للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سياسة الإنكليز في الشرق
وزعماء العرب

مذهبان في سياسة بريطانية في الشرق الأوسط - قرارات لجنة لويد جورج
- إنجلترة وابن السعود - تصرفات الملك حسين - الإدريسي وبريطانية -
شكاوى الحجاج إلى الدول الأوربية - الجزيرة العربية تهم العالم الإسلامي أجمع.
إن العلائق الودية بين الحكومة البريطانية والسلطان ابن السعود التي أنتجتها
مفاوضات السير جلبرت كلايتن في بحرا، والمعاهدات السلمية التي ارتبط بها إمام
اليمن يحيى مع نفس الحكومة لا بد أن يكون لها أثر حميد في تحسين سياسة
بريطانية العظمى في الشرق الأوسط؛ إذ إن هذه السياسة كانت ولا تزال حتى
يومنا هذا متقلبة، لا يعرف لها قرار نهائي، واتفاقات بحرا هذه ليست في عالم
السياسة بأمور غير معتادة، اتفق عليها لتحسين العلائق بين إنكلترة والبلاد
العربية.
إلا أن أنصار العرب في (دوننغ ستريت) جعلوها نصب أعينهم؛ لما رأوا
لها من الأهمية، وكانت مدار حديثهم في المدة الأخيرة مع السير جلبرت كلايتن
السكرتير المدني السابق لحكومة فلسطين الذي لم يكن مسئولاً إلا عن إيصال
المفاوضات الأخيرة على علاتها إلى حكومته، وغير خافٍ أن معاهدات ذات تأثير في
حركة الاستقلال العربي، وفي توحيد السياسة الإنكليزية في الشرق الأوسط - هي
ولا شك من الوجهة التاريخية ذات بال، وأي ذات بال! ولذا يجدر بنا أن نبحث في
شأنها بعض البحث:
لما حملت إنكلترا على عاتقها مسئولية إدارة شئون إمبراطورية الشرق
الأوسط؛ تضاربت الآراء العامة، وآراء الساسة الحذاق، خاصة فيما ستؤول إليه
نتيجة هذا الأمر، ووقف في المضمار فريقان: فأما الفريق الأول، فكان من
المحافظين أرباب الفلسفة السياسية، وكان الكولونيل (لورنس) و (المس
جزتروديل) ألسنتهم الناطقة، فهؤلاء احتجوا بأن سياسة الإلحاق السرية أو
الجهرية لا توافق ولا بوجه من الوجوه روح الحماية، أو ما تمليه سياسة الإنكليز
الحق، وأخذوا يبثون آراءهم بكل الوسائل، ويطلبون استقلالاً تامًّا للممالك
والإمارات العربية التي أسست حديثًا.
وكانوا يعدون أنفسهم مسئولين بذواتهم عما كان يحدث في البلاد العربية على
يد بريطانية العظمى، ويؤنبون أولي الأيدي التي كانت عاملة آنئذ على سحب
العهود التي قطعوها للأمة العربية، وأما الفريق الثاني - وكان جله من الأحرار -
فاعتبروا ضمانة أية حماية من غير ضم البلاد المحمية رأسًا، أو بالواسطة إلى
الإمبراطورية البريطانية إنما هو تفريط في غير محله، وما هو إلا زيادة عبء
ثقيل إلى العبء البريطاني في آونة كان العالم فيها يئن من نتائج الحرب العظمى.
وظني أن كثيراً من المسائل الجوهرية البريطانية المدفونة في السجلات
السرية في وزارة الخارجية البريطانية ووزارة المستعمرات لم يطلع عليها الشعب،
ولن يطلع عليها إلا بعد أجيال عديدة إذ يظهرها المؤرخون.
وهذه المعجزة الإنكليزية التي تتعلق بالشئون العربية لا يسأل عنها إلا أنصار
العرب من الإنكليز ذوي الضمائر الحرة. واستدعي المفاوضون من العرب المرة
تلو الأخرى، ولكن لم يكن هنالك مفاوضات حقيقية، ولا تزال قصة استدعاء
الدكتور ناجي الأصيل السياسي السوري الذي مثل الملك حسينًا في بلاط سنت
جيمس تخدش مخيلة من يهمهم هذا الأمر.
