للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة القول في مسألة الجسد
الذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام

ذكرنا في الجزء الماضي خلاصة في المسألة من أقوال أشهر مفسري القرآن
المجيد الذين طبعت كتبهم واستنار بها العالم في فهمه وهي صريحة فيما كتبناه في
بعض فتاوينا المختصرة من غير بحث ولا مراجعة.
وما ذكروه من مفاسد الروايات المأثورة في تدخل الشيطان في أمر ملك
سليمان ظاهر وفيها ما لم يذكروه أيضًا من مخالفة القرآن والعقل والتاريخ ولا محل
لبسطه هنا وإنما محله تفسير الآيات الواردة في ملك سليمان وهو ما وعدنا بتحقيقه
فيه إذا شاء الله تعالى وأنسأ لنا في الأجل وإنما أذكر القارئ فيه بما ورد من الآيات
الناطقة بأن الله تعالى لم يجعل للشيطان أدنى سلطان على عباده المخلصين وإنما
سلطانه على من اتبعه من الغاوين والكافرين وهذا السلطان عليهم هو سلطان
الإغواء والوسوسة لا التصرف في الملك والملك (بضم الميم وكسرها) والتمثل
بصور الملوك والحكام وإدارة أمور الأمم. وقد وردت هذه الآيات في سياق خلق
آدم وإبليس واستعداد جنس كل منهما فهي بيان لسنة الله التكوينية في خلق الجنسين
قال تعالى في سورة الحجر بعد ذكر خلقهم بالتفصيل: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ
عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ} (الحجر: ٣٩-٤٢) وفي سورة النحل والتي بعدها {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل: ٩٩-١٠٠) فهل يقول أخونا الشيخ عبد الرحمن الجمجموني: إن نبي
الله سليمان عليه السلام من عباد الله المخلصين الذين ليس للشيطان عليهم أدنى
سلطان من أي نوع كان من أنواع السلطان كما يقتضيه نص الكتاب المنزل بصيغة
النكرة في سياق النفي وبصيغة الإثبات بعد النفي بالاستثناء الذي هو معيار العموم
وهي أقوى صيغ الحصر ثم بالحصر بينما التي هي لما صار معلوما أو شأنه أن
يكون معلومًا مقررًا كما أفاده الإمام عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز. أم
يقول أخونا وناصحنا المذكور: إن نبي الله سليمان من أتباع الشيطان الغاوين الذين
يتولونه والذين هم به مشركون؟ أي يجعلونه شريكًا لله تبارك وتعالى في التصرف
في عباده؟ ، لا شك في أن أخانا المذكور يقول بالأول، وإذًا يجب عليه، أن يرد
جميع هذه الروايات الإسرائيلية المضلة كما ردها محققو المفسرين كالرازي
والبيضاوي والطوفي وأبو حيان التوحيدي وابن كثير وأبو السعود العمادي والألوسي
وأن يجزم بما جزم به أبو حيان من أن قصة الشيطان في استيلائه علي
ملك سليمان من أوضاع اليهود والزنادقة وما صرح به الحافظ ابن كثير من أنها
(كلها من الإسرائيليات) وإن رواها بعض مفسري السلف فإن ابن كثير صرح
بروايتها عنهم وقال مع ذلك: (وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب) .
ثم ليعلم أن شر رواية هذه الإسرائيليات، أو أشدهم تلبيسًا وخداعًا للمسلمين
هذان الرجلان اللذان ترك زراعته للإطالة في الدفاع عنهما لتلك العلة الواهية التي
ذكرها من قبل: كعب الأحبار ووهب بن منبه فلا تجد خرافة دخلت في كتب
التفسير والتاريخ الإسلامي من أمور الخلق والتكوين والأنبياء وأقوامهم والفتن
والساعة والآخرة إلا وهي منهما مضرب المثل (في كل واد أثر من ثعلبة) .
