للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الثامن والعشرين
وفيها بيان علاقتنا بالإمام عبد العزيز
ملك الحجاز وسلطان نجد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم
خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الصالحين المصلحين، والتابعين لهم في ذلك إلى
يوم الدين.
أما بعد: فقد تم للمنار سبعة وعشرون مُجلَّدًا صدرت في مدى ٣٠ سنة
هجرية (توافق ٢٩ سنة شمسية) إذ عجزنا عن إصداره في كل شهر من سني
الحرب العظمى، وما تلاها من سِنِي الغلاء والعسرة، التي تضاعفت فيها النفقات،
وكثرت أفراد الفصيلة العامة، وتكونت الأسرة الخاصة، ونضبت الموارد التي
كانت تسِحُّ من الخارج، وشحَّت الموارد التي كانت تنبجس في الداخل، ولم يتم لنا
لمُّ الشعث إلا منذ عامين ونصف عام، وتلاه بفضل الله تنظيم العمل بأحسن مما كان
منذ كان، وما أضعنا على المشتركين شيئًا بهذا الإدغام؛ لأننا نتقاضى قيمة
الاشتراك بحساب الأجزاء لا بحساب الأعوام؛ ولكن من لا وفاء لهم قد اتخذوا
عجزنا عن إصدار المنار في كل شهر من سني العسرة حجةً على هضم حقنا،
ونحن ما زلنا نكلهم إلى وجدانهم، واستفتاء قلوبهم، وهداية إيمانهم، وحسابهم على
الله تعالى، فهو يقضى بالحق بيننا وبينهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
على أننا نرجو أن يوفقنا الله تعالى في القابل لاستدراك ما نقص من المجلدات
عن عدد السنين إلى أن يتفقا في العدد، وأن يعيننا على إكمال النظام في العمل،
والزيادة من الفوائد في العلم، وأن يوفق قراء المنار لمساعدتنا على ذلك بحسن
الوفاء، ولا يحقق معنى الاشتراك إلا تعجيل الأداء، وقد اقترح علينا بعضهم أن
نزيد في أبوابه مباحث في الآداب، والتاريخ، وبعض الفنون الحديثة، ومنهم من
يريد بذلك ترويجه، وكثرة سواد المشركين فيه، ورأيهم هذا صحيح، وإننا على
علمنا بصحته كنا نختار أن تملأ صفحات المنار بما لا تكاد الأمة تجده في غيره من
الصحف إلا قليلاً، ونحن نستفتي جمهور القراء في ذلك، ونعمل بما يراه الأكثرون
أقوى حجةً، وأقوم قيلاً، وإن كانت فائدته المالية أقل، وقد بينا في فاتحة السنة
الأولى أننا فيما اخترناه من الخطة الإصلاحية لا نرضي إلا القليل من الناس {وَإِن
تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: ١١٦) لو أنشأنا
المنار لأجل الكسب؛ لما اخترنا هذه الخطة، أو لما اقتصرنا عليها.
لو كنا نعمل للمال؛ لاتبعنا أهواء الجماهير في اختيار الهزل على الجد،
وإيثار الإفساد على الإصلاح، وترجيح أهواء الناس على هداية كتاب الله، ولهو
الحديث على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصور القِيَانِ والراقصات،
والبغايا، والممثلات، ومن وصفهن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كوشف به
من أنباء الغيب بالكاسيات العاريات، المائلات المميلات، وما دون ذلك من
المسليات، وصور الحيوانات والحشرات، وغرائب الآلات والمخترعات التي
يصورها أهلها لأغراض عليمة صناعية، وتجارية، ونصورها للَّهو، والتسلية.
أو لو كنا نعمل للمال؛ لصانعنا رجال المال من الأفراد والجماعات،
كالأحزاب والحكومات، ولوجد من الحجج علينا في ذلك ما لا نستطيع رده، ولا
كتمانه، ونحمد الله تعالى أننا لم نسلك طريقًا في الإصلاح الخاص بالحكام الباذلين،
والأمراء والملوك والسلاطين، وجماعات الدينيين والسياسيين، إلا كان نقصًا في
دنيانا، وكمالاً في شرفنا وديننا، وانتهى الجماهير فيه إلى رأينا، وفي مقدمتهم
الذين كانوا ينكرونه علينا، تلك سيرتنا في نقد الحكومة الحميدية، ثم في التشنيع
على الجمعية الاتحادية، وخليفتها الحكومة الكمالية، وفي جهاد الملك حسين بن
على , وأولاده، وفي إنكارنا على متعصبي المذاهب من الشيوخ الجامدين، ورجال
الطرق الخرافيين.