فالعرب البسطاء هم الذين أوقعوا أنفسهم في أيدي من لا يعرفون للعهود معني،
ولما اعترف بسلالة الشريف حسين كالعائلة الوحيدة المالكة في عموم الأقطار
العربية؛ قامت الضجات والصرخات، وأصبح بعض الإنكليز يقولون: إن دولتهم
جازفت بأن راهنت على الحصان الذي لا يكسب الرهان، ولما انتخب فيصل -
أنجب أفراد هذه السلالة - للاستواء على عرش العراق رميت وزارة الخارجية
البريطانية بقصر النظر والتحزب، ولما أشار السير أوستين تشمبرلن على الملك
حسين الشيخ أن يغادر البلاد العربية إلى قبرص أيضًا هطلت الشكاوى التي يناقض
بعضها البعض مدرارًا.
دعنا الآن نعير التفاتة نحو الحقائق العارية من كل شائبة لنرى - إن أمكننا -
نتيجة الخطط التي رسمها رجال السياسة الذين يسمون أنفسهم أحرارًا:
في سنة ١٩٢١ قررت وزارة لويد جورج تشكيل لجنة وزارية (لتتعهد
بتأسيس الأقطار التي للإنكليز علاقة بها في الشرق الأدنى) ، وهذه اللجنة التي كان
يساعدها قواد القوات البحرية والحربية أتيح لها درس الحالة الإدارية والسياسية في
هذه البقاع، وكانت تستعين بنصائح من كان يحكم البلاد من العمال الإنكليز،
وأعني بهم: مندوبي فلسطين والعراق - السير هربوت صموئيل والسير برسي
كوكس - ومعتمدي عدن والبحرين.
واستطاعت هذه اللجنة بعد البحث الطويل، أن تصل إلى نتائج قدمتها
بصورة تقرير لوزارة الخارجية، ولكن مع الأسف لم تر الشمس هذا التقرير حتى
وقتنا هذا، بل خبئ في ظلمات صناديق الوزارة، مع أنه بلا شك أهم الأوراق
السياسية التي تبين مجرى الأمور في الشرق في الوقت الحاضر.
وهذه اللجنة عينت لجانًا ثانوية، وليس غرضنا هنا تعديد هذه اللجان، وعلى
كل؛ فكان غرض أحدها - وهي التي كان يرأسها سكرتير وزارة الخارجية وكان
يتألف أعضاؤها من ونستون تشرتشل والسير برسي كوكس والكولونل لورنس
والجنرال سكوت - أن تضع على بساط البحث أمورًا تتعلق بالسياسة البريطانية
الشرقية، وخصوصًا بما يتعلق بأمراء العرب، وملوكهم المسيطرين في شبه
الجزيرة العربية، وأول ما نظرت فيه هذه اللجنة هو: مسألة التقدمات المالية،
التي كانت تدفع لهؤلاء الزعماء استنادًا على أسس واهية، هذه اللجنة قررت بعد
البحث والتدقيق ما يأتي:
١- أن تدفع الإمبراطورية البريطانية لابن السعود مائة ألف ليرا سنويًّا.
٢- أن يدفع لفهد بك الهذال مائتان وأربعون ألف روبية.
٣- أن يدفع الملك حسين مائة ألف ليرا إنكليزية سنويًّا.
٤- أن يدفع للإدريسي اثنتا عشرة ألف ليرا سنويًّا.
وبنت اللجنة حكمها على الأمور الآتية:
ابن السعود أعظم يد عاملة في السياسة العربية، وذو الشخصية البارزة،
والذكاء المفرط عقد معاهدة مع الدولة البريطانية، ولم يخطر له يومًا ما أن يحل
عقد العلائق الودية بينه وبينها، مع أنه قادر على ذلك، وفي استطاعته أن يعرقل
مساعي الدولة البريطانية، ولا يكلفه ذلك أكثر من أن يأمر أتباعه بشن الغارة على
الجنوب الغربي من بلاد ما بين النهربن، كما أنه يمكنه أن يهاجم بخيله ورجله
الكويت وجبل شمر إن أوحت إليه إرادته بذلك، والإخوان - الفريق المجاهد من
أتباعه - دومًا يحثونه على مهاجمة جيرانه المسلمين، وقد حدثت مؤخرًا أربع
غزوات من هذا القبيل.
ولابن السعود تأثير في نفوس أتباعه الإخوان، وقد تمكن من أن يردهم عن
مهاجمة جيرانهم مرارًا، وذلك بفضل تصرفه بحكمة في التقدمة المالية التي تساوي
ما تجمعه حكومته من الضرائب، وقبيل أن تضمن هذه التقدمة المالية لابن السعود
يجب عليه أن يوافق على الشروط الآتية:
١- أن لا يهاجم العراق ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده.
