للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي


الطحال والكبد.. هل هما دمان؟

ذكر الفقهاء أن الدم حرام إلا الطحال والكبد، فإنهما يحل أكلهما وإن كانا من
الدم. فهل هما من الدم حقيقة حتى يحتاج الفقهاء إلى استثنائهما من حكمه؟ نظن أن
ذلك بعيد لغة وتشريحًا وقبل إثبات ذلك نرى أنه لا بد من الكلام على الحديث الذي
ورد في سنن ابن ماجه وأوقع الفقهاء في هذا الخطأ اللغوي التشريحي لنبين قيمته
كحديث.
حديث ابن ماجه
قال ابن ماجه في باب الكبد والطحال: حدثنا أبو مصعب حدثنا عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد
والطحال) وقال في باب صيد الحيتان والجراد: حدثنا أبو مصعب عن عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: (أُحلت لنا ميتتان الحوت والجراد) .
درجة الحديث
قال البيجوري في حاشيته على ابن قاسم: إن سند هذا الحديث ضعيف
وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر، وقال: حكمه حكم المرفوع. ولذلك قال في
المجموع الصحيح: إن ابن عمر هو القائل: (أحلت لنا ميتتان ... إلخ) . وإنه
يكون بهذه الصيغة مرفوعًا.
وسبب ضعف سند هذا الحديث أن فيه عبد الرحمن بن زيد الذي ضعفه رجال
الحديث وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم حدثك أبوك عن أبيه، أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلف المقام ركعتين
قال نعم وذكر رجل لمالك حديثًا، فقال: من حدثك به؟ فذكر إسنادًا منقطعًا. فقال:
اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوح عليه السلام
فمثل هذا الرجل (عبد الرحمن بن زيد) الذي زعم أن سفينة نوح طافت بالبيت ما
كان للفقهاء أن يجروا وراء حديثه السابق الذي جعل فيه الكبد والطحال من الدم
مخالفًا بذلك لغة العرب وعلم تشريح الأعضاء كما خالف بحديثه عن سفينة نوح
حكم التاريخ وبديهة العقل.
الدم في اللغة
جاء في كتاب قطر المحيط للبستاني أن الدم سائل أحمر يسري في عروق
الحيوان.
(الكبد والطحال في اللغة)
جاء في لسان العرب أن الكبد لحمة سوداء في البطن. وأن الطحال لحمة
سوداء عريضة في البطن لازقة بالجنب الأيسر. فالدم في اللغة من الأخلاط والكبد
والطحال من اللحم ولا يوجد عاقل يتوهم أنهما من الدم حتى نحتاج إلى استثنائهما
من حرمة أكله.
(الدم في علم التشريح)
جاء في دائرة معارف البستاني أن الدم سائل لزج قليلاً محتوٍ على كريات
جامدة لا تحصى ولا تُرى إلا بالنظارات المكبرة. وأنه ليس في الجسم سائل مركب
من مواد مختلفة مثله.
(الكبد والطحال في علم التشريح)
جاء في قانون ابن سينا أن الكبد لحم أحمر كأنه دم لكنه جامد، وهي خالية
عن ليف العصب ... إلخ، وأن الطحال عضو مستطيل لساني متصل بالمعدة من
يسارها إلى خلف يجذب السوداء بعنق متصل بتعقيد الكبد ... إلخ.
فقد اتفق علم التشريح مع اللغة أن الكبد والطحال ليسا من الدم وليس للفقهاء
دليل علي أنهما دمان إلا رواية ذلك الشيخ الضعيف عبد الرحمن بن زيد ومثله لا
يحتج بروايته المخالفة لما ثبت في اللغة، وعلم التشريح ولبداهة العقل التي لا
يسوغ فيها مثل ذلك.
وقد يقال: إن جعل الكبد والطحال من الدم في هذا الحديث المزعوم ليس علي
سبيل الحقيقة، وإنما الكلام فيه جار على التشبيه فنقول: إن القلب وأعضاء كثيرة
من الجسم تشبه الدم أيضًا، فلو كان الكلام جاريًا على التشبيه لَذَكَرَ مع الكبد
والطحال سائر ما يشبه الدم من الأعضاء على أن أسلوب الكلام بعيد عن التشبيه
والمحرم في القرآن هو الدم الحقيقي لا ما يشبهه فلا وجه لاستثناء ذلك منه؛ ولذا لم
يفهم الفقهاء الحديث إلا على وجه الحقيقة، وحكموا بأن الكبد دم متجمد ولم يذكروا
شيئًا في الطحال؛ لأن المخالفة فيه أصرح فما أحرانا أن نزيل مثل هذا من كتب
الفقه إنصافا للحقيقة والعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي
... ... ... ... ... ... ... المدرس بالجامع الأحمدي
(المنار)
حديث الميتتين والدمين رواه الشافعي، وأحمد، وابن ماجه، والدارقطني من
طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعًا، وعبد الرحمن
ضعيف متروك، وقال أحمد: حديثه هذا منكر، ورفعه أيضًا أخواه عبد الله وأسامة
وقد ضعف الثلاثة ابن معين، وعليه الجمهور. قال الحافظ ابن حجر: تابعهم
شخص ثالث أضعف منهم وهو أبو هاشم كثير بن عبد الله الأبلي، ورواه المسور بن
الصلت من حديث أبي سعيد، والمسور كذاب، ورواه الدارقطني من طريق
سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم موقوفًا وقال وهو أصح، أو قال صوب.
وصحح الموقوف أبو زرعة وأبو حاتم لأن سليمان ثقة عند الجمهور ورواه
عن زيد دون أولاده الضعفاء. وسليمان لم يسلم من مقال فقد قال عثمان بن أبي
شيبة: لا بأس به وليسممن يثعتمد حديثه. وقد قال الحافظ في التلخيص: إن لمثل
هذا الموقوقوف حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا وحرم علينا، كقوله:
أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، أي ولهذا أخذ الفقهاء به وإن لم يصح رفعه، أقول فإذا
سلمنا لهم هذا ولم نعتد بما ذكرنا من الطعن في سليمان فإنما نأخذ بمعناه من حل
الأربعة ولا يمكننا أن نجزم بأن التعبير بالدمين من قول ابن عمر أو من قول زيد،
وحل الكبد والطحال لا يتوقف على هذه الرواية، فإنهما من جنس اللحم كغيرهما
من أجزاء الحيوان وكانوا يأكلونها وقد حصر نص القرآن المحرمات في الميتة والدم
المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به. والمسفوح السائل المهراق وليسا
منه لغة ولا عرفًا ففي كتب اللغة التعبير عن كل منهما بأنه لحمة صفتها كذا
وكذا، وعندي أن التعبير عنهما بالدمين لما يتخللهما من الدم الكثير، وقد نص
الفقهاء عن العفو عما يتخلل اللحم من دم قليل، فلعل مراد ابن عمر أنه أحل لنا ما
يتخلل الكبد والطحال من الدم وإن كان كثيرًا لتعذر إزالته أو لأنه لا يبلغ أن يكون دمًا
مسفوحًا. فلا حاجة إلى القول بأنهما دم متجمد فمن المعلوم بالقطع أنهما لم يكونا دمًا
عبيطًا سائلاً ثم جمد، بل تكونا في الحيوان بقدرة الله تعالى كتكون غيرهما من
الأعضاء لوظائف اقتضتها الحكمة الإلهية، وإن كانت وظيفة الطحال أخفى من
وظيفة الكبد عند الأطباء، والله أعلم.