نعم إنه قد عرضت في هذه الأيام شبهة علينا في تأييدنا للحكومة السعودية،
والطريقة الوهابية، فتحدث بعض الذين لا يعقلون أنه يوجد في البشر أحد ينصر
عقيدة دينية، أو يؤيد طريقة إصلاحية إلا لأجل منفعة شخصية، بأننا نأخذ من ابن
السعود أجرًا على تأييدنا لحكومته، والدفع عن قومه، وشيعته، ثم تجلى هذا
التصور في صورة الواقع، وظهر هذا الرأي في مظهر الرواية، فصدقه من رآه
من الناس معقولاً، حتى إن بعض كبار علماء الأزهر قال لي في مجلس من مجالس
الخواص في هذه الأيام: يقال: إنك أخذت من ابن السعود خمسة آلاف جنيه - فقال
أحد كبار الوجهاء الحاضرين: بل أنا سمعت في أوربة أنه أخذ منه عشرة آلاف
جنيه، وليس هذا بكثير، فإن فلاناً خدم ابن سعود وقومه منذ سنين خدمة لا تكثر
هذه المكافأة عليها، فما كان أحد يسمع في هذا الرجل، ولا في هؤلاء القوم كلمة
خير قبل مقالاته الرنانة في مناره، وفي بعض الجرائد اليومية.
***
الوهابية ودعوة المنار إلى مذهب السلف:
أقول: لو صح ما تخيله هؤلاء معقولاً؛ فخالوه أمرًا مفعولاً، فأحدثوا فيه قالاً
وقيلاً - وما هو بصحيح -؛ لما صح أن يجعل حجة على أن المنار أنشئ لجمع
المال، لا يبالي أجمعه من حرام أو حلال، وإنما كان يعد مساعدة على خطة دينية
قديمة في خدمة الإسلام وهدايته، كما يدعو إلى فنون العصر، وسنن الخلق في
سياسته، وقوته، ولم يكن في ذلك الوقت ملك، ولا سلطان نتهم بالطمع في
مساعدته، بل لم نكن يومئذ نعلم أن الوهابية يعتصمون بمذهب السلف، بل كنا
نصدق الدعاية التركية التي أذيعت في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث عشر
للهجرة النبوية، وجددها السلطان عبد الحميد منذ أوائل القرن الرابع عشر لأسباب
سياسية من أن الوهابية فرقة مبتدعة معادية للسنة وأهلها.
وأول رجل سمعت منه أن هؤلاء الوهابية قوم مصلحون أرادوا إعادة هداية
الإسلام إلى عهدها الأول، وأنه كان يرجى أن يجددوا مجد الإسلام والعرب، هو
محمد مسعود (بك) المصري الكاتب المؤلف المشهور، ثم قرأت ما كتبه في
نشأتهم مؤرخ عصر ظهورهم الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري، ثم ما كتبه
محمود فهمي المهندس المصري في تاريخه (البحر الزاخر) ، وصاحب
(الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى) ، ثم ما كتبه الشيخ عبد الباسط
الفاخوري مفتي بيروت في (تاريخ الإسلام) له، كما أنه أتيح لي الاطلاع في
أثناء ذلك على كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات للشيخ الإمام المجدد الشيخ
محمد عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم على غيره من كتبهم بالتدريج، وأطلعت
شيخنا الأستاذ الإمام على كتاب التوحيد وكشف الشبهات، فأثنى عليهما، ورأيته
موافقًا لرأي محمد مسعود، وأنه لم تظلم طائفة من المسلمين في التاريخ بمثل ما
ظلم به هؤلاء القوم، على كثرة طعن أعوان الدول، والمذاهب بعضهم في بعض.