٢- أن لا يهاجم الكويت ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده أيضًا.
٣- أن لا يهاجم الحجاز ولا يرسل حملات من أتباعه لمهاجمته.
وكانت التقدمة الأساسية لابن السعود ستين ألف ليرا إنكليزية، وأما الآن [١]
فازدادت حتى بلغت مائة ألف ليرا إنكليزية في السنة، ظنًّا من اللجنة أن هذه
الزيادة المالية تقوى نفوذ ابن السعود وتمكنه من أعناق أتباعه، وبذلك يتسنى له أن
يعمل على موافقة الإدارة البريطانية، وحثت اللجنة ابن السعود على إبقاء حبل
المودة متصلاً بينه وبين فيصل من جهة، وبينه وبين الملك حسين من جهة أخرى،
زد على ذلك أن اللجنة اعترفت بابن السعود سلطانًا على نجد، وأوصت من لهم
علاقة بالأمر أن يعترفوا به.
وفهد بك الهذال زعيم عشائر عنزة - التي على حدود ما بين النهرين إلى
الجهة الغربية من بغداد وكربلاء، وعلى ضفة الفرات الغربية - اعتادت حكومة
الهند أن تدفع له مقابل خدماته لها مائتي وأربعين ألف روبية، وغير خافٍ أن
الطريق الجوية الحاضرة التي تؤدي إلى فلسطين تمر بمنطقة مسافة مائتي ميل،
ولذا فلا مشاحة في أن مساعدته أمر لا بد منه، إن أرادت الحكومة البريطانية أن
تحافظ على سلامة سفنها البرية التي تمر بهذه المنطقة؛ لهذا قررت اللجنة إبقاء ما
كان على ما كان؛ أي: الاستمرار بدفع التقدمة المالية البالغة مائتين وأربعين ألف
روبية للزعيم المذكور.
أما الملك حسين فمع أنه أضعف من ابن السعود من الوجهة العسكرية، فهو
ولا شك حامي البلاد المقدسة، فمن مصلحة بريطانية أن تحافظ على ولائه،
وخصوصًا للعقيدة التي أظهرها للملأ تجاه ما قرر الحلفاء بشأن المقاطعات العربية
إن هو لم يذعن لقرار الحلفاء الجديد.
والآن فلا جدال أنه سيكون ثورة فتن وقلاقل في الحجاز ينتشر منها شرر
يشعل نيران ثورات في المناطق العربية التي تحت الحماية، ويعتقد العالم الإسلامي
أن لندن هي التي خلقته من العدم، فلذا تكون بريطانية العظمى هي الملومة، بل
المسؤولة إن أصبحت حالة الحجاج أسوأ مما كانت يوم كان بيد الأتراك عصا
السيادة في البلاد العربية.
وأما الشروط التي عرضت على الملك حسين مقابل ضمان هذه التقدمة
فتتخلص فيما يلي:
١- أن يصادق على معاهدة فرسايل ويصادق على المعاهدة التركية، ويوقعها.
٢- أن يعترف بالمعاهدات البريطانية مع ابن السعود والإدريسي، ويحترمها،
ويمتنع من عمل كل ما يمس حقوق المذكورين، كما أنه يتعهد بأن لا يعتدي
عليهما.
٣- أن يحسن حالة الحج، وخصوصًا أن يحافظ على الأمن العام، ويحترم
حقوق الحجاج، ويعتني اعتناءً خاصًّا بالأمور الصحية، ويعيد تأسيس المستشفيات
في جدة، كما أنه يتعهد بتحسين موارد المياه.
٤- أن يعترف بحقوق الرعايا الإنكليز في الحجاز، ويحافظ على مصالحهم.
٥- أن يرحب بقنصل إنكليزي ووكيل في جدة، وإن أبى ذلك فيرحب على
الأقل بوكيل بريطاني مسلم.
٦- أن يطهر البلاد المقدسة من الذين يسعون ضد المصالح الإنكليزية،
وينشرون الدعوة للجامعة الإسلامية (Infrique Pan-lslamic) .
٧- أن يمنع عائلة الشرفاء من الإتيان بأية حركة تهدد مصالح الفرنسيين، أو
بكلمة أخرى: أن يكبح جماح أتباعه من القبائل التى تقطن سورية عن القيام بأية
مظاهرة تمس مصالح البريطانيين ومصالح حلفائهم.