ولا يهولنه انخداع بعض الصحابة والتابعين بما بثاه هما وغيرهما من هذه
الأخبار فإن تصديق الكاذب لا يسلم منه أحد من البشر ولا المعصومين من الرسل
فإن العصمة إنما تتعلق بتبليغ الرسالة والعمل بها، فالرسل معصومون من الكذب
ومن الخطأ في التبليغ ومن العمل بما ينافي ما جاءوا به من التشريع؛ لأن هذا ينافي
القدوة ويخل بإقامة الحجة، ولكن الرسول إذا صدق الكاذب في أمر يتعلق به وبعمله
أو بمصلحة الأمة فإن الله تعالى يُبين له ذلك ومنه ما كان من بعض أزواجه الذي
نزل فيه أول سورة التحريم وعلم من قوله تعالى فيها: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ
نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التحريم: ٣) أنه لم يعلم المكيدة بملكة العصمة بل بوحي
الله تعالى بعد وقوعها. ومنه قوله تعالى فيما كان كذب عليه بعض المنافقين الذين
اعتذروا عن الخروج معه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ
لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: ٤٣) وأما ما نقله عن
الزرقاني من رأيه أن ما روي عن الصحابي مما لا مجال للرأي فيه موقوفًا عليه؛
فإن له حكم المرفوع (وإن احتمل أخذ الصحابي له عن أهل الكتاب تحسينًا للظن به)
فهو رأي باطل مردود عليه لا نتخذه قاعدة وأصلاً في ديننا، وما علله به ظاهر
البطلان إذ لا محل هنا لتحسين الظن ولا لمقابله فمن المعتاد المعهود من طباع
البشر أن يصدقوا كل خبر لا يظهر لهم دليل على تهمة قائله فيه ولا على بطلانه
في نفسه فإذا صدق بعض الصحابة كعب الأحبار في بعض مفترياته التي كان
يوهمهم أنه أخذها من التوراة أو غيرها من كتب أنبياء بني إسرائيل وهو من
أحبارهم أو في غير ذلك فلا يستلزم هذا إساءة الظن فيهم وإذا كانت هذه الخرافات
الإسرائيلية مما يصدر عن الإسلام ويجري الألسنة والأقلام بالطعن فيه مع العلم
بأنها مروية عمن لا تعد أقوالهم ولا آراؤهم نصوصًا دينية ولا أدلة شرعية وإن
كانوا من أفراد علماء السلف كما هو واقع بالفعل فكيف يكون موقفنا مع هؤلاء
الطاعنين فيه من الملاحدة ودعاة الأديان المعادين للإسلام والمسلمين من زنادقة
المسلمين أيضًا؛ إذا قلنا: إن كل تلك الترّهات والخرافات الإسرائيلية إذا كان بعض
رواتها من الصحابة فإنها تنظم في سلك الأحاديث المرفوعة إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - ويجب الإيمان بها؟ إلا أن هذا باب واسع في الطعن في الإسلام
والصد عنه لو فتحه علينا من هو أكبر من الزرقاني من مقلدة القرون الوسطي
المظلمة لأغلقناه في وجهه، وقلنا له: إن علماء الأصول قد اتفقوا على أن طروء
الاحتمال في المرفوع من وقائع الأحوال يكسوها ثوب الإجمال فيسقط بها الاستدلال
وهذا الاحتمال أولى من ذاك أن يمنع عند الموقوف مرفوعًا وجعله دليلا شرعيًّا.
والصواب في هذا المقام قلب الموضوع وهو أن الأثر الموقوف وكذا بعض
المرفوع الذي لم يصرح الصحابي فيه بالسماع وهو ممن كان يروي عن كعب
الأحبار وأمثاله هذه الإسرائيليات معلولين باحتمال كونهما من الإسرائيليات إذا كانا
من موضوعها ومتنهما مخالفًا لبعض النصوص الثابتة كآيات القرآن في نفي سلطان
الشيطان على عباد الله تعالى أو معارضًا لغير ذلك من أصول الشرع أو فروعه
الثابتة أو لسنن الله في خلقه أو لغير ذلك من الأدلة القطعية، ويرى الجمجموني
وغيره شيئًا من تفصيل هذا البحث في تفسير آية الساعة من هذا الجزء وما بعده.
