للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مهاتما غاندي


الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

إن المنكشفات الحديثة قد أثبتت بأن الإنسان الصحيح التام الصحة - وهو
الذي لم يفسد دمه بكثرة الحرارة والذي غذاؤه جيد صحي- لا يتأثر حالا بِسُم الثعبان
وأن تأثيره يكون سريعًا وخطرًا في جسم من أفسد دمه بالخمر أو الغذاء الرديء،
وقد توسع في هذا المعنى أحد الأطباء حتى قال (إن دم الرجل الذي لا يأكل الملح
وما شاكله بل يقتصر على تناول الثمار وحدها يبقى دمه نظيفًا نظيفًا، حتى إنه لا
يؤثر فيه أي نوع من السم تأثيرًا ما) إني ما جربت هذا الأمر تجربة كافية حتى
أجزم بصحته؛ لأن الرجل الذي يترك الملح وأمثاله من الأشياء سنة أو سنتين فقط
لا يمكن أن يقال: إنه وصل إلى ذلك الحد من الصيانة والمناعة؛ لأن الدم الذي قد
فسد وتسمم بعمل رديء دام سنين كثيرة لا يتأتى رده إلى حالته المعتدلة من الطهارة
في مدة وجيزة.
لقد ثبت بالتجارب أن الإنسان يتأثر بالسم إذا كان في حالة الغضب، أو
الخوف أسرع بكثير من تأثره إذا كان في حالته الاعتيادية كل منا يعرف كيف
يزيد الخوف والغضب دقات القلب في الحالة الاعتيادية وكلما كثرت دورة الدم في
الشرايين يزداد تولد الحرارة كثرة، ولكن الحرارة التي تتولد من الانفعالات الخبيثة
ليست صحية بل مضرة للغاية وليس الغضب إلا نوعًا من الحمَّى فأحسن ترياق
لنهش الثعبان هو استعمال الغذاء الصحي المعتدل، وتطهير المخ من نوازع الشر
كالغضب والخوف واجتناب توسيع المجال للذعر والرعب والثبات والثقة التامة
بالقوة الواقية وضبط النفس والقوى مع الاعتماد على الله والإيمان التام بأن أنفسنا
في يده سبحانه وبأن المدة الوجيزة من الحياة التي قدرها لنا لا يمكن بحال من
الأحوال أن ينقصها أحد، أو يزيدها هذه هي صفات الحياة الطاهرة المقدسة.
إن الدكتور (فيتزسومان) seaman - fitz مدير متحف
Elizabeth port (ثغر أو مرفأ أليصابات) قد أنفق قسطًا كبيرًا من حياته في
تعرف أحوال الحيات ودرس طبيعتها وخواصّها وهو يعد حجة كبيرة في النهش
وعلاجه وهو يقول لنا في بيان نتيجة تجاربه العديدة التي لا تحصى (إن أكثر
ميتات النهش المزعومة هي في الحقيقة نتيجة للخوف والمعالجات الخاطئة التي
يستعملها المتطببون) .