وكان المتوقع أن إنشاء حكومتي العراق وشرقي الأردن سوف ينال استحسان
الملك حسين، ويغريه بقبول نصائح البريطانيين كما فعل سابقًا.
ولكن الواقع ونفس الأمر كان خلاف ذلك، فلذا أنقصت التقدمة المالية حين
رجعت المياه إلى مجاريها، وتوافد الحجاج إلى البلاد المقدسة من كل فج عميق،
غير أن هذا لم يحجز الحجاز عن أن يقع في هاوية الإفلاس مرة أخرى.
وأما الإدريسي فكان أول حاكم عربي انضم إلى بريطانية العظمى أثناء
الحرب العالمية الكبرى، وبمعاهدة سنة ١٩١٧ تعهدت له بريطانية بمده بكل ما
يلزمه من عدد حربية، وأسلحة نارية أثناء الحرب وبعدها، وكذلك تعهدت له بأن
تؤويه إلى بلادها، وتحميه إن حدث له أمر يضطره إلى الجلاء عن وطنه، بل
تعهدت له أيضا أن تبذل جهدها لإرجاعه إلى مركزه الأول دون أن تدخل في أحكام
بلاده.
ومقابل هذه الضمانات ضمن الإدريسي للدولة حليفته امتيازات في بلاده،
وهكذا استطاعت بريطانية أن تمنع تدخل غيرها من الدول في بلاد عسير.
وكان الإدريسي على وفاق تام مع ابن السعود، مع أنه كانت هناك أمور
كادت تقطع حبل المودة بينهما، لولا أن تداركاها بحكمة عجيبة.
وفي ذلك الوقت كان الإدريسي عدو إمام صنعاء وخصمه الألد، وإمام صنعاء
هذا هو أمير يماني كان خاضعًا للواء التركي، ولكنه في هذه الآونة أعلن انفصاله عن
الباب العالي، واستقلاله عن كل يد أجنبية، فأخذت الأيدي البريطانية تسعى لتكسب
وده، ولكن غناه وقف عثرة في سبيل إغرائه بالمال.
غير أن الدسائس الإنكليزية لم تقف عند حدها، بل أخذت تقدم له مبلغ ألفي
ليرا إنكليزية في الشهر، إلا أن هذه الأموال لم تؤثر إلا بعض التأثير، ولم تأخذ من
نفس الإمام ما أخذت من نفس ابن السعود.
ولما تيقنت الأيدي البريطانية من ثبات الإمام على عقيدته نحو الأمم الأجنبية
رأت أن محافظتها على ولاء الإدريسي هي أقوى العوامل التي يمكنها الحصول
عليها لنشر سياستها في أنحاء الجزيرة؛ ولهذا قررت دفع ألف ليرا إنكليزية شهرية
للإدريسي لتعزز مركزه المالي على شرط محافظته على الولاء لإنكلترا، وعلى
شرط أن لا يضمن امتيازات في بلاده لغيرها من الدول.
نعم إن حسينًا نجح في تمثيل دوره لمدة ليست بالقليلة، وكان للنصائح
الإنكليزية، والأموال البريطانية اليد الطولى في رفع مستوى شهرته، ولكن مع
الأسف أقول: إن تلك الشهرة لم تك إلا طائفية، فهو لم يكتف بأن حسب نفسه
رأس الأمة العربية، وخليفة المسلمين فقط، بل تعدى ذلك إلى أن زعم أنه أكبر يد
عاملة في العالم الإسلامي أجمع، وقد جرب أن يجعل الناس يعتقدون بأنه يحكم
بحق إلهي لا يستطيع غير العزيز الحكيم أن يسلبه إياه، ولم يكن بُعْدُ نظر اللجنة
في شأن الحجاج المسلمين إلا ليزيد التعاسة شقاء، فهم وكلوا أمرهم إلى الحسين،
وتركوا إليه أمر الاهتمام بإصلاح شؤونهم، ويحزنني أن أقول: إنه هو وحكومته
تصرفوا في حجاج بيت الله الحرام من المسلمين كما يتصرف المرء بأملاكه، بل
إن الملك حسينًا نفسه عد الأماكن الإسلامية المقدسة ملكه الموروث عن آبائه وأجداده،
فهو مطلق التصرف فيه، وليس على وجه الأرض من ينازعه.
ولما تواردت التقارير التي تنذر بسوء طالع الحجاج المسلمين على رؤساء
الوزارات الأوربية من وكلائهم في جدة؛ اهتم هؤلاء الوكلاء بهذا الأمر، وأخذوا
يسعون لتسحين الأحوال متحدين.
