للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى

يتشابه مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فيما فشا فيهما من الجهل والبدع
والخرافات التي أضعفت جميع شعوب الأمة، ويتشابهان أيضا فيما يشعر به العقلاء
السليمو الفطرة من الحاجة إلى الإصلاح الديني الذي يتوقف عليه الإصلاح
الاجتماعي والسياسي، مع بقاء هداية الإسلام جامعة لهذه الشعوب مميزة، كالفصل
المنطقي المميز للنوع دون أنواع جنسه القريب.
ولدينا من مواد المجلد الثامن والعشرين من المنار رسالتان طويلتان في
موضوع الإصلاح في المغرب الأقصى: إحداهما لأستاذ من شيوخه، والأخرى
لسائح تغلغل في تلك البلاد، وهما ممن يرجع بهداية الدين إلى مذهب السلف
الصالح في العصر الأول، ويُعَوِّل في المدنية وعزة الأمة على أحدث فنون العصر،
ونظمه الملائمة لتلك الهداية، وإننا ننشرهما بالتدريج للتعاون بين الملوين،
وتبادل الشعور الذي تخفق له قلوب الأمة في الخافقين. ونبدأ بالأولى وهي:
نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم
لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي
مفتي الديار المصرية سابقًا
بسم الله الرحمن الرحيم
مُنِيَ المسلمون في جميع بقاع الأرض بفئة ضالة تقمصت الإسلام على
ظهرها، وأما قلوبها فقد ملئت عليه حقدًا وحسدًا حملاها على النكاية به، والعمل على
نقضه من أساسه، ولولا أن الإسلام قوي بنفسه وبتعاليمه، ولولا أنه نور من نور الله
لا ينطفئ أبدًا ولو كره الملحدون الحاقدون، لكانت المصيبة أدهى وأمر، ولكن العاقبة
للمسلمين، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: ١٩) وقال:
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل
عمران: ٨٥) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى
يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) أخرجه البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة في
كتاب الاعتصام في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي
ظاهرين على الحق يقاتلون) ؛ (وهم أهل العلم) .
وقد اختارت هذه الفئة الضالة في كل عصر من أول الإسلام إلى يومنا هذا
أقوامًا لنشر دعوتها من أعظم الأبالسة، وأبلغ الخطباء المصاقيع، وأجرئهم على
ذلك، فلبسوا لبوس الإسلام، ولابسوا قادة المسلمين من ملوك وعلماء، وتظاهروا
بالزهد ومحبة الإٍسلام والغيرة عليه وعلى أهله، وصاروا يزيدون فيه ما ليس منه،
ويستظهرون على ذلك برواية أحاديث بعضها صحيح؛ ليستدرجوا الناس إلى قبول
الموضوع، ويتظاهرون بأن ذلك من تعظيم الإسلام، فاستحوذوا بذلك على قلوب
العامة لأنهم تبع للخاصة، حتى كاد زمام العامة يصير في يدهم، فصارت لهم بذلك
مكانة ومنزلة عند الملوك وكبار الدولة، وصاروا يتداخلون في كل شيء حتى في
نصب الوزراء والقضاة، وما أدراك ما هذه المكيدة! وصاروا يحلون ويحرمون
للملوك، ويفتونهم بما فيه ضررهم وضرر الإسلام، كل ذلك تحت ستار الزهد
والتقشف، ومكيدة ما يشيعه أتباعهم من الكرامات الكاذبة الباردة إلخ.
وطوائف منهم خالطت عامة الناس، ودونت لهم أقاويل، وأوراقًا كلها
مشعوذة، وتقوُّل على الدين، ومحاربة له، وهدم لبنيانه، وما قصة الحلاَّج
بمجهولة.
وبعد خراب البصرة، استفاق العلماء من الغفلة وتجردوا للرد عليهم، كابن
حزم والغزالي وأبي بكر بن العربي المعافري وابن تيمية وابن القيم والإمام محمد
بن عبد الوهاب في نجد وغيرهم، إلى أن قذف الله بنور من عنده بنابغة الدهر
(السيد) جمال الدين الأفغاني فنبه الأمة الإسلامية من رقادها الطويل، وصدع
فيهم بأمر القرآن، كأنه المعني بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر:
٩٤) وجاهد في الله حق جهاده، ونشر علومه وهديه في الهند والفرس والأفغان
ومصر والآستانة، وخلف رحمه الله تلاميذ نبغاء في هذه الأقطار:
أعظمهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والعلامة السيد رشيد رضا صاحب
المنار، وسعد زغلول باشا، وغيرهم كثير.
فقامت هذه الفئة القليلة بنشر محاسن الإسلام، وببيان أصوله وسهولته،
وموافقته لكل زمان ومكان، وبالرد على المبتدعة والملحدة والجاحدة؛ فغلبت فئات
كثيرة بإذن الله؛ لأنها صبرت والله مع الصابرين، قال جل علاه: {إِن تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: ٧) وما مناظرة جمال الدين الأفغاني
لرينان ببعيدة، وأقرب منها رد الشيخ محمد عبده على هانوتو، وردود صاحب
المنار على الجامدين والملحدين في كل عدد من أعداد المنار معروفة، وفي مقالات
سعد باشا وخطبه وردوده القاهرة على دهاقين السياسة أكبر شاهد على ما قلنا.