يجب أن نتذكر دائمًا أن بعض الثعابين ليست سامة، وأن نهش السام منها
ليس فيه خطر مباشر على أن هذه الثعابين لا تجد دائمًا فرصة لإفراغ سمها في
جسم الملدوغ وقت النهش، ولذلك ينبغي ألا نجزع إذا نهشنا ثعبان سام مادام العلاج
السهل جدًّا متيسرًا ويمكن أن نستعمله بأنفسنا بدون استعانة بأحد وهو:
يجب أن يربط ما فوق محل النهش مباشرة ربطًا جيدًا بعصابة تشد شدًّا تامًّا
بإدخال قلم الرصاص أو عود آخر وتُزوى به لئلا يصعد السم من طريق العروق ثم
يجب أن يشق الجرح شقًّا قدر نصف قيراط في العمق برأس سكين مرهف ليتمكن
الدم من الخروج بكثرة ثم يملأ بمسحوق أصهب اللون أسود أحمر يباع في الأسواق
يسمى permanganate potassium، وإن لم يتيسر ذلك فيمص محل اللدغ
مصًّا جيدًا ويبصق الدم، وسواء كان الماص هو المصاب أو غيره فكله جائز؛ إلا
أنه لا يجوز أن يكون الماص في فمه جرح لئلا يسري إليه السم إن هذا العلاج
يستعمل خلال سبع دقائق من وقوع الحادثة أي قبل أن يجد السم وقتًا للصعود
والانتشار في الجسم، وإن الدكتور الألماني السابق الذكر الذي أخصي في العلاج
الترابي يدعي كما مر أنه عالج النهش بدفن المنهوش في حفرة جديدة بالتراب وإني
وإن كنت ما جربت التراب في النهش ولكني أعتقد بدون شك نفعه بتجربتي إياه في
حوادث أخرى. وبعد استعمال permanganate potassium أو مص الدم
يجب أن تستعمل لبخة طينية سميكة بقدر نصف قيراط وكبيرة تكفي لتغطية المحل
المنهوش وما حوله تماما يجب أن تبقى في كل بيت كمية من التراب المطحون
المصفى جيداً في صفيحة معدة لاستعمال اللبخة ويعرض التراب دائمًا للشمس
والهواء ويحافظ عليه من الرطوبة كذلك يجب أن تبقى العصابات الصالحة لذلك من
القماش مهيأة لتستعمل عند الحاجة حالاً إن هذه الأشياء تكون نافعة لا في النهش فقط
بل في حوادث كثيرة أخرى.
إذا فَقَدَ المنهوش شعوره أو ظهر أن التنفس قد انقطع فعملية التنفس الصناعي
التي قد ذكرت في شأن الغريق تستعمل هنا أيضًا وكذلك الماء الساخن أو بالأولى
المغلي فيه القرنفل وقشر شجرة الغار؛ فإنه نافع جدًّا لاستعادة الشعور ويجب أن
يبقى المنهوش في الهواء الطلق، ولكن إن ظهر أن الجسم أخذ يبرد فتستعمل
لتدفئته قنينات الماء الساخن، أو يدلك الجسم بقطعة من الفلالين المبلولة بالماء
الساخن المعصورة لتوليد الحرارة.
***
لسع العقرب
يقول المثل السائر عندنا (لا يبتلي الله أحدًا بوجع لدغ العقرب) فهذا يظهر
شدة الوجع والحقيقة أن هذا الوجع أشد من نهش الحية، ولكنا لا نخاف منه كثيرًا
لأنه أقل خطرًا منه بكثير لا شك، كما قال الدكتور (مور) moor: إن الرجل
الطاهر الدم تمامًا ينبغي أن يكون خوفه قليلا من إبرة العقرب؛ لأنه لا يتأذى بها إلا
قليلاً.
إن علاج اللسع سهل يجب أن يشق الموضع الملدوغ برأس سكين حاد
ويمتص الدم مصًّا. إن عصابة صغيرة تشد بقوة فوق المكان الملدوغ لتمنع السم من
الصعود واللبخة الطينية تخفف الوجع حالاً.
نصح بعض الكتاب بربط خرقة سميكة مبلولة بمزيج من الخل والماء في
نسبة واحدة فوق الموضع الملدوغ، أو يبقى هذا المكان وما حوله مغموسًا في ماء
الملح ولكن اللبخة الطينية أحسن علاج، ويمكن أن يجربها بنفسه كل من قدر عليه
أن تلدغه العقرب يجب أن تكون اللبخة سميكة جدًّا، حتى إن الرطلين من التراب
أيضًا لا يعدان كثيرًا. إذا كان اللدغ في الإصبع مثلا فاللبخة تستعمل إلى المرفق
وإن إبقاء اليد مغموسة لمدة في طين رخو في إناء كبير نظيف يخفف الوجع أيضًا.