ورسائل المستر بولارد المعتمد السياسي البريطاني في جدة مثلت شعور كل
الدول الأوربية تجاه معاملة الملك للحجاج - إذا استثنينا حكومة السوفيت الروسية
التي كان لها معتمد بخاري مسلم في مكة، وهذا كان يتخابر مع دولته رأسًا - ولم
تكن معاملة الملك حسين للبلاد الإسلامية التي تجاوره أحسن من معاملته للحجاج،
فكان يتغطرس عليهم، ويحتقرهم معتمدًا على مركزه، مُدِلاًّ بلقب: حامي بيت الله
الحرام، متكلاً على أمواله الوافرة، ويقال: إن الملك حسينًا جمع من الضرائب ما
ينيف على مليون ليرا ذهبية، هذا عدا الأراضي التي على الساحل الأفريقي بالبحر
الأحمر.
ولذا أخذ بغضه لفرنسا ولنجد يزداد شيئًا فشيئًا، وكان من حين إلى آخر
يسرد على أعوانه قصة إخراج ابنه فيصل من الشام، وينهي القصة بقوله: إن
هذه عداوة تاريخية لا أنساها، ولن أنسى اليوم الذي احتل فيه جنود الجنرال غورو
عاصمة ولدي.
وأما موقفه تجاه ابن السعود فكان موقف امرئ يغار على مصالح العراق
وشرقي الأردن لمآرب في نفسه؛ ولأن ولديه كانا ولا يزالان في هذين القطرين،
ولقد أبدى الملك حسين عاطفة شريفة نحو فلسطين.
بينا نرى الملك حسينًا على هذه الحالة نرى أن قدم ابن السعود أصبحت تزداد
رسوخًا يومًا بعد يوم، فأسس في البلاد أنظمة لجباية الضرائب، وساعده في توطيد
أحواله المالية مستشارون بعضهم إنكليز، والبعض الآخر فرنسيون [٢] وكان جراب
دراهم السلطان هو خزينة الأمة النجدية - بخلاف الملك الهاشمي - وكان ابن السعود
يسير بخطى واسعة نحو إدخال الإصلاحات، متحاشيًا في ذلك كل ما من شأنه أن
يمس المذهب الوهابي خيفة أن يثور عليه الرأي العام، فهذه الإصلاحات، وسوء
سمعة الملك حسين اشتغلت جنبًا إلى جنب في بث الدعوة لابن السعود في البلاد
الإسلامية، ولم يبق له من المعارضين إلا النزر القليل من سكان البلاد الإسلامية
البعيدة.
ولما أخذ عدد الوهابيين يزداد؛ شعر حماة البلاد المجاورة من الأوربيين
بالخطر المحدق، وخافوا انتشار سطوة ابن السعود، وخوفًا من أن تسري الدعوة
الوهابية إلى جوف سورية وفلسطين؛ اتخذت التدابير التي من شأنها منع انتشار
الدعوة الوهابية، وحظر على الوهابيين دخول هذه الأقطار [٣] .
ولا شك أن أحد العوامل التي قضت على آمال الهاشميين في البلاد العربية
كان احتلال الوهابيين للبلدين الإسلاميين المقدسين، وهما: مكة المكرمة والمدينة
المنورة، وعدا هذا، فإن سقوط هذين البلدين في أيدي القوات الوهابية فتح المجال
لابن السعود ليسعى في تحسين أحوال الحجاج، والبت في أمر الخلافة - فدعا إلى
مؤتمر إسلامي عام - ولفت نظر ابن السعود أمور داخلية كثيرة لم يكن ملك الحجاز
السابق ليأبه لها، ولم يبق لدى ابن السعود وقت يصرفه للاهتمام بتوسيع منطقته
إلى ما وراء الصحراء العربية.
زد على هذا أن السعي في ترميم ما خربته الحرب النجدية الحجازية منع
الوهابيين من الانشغال بإشعال نار أية حرب مع جيرانهم.
إن هذا التاريخ هو ما سجله مؤرخو العرب أنفسهم عن أنفسهم، ولم يك أي
مجال للأيدي الأوروبية للتلاعب فيه، وما هو إلا تاريخ عداوة بين أشد القبائل
العربية تأثيرًا.