وكنت أسمع من والدي قبل هجرتي إلى مصر شيئًا مما افتراه على الوهابية
أحمد زيني دحلان، وأمثاله من صنائع شرفاء مكة، والترك، وثناءً على محمد
علي باشا الذي أخرجهم من الحجاز بالدين والتقوى، وأنه كنس الكعبة المعظمة،
ومرغ لحيته بها، أو بكناستها.
وفي شهر صفر سنة ١٣٢٠ احتفل ديوان الأوقاف العامة بمرور مائة عام
على تأسيس محمد على باشا للإمارة المصرية، واحتفلت به مشيخة الأزهر في
الجامع الأزهر؛ فانتقدت ذلك في المنار من حيث صرف أموال الأوقاف الإسلامية،
وتزيين المساجد بذكر أمراء الدنيا، وسلاطينها، والأوقاف إنما وقفت؛ للتقرب
إلى الله تعالى، والمساجد إنما أُنشِأَت؛ لذكره تعالى، وعبادته.
وذكرت يومئذ حرب محمد علي للوهابية، واعتقاد عموم المسلمين الجاهلين
بالتاريخ أنها كانت خدمة للإسلام، واعتقاد الخواص العارفين أنها جناية عليه،
وبينت فيما كتبته ما كنت وقفت عليه من حقيقة أمر الوهابيين في اتباعهم للسلف،
واعتصامهم بالسنة، وسبب الطعن فيهم - وكل ما كتبته في هذه السنين الأخيرة
يدور حوله لا يزيد في بيان حقيقتهم عليه، فأنا أدافع عن الوهابية، وأثني عليهم
منذ ربع قرن.
كتبت ذلك يومئذ لوجه الله، وخدمة للإسلام، وأنا لا آمن إيذاء أمير البلاد لي
على ذلك - وقد فعل بقدر الإمكان في ذلك الزمان - وما كنت أرجو أن يكون لي
تجاه هذا الإيذاء أدنى نفع من أحد من الوهابيين، ولا أدري أن لهم أميرًا يحسن أن
أرسل إليه ما كتبت عنهم، وقد صار للوهابيين حزب كبير في القطر المصري من
نجباء علماء الأزهر، وغيره من المعاهد الدينية، وغيرها بإرشاد المنار لا تشوبه
أدني شائبة دنيوية.
***
علاقتنا بصاحب نجد وسببها:
بعد هذا التاريخ ببضع سنين بدأت المكاتبة بيني، وبين الأمير عبد العزيز بن
السعود في مسألة العرب، وجزيرة العرب , ووجوب الولاء والتحالف بين أمرائها؛
لأجل حفظها من تدخل الأجانب، وإعلاء شأنها بالعمران، والثروة، والقوة - كما
كاتبت في ذلك نفسه الإمام يحيى بن حميد الدين، والسيد محمد علي الإدريسي
(رحمه الله تعالى) ، وأرسلت رسلاً إلى كل منهم، وأنفقت في هذه السبيل مالاً
يعد كثيرًا عليَّ، وأذكر أن في أول كتبي إلى ابن السعود إنكارًا شديدًا على شيء
بلغني عنه عاتبني عليه بأنه لا يقبل مثله من غيري، وإنما قبله مني لِمَا بلغه من
خدمي للسُنَّةِ، واعتقاده أنه صدر عن إخلاص الله تعالى، وتَحَرٍّ لخدمة الإسلام
والعرب.
أجابني كل واحد من هؤلاء الأئمة باستحسان ما دعوتهم إليه، إلا أن الإمام
يحيى استثنى الاتفاق مع جاره الإدريسي مُعَلِّلاً ذلك بأنه كان قد عقد معه اتفاقًا؛
فغدر، (وحالف أعداء الله الطليان) ، وأما الإمام عبد العزيز السعود، فرغب إليَّ
أن أرسل إليه رسولاً بصيرًا عارفًا؛ ليشرح له هذا المشروع من الوجهة الشرعية
والسياسية؛ لإقناع أهل الحل، والعقد من قومه به - وقد أرسلت إليه رسولاً،
وحمَّلتُهُ صندوقًا من الكتب الدينية، وغيرها هدية للإمام، وفي أثناء ذلك استَعَرَت
نار الحرب العامة الكبرى، فتعذَّر وصول الرسول إلى نجد، وأخذ منه صندوق
الكتب في (بمبي) من ثغور الهند، أُخِذَ لأجل تفتيشه، ثم لم يعرف عنه شيء،
ولعلهم أحرقوه.