إن لدغ أم أربعة وأربعين وغيرها من الحشرات يجب أن يعالج بعلاج العقرب نفسه
***
الباب الحادي عشر
الخاتمة
لقد فرغت من كل ما أردت أن أقوله في موضوع الصحة. والآن أريد أن
أقول لقرائي قبل أن أودعهم كلمة في زيادة البيان لغرضي من كتابة هذه الصحائف
لقد كررت نفسي أثناء كتابتي هذا السؤال: وهو لماذا أكتب أنا هذا الكتاب دون
سائر الناس؟ ، هل هناك مبرر لرجل مثلي لم يتعلم الطب ولم يتقن - كما لا يخفى
-المسائل التي جاءت في المباحث أن يحاول تأليف هذا الكتاب؟ إن عذري في ذلك
هو أن علم الطب نفسه مبني على تجارب وعلم ناقص وأكثره تخرص محض.
وهذا الكتاب على كل حال ساقني إليه أطهر الأسباب وأقدسها.
إني لم أبذل جهدي في بيان المعالجات للأمراض مثل ما بذلت لبيان طرق
الوقاية منها، وإن قليلا من التأمل يثبت أن الاحتياط وتوقي المرض أمر سهل
بالنسبة (إلى تشخيص الأمراض ومعالجتها) ، وهو لا يتطلب علمًا خاصًّا، وإن
كان العمل بهذه الأصول ليس بهين بلا ريب. كان غرضنا أن نبين اتحاد الأصول
والعلاج لجميع الأمراض ليعرف الناس معالجة أنفسهم بأنفسهم إذا داهمتهم الأمراض
كما يحصل كثيرًا مع تنبه كبير لمراعاة أصول الصحة.
وهنا يرد سؤال: هل الصحة الجيدة ضرورية إلى هذا الحد حتى يهتم لها هذا
الاهتمام الكبير؟ إن سيرتنا المعاشية تثبت أننا لا نقيم للصحة وزنًا كبيرًا، ولكنا إن
كنا نرى الصحة التمتع والتلذذ بالشهوات أو لنفتخر بحسن جسمنا ونعده غاية من
حيث هو هو، فأحسن بكثير في هذه الحالة أن نشوه أجسامنا بلحم رديء بالسمن
المفرط وما شاكله من المشوهات والمفسدات له.
إن الأديان كلها متفقة على عد الهيكل الإنساني مسكنًا لله سبحانه وتعالى. إن
الرب قد وهبنا الجسم لنستعمله في طاعته ونعبده به عز وجل عبادة خالصة لوجهه
ولذلك وجب أن نحافظ على طهارته؛ وأن لا نتركه عرضة للرجس ظاهرًا ولا
باطنًا لنرجع به إذا جاءت ساعة الرجوع إلى موهبه سبحانه في نفس الحالة التي
أخذناه فيها إذا نحن وفينا بشروط المعاهدة لرضاء الرب؛ فهو بلا ريب يجازينا
ويجعلنا الوارثين لدار البقاء.
إن أجسام سائر المخلوقات الحية قد وهبت القدرة، وأعطيت آلات الإحساس
كالبصر والسمع والشم وغيرها من الحواس، ولكن الجسم الإنساني قد فضل عليها
جميعًا ولذلك نسميه نحن الهنود (بالمعطي لسائر الخيرات) إن الإنسان وحده
يستطيع عبادة الله بالعلم والفهم، وإذا خلت العبادة من الفهم فهي ليست بعبادة حقًّا
ومعلوم أن العبادة إذا بطلت يستحيل أن نجد المسرة الحقيقية لا يمكن أن نستخدم
الجسم في الخدمة حق الخدمة إلا إذا حسبناه معبدًا لله، وسخرناه لعبادته تعالى وإلا
فهو ليس بأشرف من ظرف وسخ من العظام واللحم والدم بل الهواء الذي يخرج منه
شر من السم. إن الأشياء التي تخرج من مسام الجسم وغيرها من السبل الدنسة
التي لا نستطيع أن نمسها بل لا نتصورها بدون اشمئزاز ولا بد للمحافظة عليها
نظيفة من جهد وعناء أفليس من العار الكبير أن نتعمد على الكذب والغش وأعمال
الفسق بل ما هو شر منها لأجل شهوات هذا الجسم الضعيف، أو ليس من الخزي
المخجل أن نهتم هذا الاهتمام الكبير للمحافظة على هذا الجسم المهين لنتمكن من
الدناءات والفسوق؟
إن هذه هي الحقيقة العارية لجسمنا، وإن أحسن الأشياء وأنفعها أيضًا قد
أودعت فيها قابلية لإظهار الشر والمصائب. ولولا ذلك لما سهل علينا أن نقدرها
حق قدرها في قابليتها للصلاح والخير، فنور الشمس الذي هو منبع للحياة والذي لا
نستطيع أن نعيش بدونه ساعة واحدة من الزمن يصلح لأن يحرق جميع الكائنات
ويجعلها رمادًا. ويقدر الملك أن ينفع رعاياه نفعًا عظيمًا كما يمكن أن يكون سببًا
للعذاب الأليم كذلك يمكن أن يكون الجسم خادمًا جيدًا ولكن إذا أصبح هو الحاكم
فقوته إلى الشر فوق كل حد.