وقصارى القول: إن تأثير إحدى هذه القبائل انتشر انتشارًا كبيرًا، ولكن لم
تمض مدة زهيدة إلا وقد انعكست القضية، وأخذت ثقة الملايين من المسلمين
تضعف، وهذا لا يستلزم أن لا علاقة لإنكلترا في وضع هذه القبيلة، وإعلاء شأن
الأخرى، فهي التي تظاهرت بإعلان حيادها احترامًا لمعاهدتها مع الطرفين،
وكانت تختلس النظر من وراء حجاب متغاضيةً عما لا يمس حقوقها، وتاركة
الأمور تأخذ مجراها الطبيعي في البلاد العربية، وسرعان ما أوحت إلى الملك
حسين أن يغادر البلاد العربية حينما تيقنت أن لا تأثير بإقباله في العالم العربي
والإسلامي على السواء.
واستنادًا على ما تقدم، ليست المعاهدات الحديثة بين إنكلترا وابن السعود إلا
صدى صوت لم يكن بد من سماعه، ونتيجة درس تعلمه من له علاقة بالأمر في
المدرسة الإنكليزية الحجازية خلال تسع سنوات مررن.
فإن إنكلترا عاضدت الفئة الغالبة، وهي غير غافلة عن مصالحها، ولا شك
أننا سنرى من نتائجها: إما صلاح الخطط التي يتبعها الآن ابن السعود، أو فسادها.
وعما قريب سوف نرى الحد الذي تنتهي إليه إصلاحاته، ولكن ليس هنالك
مجال للشك في شرف مقصد ابن السعود، وحسن نيته نحو العرب.
هذا إن تذكرنا أننا إنما نبحث في شأن بلاد - بل عالم - لم يحلم أحد بأنه رأى
في صفحات تاريخه روح اللاحزبية يظهرها للملأ حكامه.
ولم تعد بعد الآن مسألة الجزيرة العربية، والأماكن المقدسة مسألة تهم الدول
الأوروبية فقط، بل إنها أصبحت مسألة هي مدار البحث الإسلامي أجمع، ولا شك
أن إنكلترا التي ترفرف رايتها فوق رءوس القسم الأكبر من الذين يعتنقون الديانة
الإسلامية هي أول من يهمه هذا الأمر، كما تظهر لرعاياها من المسلمين اهتمامها
بشؤونهم، فهي لا تتخلى بعد اليوم عن الجزيرة العربية أيًّا كان حكامها.
وأما الدول الأوربية الأخرى بما فيها إيطاليا التي لها مصالح كثيرة على
الساحل الأفريقي المجاور للبلاد العربية - فلديها من القلاقل في مستعمراتها ما
يردعها عن أن تجازف بالخوض في البحث في شئون غير بلادها، أو بطلب
الاستيلاء على مستعمرات جديدة.
فأمل إنكلترا وطيد بأن نفوذها سينتشر يومًا ما في كل أنحاء البلاد العربية؛
وذلك لأن الدول الأوربية الأخرى لا تنازعها هذا، ولأنها تخلق مشاغل لأتباعها من
المسلمين؛ فتجعلهم بذلك يغفلون عما تنويه للبلاد العربية التي فيها قبلتهم.
... ... ... ... ... ... ... جامعة بيروت الأمريكية
... ... ... ... ... ... ... تعريب محمد يونس الحسيني
... ... ... ... ... ... عن مجلة (affairs Foreign)
(المنار)
هذه المقالة من أهم ما كتب أحرار الإنكليز في المسألة العربية،
والشؤون الإسلامية تحقيقاً وتمحيضًا للتاريخ، وإنما كتبت لإنارة الرأي العام
الإنكليزي، لا الرأي العام العربي أو الإسلامي، وإنما العرب والمسلمون في شغل
عن الاستفادة بهذه الحقائق بالنظريات الوهمية كنظرية شوكت علي، ومحمد علي
من ساسة الهند بإنشاء جمهورية إسلامية في الحجاز يدير نظامها أفراد ينتخبون من
جميع الأقطار الإسلامية.
ألا فليعتبر المسلمون الصادقون بما قرر صاحب هذه المقالة من قوة ابن
السعود وقومه، ووجل المستعمرين والطامعين منها، فمن عقل هذا علم أنه يجب
على العالم الإسلامي تأييد هذا الرجل بالمال والرجال، والألسنة والأقلام، فإن عقد
ألف مؤتمر، وتأليف ألف جمعية لا تعطي المسلمين من القوة والإصلاح ما سخره
الله تعالى لهذا الرجل، واستعمله فيه {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة:
٢٦٩) .