ثم قضت الحرب الكبرى بانقطاع المراسلة بيني، وبين أمراء العرب
المذكورين، وكان من أحداثها دخول أمير مكة الشريف الحسين بن علي في حلف
البريطانيين، وكنت قد بلغته مشروع الاتفاق الحلفي بين أئمة الجزيرة بمشافهة ولده
الشريف عبد الله في مصر أطلع طِلعَه فيه، وقد استحسنه، ووعد بإقناع والده به،
وكان من عواقبها أن صار حسين ملكًا سماه الإنكليز، وأحلافهم ملك الحجاز،
وسمى نفسه ملك العرب، وقد أظهرنا له الولاء؛ لأجل إقناعه بإتمام مشروع
الاتفاق الحلفي مع سائر الأمراء، فلما تعذر ذلك، وسار في الحجاز تلك السيرة
السوءى اضطررت إلى مقاومته بما علمه القراء، وغير القراء، وكان قد جدد
الدعوى إلى الطعن في دين الوهابية، وتنحل لنفسه دعوى الإمامة الرافضية
الباطنية، وأقامها في مقام التشريع الذي يراه إرثًا للهاشمية العلوية، فأريناه أن بني
عمه من أنصار السنة فيهم رماح، وكلنا له الصاع عدة أصواع.
ثم إنني عدت بعد الحرب إلى دعوة إمامي اليمن , ونجد إلى الولاء، وأفتيت
في أواخر سنة ١٣٤١ بوجوب إنقاذ الحجاز من إلحاد حسين بالظلم فيه، وجعله
قطرًا حرًّا حياديًّا بضمان العالم الإسلامي كله، وكتبت في ذلك مقالاً طويلاً نشر في
بعض الجرائد اليومية، وفي المنار (ج ٨ م٢٤) بينت فيه أن المخاطب بالقيام
بهذا الواجب أولاً وبالذات الحكومات الإسلامية، وأن أولاها بذلك أقربها إلى الحجاز،
ومن جُمَلِهِ: (إن كلاًّ من إمام اليمن وسلطان نجد قادر على إنقاذ الحجاز من هذا
الرجل، فكيف إذا اجتمعا) ، ثم بينت سبب امتناع كل منهما، وأنه إن لم تفعل
الحكومات ذلك؛ فالواجب على العالم الإسلامي أن يسعى له بتأليف جمعية إسلامية
وضعنا لها نظامًا بمساعدة بعض الأصدقاء، ونشرناه في المنار.
ولم أكتف بالنشر بل سعيت سعيًا سريًّا لحمل الإمامين يحيى، وعبد العزيز
على الاشتراك والتعاون على ذلك، وإلا فليقم به أحدهما على انفراد.
ثم تصدى الثاني لأداء هذه الفريضة للأسباب الإسلامية العامة، والأسباب
الخاصة بنجد التي نشرها في العالم، ونقلناها في المنار، فوجب علينا تأييده فيها،
وهل يعقل أن نفتيه بافتراض هذا العمل عليه حتى إذا ما اصْطَلَى بناره، وشرع
يجاهد في سبيله بماله ورجاله، وانبرى المبتدعون، والمفسدون للطعن فيه وفي
قومه، نترك لهم الحبال على الغوارب، ولا نقوم بقسطنا من الجهاد الواجب، جهاد
القلم واللسان، وإقامة الحجة والبرهان؟ !
إنني لم أفضل ابن السعود على غيره من أمراء العرب في شيء من ذلك
السعي العام للعرب ولجزيرة العرب، ولا من هذا السعي الخاص بالحجاز
والإسلام، وقد كان رجائي في غيره أولاً أقوى من رجائي فيه، ثم كان ثنائي على
الإمام يحيى حميد الدين أكبر من ثنائي عليه، حتى قالت بعض الجرائد المصرية في
أثناء الخوض في مسألة الخلافة: إن صاحب المنار يدعو إلى الإمام يحيى، ويسعى
لتوسيد منصب الخلافة إليه. على أنني كنت أعتقد أن الإمام عبد العزيز ابن السعود
أرجى لخدمة الإسلام، وإعلاء شأن العرب إذا هو خرج من عزلته، وترك القبوع
في ربوع إمارته، وإنما كنت أشك في خروجه منها، كما كنت أشك في ميل الإمام
يحيى إلى تجاوز حدود اليمن إلا إلى عسير التي يعدها هو منها.
