق فالقرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد والأثير في المادة والكهرباء في
الكون تعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها
وحقيقتها وفي وصف ما عرف منها أو عنها لذة عقلية لا يُستغنى عنها كذلك ما
عرف من أسباب عجز العلماء والبلغاء عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن في
الهداية أو الأسلوب أو حسن البيان فيه لذات عقلية وروحية وطمأنينة ذوقية وجدانية
تتضاءل دونها شبهات الملحدين وتنهزم من طريقها تشكيكات الزنادقة والمرتابين.
فالكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعًا وهو من فروض الكفاية وقد تكلم
فيه المفسرون والمتكلمون وبلغاء الأدباء المتأنقون ووضع الإمام عبد القاهر
الجرجاني مؤسس علوم البلاغة كتابيه (أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز) لإثبات
ذلك بطريقة فنية وقواعد علمية وصنف بعض العلماء كتبًا خاصة فيه اشتهر منها
كتاب (إعجاز القرآن) للقاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار والمتكلمين في عصره؛
لأنه طبع مرتين أو أكثر فإن كان ذلك قد وفى بحاجة الأزمنة التي صنفت فيها
تلك الكتب فهو لا يفي بحاجة هذا الزمان إذ هي داعية إلى قوم أجمع وبيان أوسع
وبرهان أنصع في أسلوب أجذب للقلب وأخلب للب وأصغى للأسماع وأدنى إلى
الإقناع.
استوى إلى هذا وانتدب له الأديب الأروع والشاعر الناثر المبدع صاحب
الذوق الرقيق والفهم الدقيق الغواص على جواهر المعاني الضارب على أوتار مثالثها
والمثاني صديقنا الأستاذ (مصطفى صادق الرافعي) فصنف في إعجاز القرآن
سفراً لا كالأسفار، أتى فيه -وهو الأخير زمانه- بما لم تأت الأوائل، فكان مصدقًا
للمثل السائر (كم ترك الأول للآخر) ناهيك بمنثور للآلئه في نظم القرآن العجيب
وأسلوبه المباين لجميع الأساليب فلا هو مرسل طلق العنان كالنوق المراسيل،
يتعاصى على ترسل التجويد ونغمات الترتيل ولا هو مسجوع كسجع الكهان ولا
شعر تلتزم فيه القوافي والأوزان، ومن آياته القصار ذات الكلمة المفردة والكلمتين
والكلمات والوسطى المؤلفة من جمل مثنى وثلاث ورباع والطولى منها لا تتجاوز
سطورها جمع القلة وأطولها آية الدين فقد تجاوزت مئة كلمة وكل نوع منها يؤدي
بالترتيل اللائق به المعين على تدبره.
وإني على شهادتي للرافعي بأنه جاء في هذا المقام بما تجلت به مباين
الإعجاز ومواضحه وأضاءت لوائح الحق فيه وملامحه وددت لو مد هذا البحث مد
الأديم بل أمد بحيرات نيله بجداول الغيث العميم فعم فيضانه الفروق بين نظم الآيات
في طولها وقصرها، وقوافيها، وفواصلها، ومناسبة كل منها لموضوع الكلام
واختلاف تأثيره في القلوب والأحلام [٥] .
كلفني المصنف -أيد الله به اللغة والدين- أن أكتب ثلاث صفحات أو أربعًا
أعرض بها كتابه هذا على القارئين، وأنى لي بإيجاز الكتاب المنزل ولا سيما
قصار سور المفصل فأعد في هذه الصفحات عناوين أبوابه وفصوله، دع ما فيها
من غرر مباحثه وحجوله إذاً لست أملك من الاستجابة له فوق ما تقدم إلا أن أنصح
لقراء العربية عامة وللمسلمين خاصة ولطلاب العلم منهم على الأخص بأن يقرؤوا
هذا الكتاب بغية الاستعانة على النبوغ في بلاغة لغتهم والتفقه في كتاب الله تعالى
وتعرف الشيء الكثير من أسرار إعجازه مما لا يجدونه في غيره قال شيخنا الأستاذ
الإمام -رحمه الله تعالى-: (إن لكلام الله تعالى أسلوبًا خاصًّا يعرفه أهله ومن امتزج
القرآن بلحمه ودمه، وأما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل
فأولئك عنه مبعدون) .
وقال أيضاً: (فهم كتاب الله تعالى يأتي بمعرفة ذوق اللغة وذلك بممارسة الكلام
البليغ منها) .
وقال في وصف من امتزج القرآن بلحمه ودمه حاكيًا عن نفسه: إني عندما
أسمع القرآن أو أتلوه أحسب أني في زمن الوحي، وأن الرسول - صلى الله تعالى
عليه وسلم - ينطق به كما أنزله عليه أو نزل به عليه جبريل عليه السلام. اهـ
وبهذا امتاز الأستاذ الإمام -رحمه الله تعالى- على الأقران إن كان له أقران.
إن الله تعالى قد أوجد بالقرآن أعظم انقلاب في البشر بتأثيره في أنفس العرب إذ
جعلهم بعد أميتهم أساتيذ الأمم وسادت العجم وما فقد المسلمون هدايتهم إلا لجهلهم
بأسرار لغته لذلك يهاجمه أعداؤه الملاحدة والمستعمرون من طريق لغته فليعلم
المسلمون هذا وليحرصوا على حفظ دينهم بحفظ لغتهم وممارسة آدابها وأسرار
بلاغتها، ولتكن غاية هذا كله فهم القرآن كما كان يفهمه سلفنا الصالح
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة
... ... ... ... ... ... ... ... ربيع الأول سنة ١٣٤٥
تنبيه
كتاب إعجاز القرآن والبلاغة النبوية جزء ضخم تبلغ صفحاته ٣٦٩ صفحة
وثمن النسخة منه غير مجلدة عشرون قرشًا ما عدا أجرة البريد.
وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.