***
الملاحظة الثانية
مسألة بلعام بن باعورا
أنكر المنتقد علينا رفض ما روي عن بعض رواة التفاسير المأثورة في تعيين
الرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بأنه (بلعام بن باعورا) بأنه مروي عن
بعض أجلاء الصحابة (الذين شهدوا الوحي والتنزيل) وأيده بما نقله عن الزرقاني
وأجبنا عنه آنفًا ثم أنكر علينا قولنا: إن (ابن جرير) شيخ المفسرين لم يعتد بهذه
الروايات، وقال: إنه راجع ابن جرير فلم يهتد فيه إلى (عبارة يؤخذ منها عدم
اعتداده بهذه الأحاديث) ، وإنما عبرنا عنها بالأحاديث بناء على ما ذكره من عد
موقوفات الصحابة في حكم الأحاديث المرفوعة، وإن احتمل أنها من الإسرائيليات.
ونقول في جوابه: إننا لم نتقول عليه ولكنه هو لم يفهم عبارته على صراحتها
في عدم الاعتداد بكون الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها هو بلعام وهو هو نفسه قد
روي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعن بعض
كمجاهد وعكرمة أنه بلعام، وكان أعلم منه ومن الحاكم النيسابوري ومن الزرقاني
بقيمة الصحابة من شهود الوحي، وبما قال العلماء في الحديث الموقوف وهو من
أئمتهم.. ونحن ندله على هذه العبارة لاشتغال فكره بالزراعة وهي في الصفحة ٨٤
من الجزء التاسع من تفسيره المطبوع بالمطبعة الأميرية. قال بعد سوق الروايات
في أن الرجل المبهم هو بلعام والخلاف في كونه من بني إسرائيل أو من اليمن
والروايات في كونه أمية بن أبى الصلت ما نصه:
(قال أبو جعفر) : والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره
آمرًا نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه
حججه وأدلته وهي الآيات وقد دللنا على أن معنى الآيات الأدلة والأعلام فيما مضى
بما أغنى عن إعادته وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك بلعام وجائز أن يكون
أمية. كذل الآيات إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على
بعض أنبيائه فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية وعناه بها فجائز أن يكون الذي كان
أتيها بلعام وجائز أن يكون أمية؛ لأن أمية كان فيما يقال قد قرأ من كتب أهل الكتاب
وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبي الله - صلى الله عليه وسلم -
أن نتلو على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوة فغير جائز أن
يكون معنيًّا به أمية لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئًا من ذلك، ولا خبر
بأي ذلك المراد، وأي الرجلين المعني يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أن
ذلك المعني به من أي، فالصواب أن يقال فيه ما قال الله ويقر بظاهر التنزيل على
ماجاء به الوحي من الله) ، انتهى بحروفه.
فهذا الكلام صريح في أن ابن جرير قال: (إنه لا خبر بأي ذلك المراد وأي
الرجلين المعني يوجب الحجة) أي لا يوجد حديث نبوي يحتج به في تعيين الرجل
الذي آتاه الله آياته، ثم قال: ولا في العقل دلالة على ذلك أي: وإذا انتفى الدليلان
النقلي والعقلي (فالصواب أن يقال فيه ما قال الله، ويقر بظاهر التنزيل على ما
جاء به الوحي من الله) ، وهذا عين ما اخترناه واعتمدناه في تفسيرنا للآية، وإن
كنا كتبناه في زمان ومكان لا نملك فيهما شيئًا من كتب التفسير، وبهذا يعلم أخونا
الجمجوني مكانه من النقد الذي تكلفه وترك زراعته لأجله، ويعلم أننا كرمناه بنشر
نقده على تفاهته وتهوكه فيه أولا وآخرا، وقد لامنا بعض أهل العلم والفهم على
نشر انتقاده الأول وسيشتدون في لومنا على نشر هذا أيضًا وهو آخر ما ننشر له من
هذا القبيل، على أننا توسلنا به لكشف الشبهة عنه وعن أمثاله في مسألة الأحاديث
الموقوفة والإسرائيليات السخيفة وقد سنحت لنا بعد البدء بنشر نقده التعليق عليه
مناسبة أخرى لبيان الحق في هذه المسألة وهي الروايات في أشراط الساعة فاكتفينا
بما كتبنا عما كنا ننوي أن نطيل به ونسأله تعالى أن يرينا الحق حقًّا ويوفقنا لاتباعه
ويرينا الباطل باطلاً ويحفظنا منه قولاً وعملاً واعتقادًا.