كان من عناية الله تعالى في ابن السعود أن استعمله وحده في إنقاذ حرمه،
وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ممن سمى نفسه المنقذ , وقضى الله أمرًا كان
مفعولاً، فلم يستجب لنا غيره من أمراء المسلمين وملوكهم، ولا من جماعاتهم،
ودهمائهم إلا أننا أسسنا الجمعية بمصر من رجال مختارين من أولي الكفاءة،
والكفاية علمًا، وعملاً، وهمةً، فنقَّحُوا نظامها في مجالسَ كثيرةٍ عقدوها لذلك،
وبتنا ننتظر سنوح الفرصة للعمل، فكفانا الله تعالى ذلك بهذا الرجل العظيم الذي
أنقذ الحجاز، وأمنه تأمينًا لم يسبق له نظير إلا في صدر الإسلام، ثم ألف فيه
المؤتمر الإسلامي العام، وقد كان هذا المؤتمر أهم مقاصد جمعيتنا هذه، فلم نحتج
إلى استيكاف الأكف لجمع المال له، ولا لدعوة رجال الخافقين إليه، فقد أنفق هو
بسخائه، وجوده الواسع على إنشاء المؤتمر، وضيافة رجاله هم ومن كان مع
بعضهم من أهل وخدم منذ وصلوا إلى الحجاز إلى أن خرجوا منه ما لم يكن يتيسر
لنا جمع بعضه من العالم الإسلامي إلا في عدة سنين.
كيف لا أنصر ابن السعود، وأناضل خصومه من المبتدعين والخرافيين، وقد
فعل كل هذا، ويُرجَى أن يفعل ما هو أتم منه وأكمل؟ ! وهو ما أفنيت شبابي،
وكهولتي في الدعوة إليه، فإنني أدعو إلى مؤتمر إسلامي يعقد في مكة من زهاء
ثلاثين سنة، وهو من وسائل الإصلاح الذي أدعو إليه من التوحيد، وإقامة السنن،
وتقويض هياكل الوثنية والبدع، وتجديد إصلاح الإسلام، ومجد العرب، وقد أيقنا
بطول الاختبار، وبما ورد في دلائل النبوة من الأخبار، أن هذا الإصلاح والتجديد
لا يأتي إلا من الحجاز، وأن كل ما قمنا به من الدعوة إليهما لم يكن إلا تمهيدًا لتأييد
العالم الإسلامي لهما، فقد صح في الحديث: إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا
كما بدأ، وإنه يَأْرِزُ إلى الحجاز - وفي رواية في الصحيحين - إلى المدينة كما
تَأْرِزُ الحية إلى جحرها، وإنه يعقل بين المسجدين معقل الوعول من رؤوس الجبال.
إنني أشهد الله تعالى، وكل من يطلع على قولي هذا أنني أشعر في سريرتي،
وما يكن قلبي بتقصيرٍ في الثناء على هذا الرجل بالجهر بكل ما أعتقده، وما أرى
فيه من المصلحة، والنصيحة للمسلمين، وكم طالبتني نفسي في مجالسه العامة
الحافلة، التي حضرتها بعد صلوات الجمع بمكة المكرمة بإلقاء خطاب في شكره،
والثناء عليه كما فعل أمامي بعض علماء الهند، وفصحاء المصريين وغيرهم،
ولكنني كنت أستحي أن أقف مواقفهم، وإن كنت أجدر بها منهم، فقد أقمت بمكة
زهاء ثلاثة أشهر، ولم يسمع خطابتي، وربما كنت أقدر على البيان، وأعلم بما
يحسن بيانه بالحق من كل من سمعت، إذا كان من الدعوى والغرور المذمومين أن
أقول أكثر من ذلك، وما أبرئ نفسي من كراهة الاتهام بالتملق والتزلف أن يَعْلَقَ
ببعض النفوس الصغيرة، وأنا آمن أن يلوح في جانب من جوانب نفسه الكبيرة.