في تلك الأيام المحلولكة كان علماء الدين في الأزهر، وأيا صوفيا والجامع
الأموي، والزيتونة ملازمين لظلهم، يخافون من خياله رغمًا عما نفخ فيهم الشيخ
محمد عبده من كهرباء روحه الطاهرة، وعما قرعهم به ووعظهم بالحجج الساطعة،
والآيات القاطعة، إلى أن قام صاحب كتاب الإسلام وأصول والحكم فضرب على
وجهه صفيحة من نحاس.
ولم يشهد التاريخ لها شيئًا في العالمين، فغضب لذلك أسد الإسلام ومؤسس
مناره السيد رشيد رضا، وصفعه صفعة قضت على أمثاله، ونبه مشيخة الأزهر
لعمل الواجب ضد ضلاله، وإذا غضب رشيد رضا رأيت العلماء العاملين كلهم
غضابًا، فقام حينئذ علماء الأزهر بالأمر خير قيام، وأسقطوه من زمرة علماء
المسلمين.
حينئذٍ تنبه الأزهريون فرأوا أنفسهم مسوقين بحبال الملحدين إلى حيث ألقت
رحلها أم قشعم، فتحفزوا للوثوب إلى الميدان وبرزوا للمعركة أسودًا شم العرانين
منشدين:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
وأول من برز للميدان وبز، وحاز قصب السبق وأحرز، الأستاذ الشيخ محمد
بخيت دام بقاؤه، فقد شحذ سيفه البتار (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) ، وضرب
الملحدين ضربة قاضية أسقطتهم من صياصيهم التي كانت موضوعة على شفا
جرف هار من آراء الضالين الإباحيين الذين يستدرجون الأمة الإسلامية؛ ليزيغوها
عن دينها الذي هو أعظم حصن واقف للضالين بالمرصاد، فإذا أزاحوها عنه،
وتقمصت عقائد الإباحيين، وفرطت في أثمن سلوة لها، وابتليت بالإباحة المطلقة،
واستحلت الربا والخمر والزنا، ورفعت الحجاب عن فتياتها، واختلط الحابل
بالنابل، هنالك يجد الماليون مفاتيح الاستيلاء على المسلمين واستهواء قلوبهم،
زيادة على ملك رقابهم وأموالهم، وهناك يصبح المسلمون لا مفر لهم من الاستخذاء
للماليين، واستخدامهم في المعامل الجهنمية، وجر الأثقال، ومزاولة الأشغال الشاقة
ليلاً ونهارًا بأجور زهيدة لا يستطيعون معها أن يأكلوا الخبز والزيت، ولا يستطعيون
أن يلبسوا إلا ما يفضل عن الأورباويين من صدار وقميص وسراويل وسخة متلاشية،
ونعال بالية متعفنة، تكسو أكثر لابسيها أمراض متنوعة تذهب بأكثرهم إلى القبور،
دع عنك الحفاة والعراة والجائعين الذين هم أزيد من خمسين في المائة.
هنالك تغلق المدارس والمعاهد الدينية، وتملأ السجون والمارستانات، هناك
هناك.. إلخ، هذه نتيجة ما يدعو إليه الملحدون في مصر وغيرها.
فكان الواجب على قادة الملحدين أن يختبروا مقاصد سادتهم ومسخريهم وإلى
أي هوة يسوقونهم، وفي أي مجزرة يذبحونهم.
كان عليهم أن يتبينوا أحوال المسلمين في المستعمرات، ويبحثوا عن معايشهم
ومكاسبهم ومدارسهم ومصانعهم وصنائعهم ومتاجرهم، ثم بعد الدرس العميق
والبحث المتوالي يحكمون، فإذا وجدوا الماليين يعاملونهم معاملة جميلة، ويعلمونهم،
ويسهرون على مصالحهم كما يدعون؛ فلا بأس حينئذ بالميل إليهم كما يريد بعض
المتهاونين بالوطن.
أما والحالة على النقيض، وليس هناك إلا الفقر والجهل والإهانة والحرمان
والبؤس والشقاء، فيظهر بادئ بدء أن دعوة الملحدين لمواطنيهم إلى ما ذكر غش
وتدليس وخيانة، فتجب مقاومتهم بكل ما يمكن، ويجب الاستعداد لمحاربتهم
استعدادًا هائلاً تستحضر عدده من معامل الأزهر والمعاهد الدينية.
لذلك جاء كتاب (حقيقة الإسلام) في أشد أوقات الحاجة إليه، فأشبه النجدة
إلى المحارب الذي كاد ينهزم في المعركة النهائية الفاصلة؛ فانتصر به إلى غاية
الانتصار، وهزم جيوش الملحدين هزيمة شنعاء لا تقوم لهم بعدها قائمة.
وقد حوى حقائق الإسلام وبين أهم ما يحتاج إليه منها، بعبارة واضحة ليس
فيها تكلف ولا غموض، جلب المؤلف فيها الآيات، والأحاديث النبوية، ونصوص
الأصوليين المعتمدة، مذَيِّلاً ذلك بنقول المؤرخين، وأهل السير، وآراء فلاسفة
المسلمين المعتمدة، ولكون ذلك معروفًا عند المسلمين ومؤلفات الإسلام فيه كثيرة
جاءت عبارة الكتاب منسجمة غاية الانسجام، كأنما المؤلف يغرف من بحر فطلع
منه بِدُرَر نفيسة ينبغي - بل يتحتم - على كل مفكر أن يزين مكتبته به، ويتعين
على كل كاتب أو عالم أو فيلسوف أن ينير أفكاره بآرائه وآياته اللامعة.
... ... ... ... ... ... ... من مراكش (مسلم غيور)
للرسالة بقية وفيها تعقب لكتاب حقيقة الإسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))