إن بين العقل والشيطان حربًا عوانًا في أنفسنا للاستيلاء على جسمنا، فإن
غلب العقل يصبح الجسم آلة نافعة للخير. وإذا غلب الشيطان يصير مثارًا للشرور
والفسوق. وإن جهنم نفسها تكون خيرًا من الجسم المسخر للفسوق المملوء بالأوساخ
المثير للروائح الكريهة الذي تستعمل أرجله وأيديه في الأعمال القبيحة الذي يستعمل
فمه في أكل الأشياء التي يجب أن لا تؤكل ولسانه في التكلم بأمور يجب لأن لا
يتكلم بها، وعينيه في النظر إلى الأشياء التي يحرم النظر إليها، وأذنيه في سمع
الأشياء التي يحظر سماعها، وأنفه في شم الأشياء التي لا ينبغي شمها، وإذا كان لا
يوجد أحد يختار النار على الجنة، فالعجب كل العجب أن حسبنا الجسم الذي جعلناه
بأنفسنا أشر من جهنم حسنا كالجسم المطهر يستحق الجنة ما أقبح كبرنا وزهونا وما
أحط إدراكنا في هذا الأمر، إن الذين جعلوا مثواهم كالكفيف لا بد من أن يجنوا ثمر
حماقتهم وهكذا شأننا إذا كان جسمنا بالحقيقة في يد الشيطان ونحن نحسب أننا
نتمتع فيه بالسعادة الحقيقية، فيجب أن لا نلوم إلا أنفسنا إذا فاجأتنا العواقب المريعة
التي لا بد من وقوعها، والحاصل أن قصدنا في هذه الصحائف أن نعلم هذا الحق
الأكبر وهو أن الصحة التامة إنما يمكن نيلها بالعيشة الخاضعة للسنن الإلهية
والمضادة لنزغات الشيطان. إن المسرة الحقيقية مستحيلة بدون الصحة الحقيقية،
والصحة الحقيقية مستحيلة بدون أن يملك الإنسان نفسه ويتغلب على هواه، إن
الحواس كلها تخضع لنا بنفسها إذا تغلبنا على اللذة، إن من غلب على حواسه فقد
غلب على الدنيا كلها، وأصبح جزءًا من الله تعالى لا يمكننا أن نعرف (راما)
بقراءة (رمائن) ، أو (كرشنا) بقراءة (غيتا) ، أو (الله) بقراءة القرآن، أو
(المسيح) بقراءة الإنجيل، بل الطريقة الوحيدة لمعرفة هؤلاء المقدسين هي إيجاد أخلاق طاهرة عالية، وإن الأخلاق ملكات يطبعها في النفس العمل الصالح، والعمل
الصالح مبني على الإخلاص؛ فالإخلاص إذن هو المنبع والأساس الحقيقي لجميع
الأشياء الكبيرة الحسنة فإذن البحث بدون خوف وتردد عن المثل الأعلى (الإخلاص)
و (الصدق) هو مفتاح الباب الموصل للصحة الحقة كما هو مفتاح لكل شيء غيرها،
وإني إن نجحت مهما كان مقدار نجاحي قليلاً. في بيان هذه الحقيقة الكبرى لقرائي
فأكون قد فزت بغيتي من تحرير هذه الصفحات. كان الفراغ من الترجمة في ١٨
سبتمبر سنة ١٩٢٤م.
((يتبع بمقال تالٍ))