وجملة القول: إن مجلدات المنار السبعة والعشرين برهان على أنه لا يعقل أن
يكون ما كتبته في تأييد ابن السعود، والدفاع عنه لغرض منفعة دنيوية؛ لأنه عين
ما كنت أكتبه قبل قيامه بما نصرته فيه، وقبل علمي بوجوده أيضًا، وقد لقيت فيه
من الأذى ما يجهل أقرب الناس مني كل ظاهره، وباطنه عند الله تعالى وحده.
اضطررت إلى بيان هذا كله في فاتحة هذا المجلد تذكيرًا لقرائه بفصل من
فصول تاريخ المنار في الإصلاح على السنن الذي نتناوبه منذ أعوام، وتقوية
لعزيمة إخواني أنصار الكتاب والسنة، على أنني لا أريد بهذا التنصل، والتبرؤ
مما قيل بغير حق من أن مساعدة هذا الإمام، أو غيره من ملوك المسلمين،
وأمرائهم إيانا على علمنا في خدمة الملة، والأمة مما يقبح منهم فعله، أو يحرم
علينا قبوله، بل نحن من أحق الناس به، ولكن الإخلاص لله تعالى، ونزاهة
النفس، وتحليها بأدب الشرع، تحول دون استشرافنا له، بله السعي له، أو
التعريض به، وقد قال شيخ الصوفية الأكبر في مال السلاطين الذي يعدون من
شروط طريقتهم التنزه عنه:
هو عنده للمسلمين أمانة ... فإذا حباك فخذه إنك صاحبه
لا أقول هذا تعريضًا بطلب المساعدة من أحد، وإنما افترصت هذه المناسبة
للرد على جريدة من جرائد القاهرة التي جعلت هجيراها الطعن في علماء الدين،
واستكثار كل ما يأخذونه من ريع الأوقاف الخيرية مع العلم بأن ألوف الجنيهات من
أموال هذه الأوقاف ينفق في أعمال غير شرعية، فقد ذكرت هذه الجريدة أن شيخ
الأزهر قد أنفق زهاء ثلاثة آلاف جنيه في أعمال مؤتمر الخلافة كان منها لفلان من
العلماء كذا، ولفلان كذا من أول هذه الحركة (كما كان لفضيلة الأستاذ الورع الشيخ
رشيد رضا صاحب المنار ثلاثون جنيهًا حتى في الوقت الذي كان فيه بالمدنية
المنورة عند ابن السعود) .
أقول فيما يعننيي: إنني لم أكن في أول هذه الحركة كما قال، ولم أكن آخذ
شيئًا أيام وجودي في (مكة المكرمة) كما توهم، وإنما بعض المؤسسين لمؤتمر
الخلافة من العلماء كانوا قد دعوني إلى مشاركتهم فيه، فأبيت، ثم أقنعني بعضهم
بأنه يمكنني فيه خدمة الإسلام؛ فقبلت.
وقد دعيت بعد الدخول في مجلس المؤتمر إلى المساعدة على إنشاء مجلة له
تحريرًا، أو تصحيحًا، ونشرًا.
وهو ما تعد هذه المكافأة عليه نزرًا، ولولا أن قيل لي: إن هذه خدمة إسلامية
نعدها تبرعًا منك؛ لما رضيت بها، وقد كنت أعطى منذ بضع عشرة سنة ثلاثة
جنيهات من إدارة (الجريدة) مكافأة على كل مقالة من مقالات كلفني إياها مديرها،
وكنت أكتب المقالة منها في ساعة واحدة، ولم يكن لدى من الأعمال في ذلك الوقت
ربع ما لدي الآن منها، فهل يستكثر علي الآن زميلي صاحب البلاغ الأغر ٣٠
جنيهًا في الشهر في مثل ما ذكرت؟
هذا، وإننا ندعو أهل العلم المخلصين إلى الكتابة إلينا بما يرون أننا أخطأنا فيه
من أمور الدين، أو مصلحة الأمة كما هو دأبنا في كل عام - {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: ٢) .
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا