للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إثبات شهر رمضان
وبحث العمل فيه وفي غيره بالحساب

ما زلنا منذ بلغنا سن الرشد إلى أن أدركنا سن الشيخوخة نسمع المسلمين
يتألمون من الاضطراب والاختلاف الذي يحدث في إثبات أول شهر رمضان؛
لأجل الصيام الواجب، وإثبات أول شوال؛ لأجل الفطر الواجب في يوم العيد،
وكذا هلال ذي الحجة؛ لأجل وقوف عرفة، وقد سبق لنا الكتابة في هذه المسألة في
بعض المجلدات السابقة، وقد عرض لنا في هذا اليوم (الجمعة ٣٠ شعبان) أن
سمعنا قبيل ذرور قرن الشمس دوي المدافع تنفجر من قلعة القاهرة إعلانًا لإثبات
شهر رمضان، وكان الحاسبون من الفلكيين قد نشروا في جميع الجرائد تذكيرًا بما
دون في جميع التقاويم (النتائج) لهذه السنة الهجرية من أن أول رمضان فيها ليلة
السبت ٥ مارس (آذار) ؛ لأن هلاله يولد في ليلة الجمعة بعد ثلاث ساعات
ونصف ساعة ودقيقة واحدة من غروب الشمس، فرؤيته مستحيلة قطعًا في ليلة
الجمعة، وممكنة لكل معتدل البصر في ليلة السبت، وما كان من الممكن إثبات
رمضان بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، كدأبهم في حال عدم الرؤية؛ لأن يوم
الجمعة هو اليوم الثلاثون من شعبان بحسب التقاويم، ولم يثبت خلافه بحكم شرعي،
فكان الناس موقنين بأن أول رمضان يوم السبت، وإن أعلنت الحكومة أن رجال
القضاء يجتمعون ليلة الجمعة في المحكمة الشرعية لأجل سماع شهادة من عساه
يشهد أنه رأى الهلال كعادتهم.
وقد تساءلنا كيف كان إثبات الشهر؟ فعلمنا أن برقية جاءت من العريش بأن
قاضيه الشرعي قد حكم بأن يوم الخميس (أمس) الموافق لليوم الثالث من شهر
مارس هو الثلاثون من شهر شعبان، وهذا مبني على أنه قد ثبت عنده أن أول
شعبان كان يوم الأربعاء الموافق ٢ فبراير (شباط) ، وأنه صدر بذلك حكم شرعي،
وهم لا يعتدون برؤية الهلال وإثبات الشهور إلا بصدور حكم شرعي به، ولأجل ذلك
يلفقون دعوى صورية يتوسلون بها إلى هذا الحكم.
وهي طريقة مبتدعة منتقدة غرضهم منها إزالة الخلاف في إثبات الشهر،
وصيام بعض الناس، وإفطار بعض في القطر الواحد، وفي البلد الواحد أيضًا،
ولكن هذا لم يرفع الخلاف بين الأقطار البعيدة، ولا القريبة التي لا تختلف مطالع
الهلال فيها.
فما زال هذا الإثبات بهذه الطريقة يتخذ في كل محكمة شرعية من المحاكم،
فتختلف أحكامها فيه، ويتعذر إبلاغ أسبقها حكمًا، وأحقها بالتقديم إلى سائر البلاد،
فلهذا نقرأ في الجرائد كل عام أن أهل الشام صاموا يوم كذا، وأهل مصر يوم كذا،
وأهل مكة يوم كذا إلخ يتفقون تارة، ويختلفون أخرى، ولا يرجعون إلى إمام واحد
يتبعون حكمه.
وأهل القطر المصري وملحقاته هم الذين يصومون ويفطرون في يوم واحد؛
لأن محاكمهم تعمل بخبر البرق كما حدث لنا اليوم، وقد تبرم الناس بهذا الإثبات
اليوم؛ لأن جميع أهل المعرفة منهم يعتقدون أن هذا اليوم من شعبان، فإن ما أثبته
الحاسبون من اليقينيات القطعية، وهو أصح وأثبت من تحديدهم لوقت طلوع الفجر
من كل يوم الذي نعمل به في صيام كل يوم وصلاة فجره، والشهادة برؤية الهلال
إذا انحصرت في واحد أو اثنين أو ثلاثة لا تفيد إلا الظن لكثرة مايقع فيها من
الاشتباه.
وقد وقع لي في بعض السنين، وأنا في سورية أن رأيت الشمس غربت
كاسفة في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، ثم شهد شاهدان ذوا عدل بعد غروبها
بساعة زمانية أنهما رأيا الهلال، فحكم القاضي الشرعي بإثبات الشهر بالرؤية،
ومن المعلوم باليقين أن رؤية الهلال كانت من المحال؛ لأنه غرب مع الشمس، فلا
يمكن أن يكون عاد ورأياه، وأنا أعتقد أن ذينك الشاهدين لم يتعمدا الكذب فهما من
أهل التقوى والعلم، ولكنهما تخيلا الهلال تخيلاً، ولأجل مثل هذا الاشتباه قال
المحققون من الفقهاء في هذه المسألة: إن الشهادة برؤية الهلال في أيام الصحو لا
تثبت إلا برؤية جمع كثير، وينبغي تقييد هذا بما إذا تراءى الهلال كثيرون كما هي
العادة، وذلك أن العبرة في الرؤية رؤية معتدل البصر، لا أمثال زرقاء اليمامة في
حدة البصر.
وأما إكمال عدة الشهر ثلاثين فهو أضعف من شهادة الآحاد برؤية الهلال؛
لأن الأشهر القمرية وإن كان بعضها ٢٩ وبعضها ٣٠ كما هو معروف في الحساب
ويشير إليه حديث: (الشهر هكذا وهكذا وأشار صلى الله عليه وسلم بالعقد إلى
عددي ٣٠ و ٢٩) وهو في الصحيحين.
قد يتتابع شهران منها تامين، وشهران ناقصين، والعمل بإكمال العدة في حال
عدم رؤية الهلال، مقيدة في الحديث بما إذا غم علينا الهلال.
والأصل في المسألة حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما: (صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم - وللبخاري غبي - عليكم فأكملوا عدة شعبان
ثلاثين) هذا لفظ البخاري، ولم يذكر مسلم والجمهور لفظ: شعبان، وقال بعضهم:
إنه تفسير من شيخ البخاري لا مرفوع. وفي رواية لأحمد والنسائي زيادة (وانسكوا
لها) وزيادة (فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا) وفي حديث ابن عباس
عند أحمد والنسائي وغيرهما: (فان حال بينكم وبينه سحاب؛ فأكملوا عدة شعبان،
ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً ولا تَصِلُوا رمضان بيوم من شعبان) وهو حديث صحيح،
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر
رمضان فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم
عليكم فاقدروا له) ، وروي بلفظ آخر بمعناه.
فهذه الأحاديث، وما في معناها تقيد العلم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا بما
إذا غم الهلال، وغبي على الناس بأن حال دونه سحاب، ولم يكن أمس في السماء
قزعة من سحاب، دع علم أهل العلم بأن الهلال لا يمكن أن يرى.
وقد اختلف علماء السلف والخلف بما يجب عمله إذا لم ير الهلال، فقد روى
الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر راوي الحديث الأخير أنه كان إذا مضى من
شعبان ٢٩ يومًا يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون
منظره سحاب ولا قتر؛ أصبح مفطرًا، وإن حال؛ أصبح صائمًا. وروى عنه
الثوري في جامعه أنه قال: (لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه) .
وقال عمار بن ياسر: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم) ، ذكره البخاري
تعليقًا، ورواه أصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وغيرهم موصولاً، وهو صريح
في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم له، فهو مرفوع في المعنى.
وجمهور السلف من علماء الصحابة والتابعين، وأئمة الأمصار على عدم
صيام الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال، مع عدم المانع من رؤيته كالغيم والقتر،
وقد صرحت به الأحاديث الصحيحة، وكان بعضهم يصومه احتياطًا، وهو منهي
عنه في الأحاديث المتفق عليها، بل المروي بعضها عند الجماعة كلهم كما سيأتي،
فعدم رؤية الهلال في حال الصحو دليل على عدم وجوده، وفي هذه الحالة لا نؤمر
بإكمال شعبان ٣٠ يومًا، وإنما نؤمر بذلك إذا وجد المانع من الرؤية كالغيم
والضباب.
وقال الحافظ - في شرح حديث: (لا تصوموا حتى تروا الهلال) إلخ -:
وهو ظاهر في النهي عن صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم
وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى بذلك لمن تمسك به، لكن اللفظ
الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة، وهو قوله: (فإن غم عليكم فاقدروا له)
فاحتمل أن يكون المراد: التفرقة بين حكم الصحو والغيم فيكون التعليق على
الرؤية متعلقًا بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل عدم التفرقة، ويكون
الثاني مؤكدًا للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور
اهـ.
وقد ذكر المحقق ابن القيم في الهدي النبوي جملة الأحاديث الواردة في رؤية
الهلال، أو إكمال شعبان إذا حال دون رؤيته سحاب أو قتر، والأحاديث في النهي
عن صيام يوم الشك، أو آخر يوم من شعبان في غير الحالتين المنصوصتين آنفًا،
ثم ذكر اختلاف عمل السلف في هذه الأحوال، ومداركهم التي ظاهرها اختلاف
النصوص؛ إذ كان بعضهم يصوم آخر يوم من شعبان مع عدم تحقق إحدى الحالتين؛
لأجل الاحتياط، ولكن النهي يشمل الاحتياط كما سيأتي، ثم قال في آخر البحث:
فهذه الآثار (أي: في ترك الصوم) إن قدر أنها معارضة لتلك الآثار التي رويت
عنهم في الصوم فهذه أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظًا ومعنى، وإن قدر
أنها لا تعارض بينها، فههنا طريقان من الجمع: (أحدهما) : حملها على غير
صورة الإغمام، أو على الإغمام في آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم،
(والثاني) : حمل آثار الصوم عنهم على التحري والاحتياط استحبابًا لا وجوبًا.
وهذه الآثار صريحة في نفي الوجوب، وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة
النصوص وقواعد الشرع. اهـ.
وقال الحافظ في الكلام على حديث ابن عمر: (لا تصوموا حتى تروا الهلال)
إلخ من الفتح ما نصه: قال ابن الجوزي في التحقيق: لأحمد في هذه المسألة -
وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان - ثلاثة أقوال:
(أحدها) يجب صومه على أنه من رمضان. (ثانيها) لا يجوز فرضًا ولا نفلاً
مطلقًا، بل قضاء وكفارة ونذرًا ونفلاً يوافق عادة، وبه قال الشافعي، وقال مالك
وأبو حنيفة: لا يجوز عن رمضان ويجوز عما سوى ذلك. (ثالثها) المرجع إلى
رأي الإمام في الصوم والفطر. اهـ
وذكر بعد ذلك أن عمل راوي الحديث يؤيد الأول، وقد تقدم ما ذكره عنه
وهو لا يؤيد القول الأول مطلقًا بل في حال الإغمام، والراجح في هذه الأقوال
الثاني، وأضعفها الأول.
وأما الأحاديث في النهي عن صيام آخر يوم من شعبان فأشهرها قوله صلى
الله عليه وسلم: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل
كان يصوم صومًا فليصم ذلك الصوم) رواه الجماعة من حديث أبي هريرة، وفي
بعض ألفاظه عند بعضهم: (لا تقدموا بين يدي رمضان بصوم - ولا تقدموا صوم
رمضان بصوم - ولا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله) ، قال الحافظ في شرحه
للحديث من الفتح: قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على
نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه: (العمل على هذا عند أهل العلم،
كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان) اهـ.
واعتمد الحافظ مما قيل في حكمة هذا النهي قول من قال: إن الحكم علق
بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم.
أقول: فعلم مما ذكرنا أن الحكم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا مقيد بما إذا غم
الهلال، وحال دون رؤيته مانع، وفي هذه الحال يقبل في إثبات الرؤية إخبار رجل
عدل واحد؛ لاحتمال أنه لم يظهر من خلال السحاب إلا لحظة رآه فيها دون غيره،
وخلاصة القول: إن إثبات أول رمضان هذا ليس عملاً بنص حديث الرؤية، وإنما
هو عمل بقول تقليدي، يقابله قول من قال من الفقهاء بالعمل بالحساب واعتبار
اختلاف المطالع، ولنا كلمة فيه.
إن حكمة نوط الشارع أوقات العبادة من صلاة وصيام وحج بالرؤية معروفة لا
تنكر، وحسنها لا يجحد، وذلك أن الإسلام دين عام للبشر، من بدو وحضر، ليس
فيه رياسة دينية تقيد العبادات برجالها، وتخضع الدهماء لإرادتهم (أو هو دين
ديمقراطي كما يقال في عرف هذا العصر) وناهيك بأنه ظهر أولاً في أمة أمية -
كما ورد في الحديث الصحيح - فمن اليسر والاستقلال الشخصي فيه، وعدم
الاختلاف أن تكون أوقات العبادات فيه مما يسهل على كل فرد من أهله أن يعرف
طرفيها بنفسه، بدون توقف على شيء من العلوم والفنون التي لا يعرفها إلا بعض
الناس في المدائن وأمصار الحضارة، أو على رياسة رجال يتحكمون في العبادة
بأهوائهم.
فأول وقت الفجر يعرف برؤية النور المستطير المنتشر من موضع طلوع
الشمس من المشرق، وبه يدخل الصائم في صيامه ويصلي الفجر، وينتهي بغروب
الشمس الذي تجب به صلاة المغرب، وينتهي وقتها بغيبة الشفق الأحمر، وكذلك
أول وقت وقتي الظهر والعصر، كل ذلك يعرف برؤية البصر، وبذلك تكون الأمة
متفقة متحدة لا تختلف مواقيت عباداتها لله تعالى، لا في حال الانفراد، ولا في
حال الاجتماع، إلا ما يكون من اختلاف الأقطار باختلاف الرؤية فيها، فليل أناس
نهار عند آخرين، وكذلك تختلف مطالع الأهلة.
***
(مباحث العمل بالحساب في مواقيت العبادة)
قال الحافظ في شرح الحديث المتفق عليه: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب،
الشهر هكذا وهكذا: يعني مرة ٢٩ ومرة ٣٠) من فتح الباري ما نصه: والمراد
هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا (أي: كالكتابة) إلا
النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية؛ لرفع الحرج عنهم في معاناة
حساب التسيير، واستمر الحكم في الصوم، ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل
ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً.
ويوضحه قوله في الحديث الماضي: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)
ولم يقل: فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه: كون العدد عند الإغماء يستوي فيه
المكلفون فيرتفع الخلاف والنزاع عنهم ا. هـ.
ثم ذكر أن الروافض وبعض الفقهاء قالوا بالرجوع إلى أهل التسيير في ذلك،
ورده بما ورد من النهي عن علم النجوم (قال) : (لأنها حدث وتخمين ليس فيها
قطع، ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق؛ إذ لا يعرفها إلا قليل) .
وأقول: إن ما ذكره من حكمة التشريع صحيح الأصل، فالاتفاق مطلوب
شرعًا، وكون أوقات العباة منوطة بما يعرفه كل الناس، والحساب الفلكي لا يعرفه
إلا قليل منهم صحيح أيضًا، ولكن المسلمين على زعمهم أنهم يعملون بنصوص هذه
الأحاديث مختلفون غير متفقين، فهم في حال الصحو التام الذي يمكن أن يرى
الهلال فيه السواد الأعم من الناس إن كان موجودًا يستهلون - أي: يتراءون -
الهلال فرادى وجماعات في مواضع كثيرة من كل بلد فلا يراه أحد، وبعد انصرافهم
يشهد واحد أو اثنان برؤيته؛ فيحكم الحاكم بهذه الشهادة الظاهر خطؤها بعدم رؤية
الجماهير، أو يكملون عدة شعبان ثلاثين يومًا بعد العلم بعدم وجود الهلال؛ إذ لو
كان موجودًا لرآه الجمهور، والعبرة برؤية معتدلي البصر؛ لأنه هو الذي يشترك
فيه الناس، ويرتفع به الخلاف، ولا عبرة برؤية حديد البصر وحده؛ لأنه أندر من
العالم بالحساب، فلا يكون مناطًا عامًّا، ولا يمكن معه اتفاق، وليس فيه قطع، ولا
ظن غالب إلا في حالة الإغمام مع عدالة الشهود، وعدم مخالفة شهاداتهم للعلم
القطعي.
وقوله: (إن ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً) إلخ،
غلط ظاهر، وما ذكر من توضيحه بالأمر بإكمال العدة دون الأمر بسؤال أهل
الحساب غير واضح، بل خلاف المتبادر من منطوق الحديث، وهو أن الأمة أمية
لا تعرف الحساب، وهذا بيان لما كانت عليه، وهو قد بعث لإخراجها منه بنص
القرآن) ، فكيف تؤمر بما لا تعرف؟ ! ومفهومه الظاهر أنه لو وجد الحاسبون
لصح الرجوع إليهم، وما احتج به من النهي عن الخوض في علم النجوم - لأنها
حدث وتخمين ليس فيها قطع، ولا ظن غالب - لا يرد على الحساب الذي نعنيه،
فإن علم النجوم الذي ذكره هو استنباط أخبار الغيب من حركاته وتنقلاتها، ومقارنة
بعضها لبعض، وليس منه حساب البروج والمنازل للشمس والقمر الثابتة باليقين
القطعي، والمشروع العمل بها في قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: ٥) ، مع قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ
لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: ٥) ، فهو صريح في إثبات هذا النوع من
الحساب، وإفادته للعلم بضبط السنين والشهور، ولهذا قال بعض العلماء - في حديث
(فإن غم عليكم فاقدروا له) -: فاقدروه بحساب المنازل. قال الحافظ: قاله العباس
بن سريج من الشافعية، ومطرف بن عبد الله من التابعين، وقتيبة من المحدثين. نقله
الحافظ عنهم، وذكر أن ابن عبد البر لم يعبأ بقولهم، ثم قال: ونقل ابن العربي عن
ابن سريج أن قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) خطاب لمن خصه الله بهذا
العلم، وأن قوله: (فأكملوا العدة) خطاب للعامة، فصار وجوب رمضان عنده
مختلف الحال، يجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب العدد،
قال: وهذا بعيد عن النبلاء اهـ.
وأقول: إنه يمكن حمل اختلاف الحالين على اختلاف الأوقات، فإذا وجد
الحاسبون عمل بقولهم؛ لأنه علم يقيني قطعي، وإن لم يوجدوا أكملت عدة الشهر
ثلاثين بشرطه؛ إذ لا يمكن الاتفاق على غيره.
ومثل ما ذكر - من الاستدلال على منع العمل بالحساب بأنه لا يفيد علمًا ولا
ظنًّا غالبًا - ما ذكره الحافظ عن ابن بطال، قال في شرحه للحديث المذكور: في
الحديث رفع لمراعاة النجوم بقانون التعديل، وإنما المعول عليه رؤية الأهلة، وقد
نهينا عن التكلف، ولا ريب أن ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف.
اهـ. من الفتح.
وهو رد لا يرد على الحساب الذي نقول به؛ لأن هذا لا تكلف فيه ولا
غموض، وهو يدرك باليقين لا بالظنون، بل أقول: إن حساب التعديل الذي أشار
إليه صحيح في نفسه، وإنما التكلف في حفظ قواعده، والنظر في الزيج
والإصطرلاب، وقد استغني عن ذلك في هذا الزمان.
وقد اختلف فقهاء الشافعية في العمل بالحساب على أقوال:
(١) يجوز ولا يجزئ عن الفرض.
(٢) يجوز ويجزئ.
(٣) يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم.
(٤) يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم.
(٥) يجوز لهما ولغيرهما مطلقاً.
ذكر هذه الأقوال الحافظ في الفتح، وقال بعدها: وقال الصباغ: (أما
بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا) .
(قلت) : ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك، فقال في (الأشراف) :
(صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة،
وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته) .
هكذا أطلق، ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرق بينهم كان محجوجًا
بالإجماع قبله اهـ.
وظاهر هذا القول الذي اعتمد عليه الحافظ في الإجماع، بل نص منطوقه أنه
لا يجوز إكمال عدة شعبان ثلاثين في حال الصحو مطلقًا، ولا يعتد بقول أحد يجيزه
كائنًا من كان؛ لأنه محجوج بالإجماع قبله، فإثبات رمضان هذا العام في هذا اليوم
(الجمعة) مخالف للإجماع، فهو باطل، ويجب إبطال هذا النوع من إثباته.
وأما الحساب فيظهر أنه لم يكن في عهد السلف الذين أجمعوا على ما ذكر قد
وصل إلى الدرجة المعهودة عندنا في هذا العصر من العلم اليقيني، والصورة التي
أجمعوا عليها لا يمكن أن تخالف الحساب، أعني أنه لا يمكن أن لا يرى الهلال في
مساء اليوم الذي يثبت الفلكيون الحاسبون إمكان رؤيته فيه عند انتفاء المانع، فهم
يبينون وقت ولادة الهلال - أي: مفارقته للشمس - في آخر الشهر بالساعات
والدقائق، ومنه يعلم إمكان رؤيته لمعتدلي البصر وعدم إمكانها، فإذا كان من الدقة
بحيث لا يرى لا يثبتون الشهر الشرعي بولادته، وإذا كان بحيث يرى قطعًا عند
انتفاء المانع من غيم أو قر يثبتون الشهر، فهنا يقال: إن الشهر قد ثبت برؤية
الهلال حقيقة أو حكمًا، وذلك أنهم إذا تراءوه رأوه قطعًا، فلا يكون إثبات وجوب
الصيام بقول الفلكيين الحاسبين بل بوجود الهلال، وإنما هم يبينون للناس متى يرى،
وقد ظهر باختبار السنين صدقهم لكل من يرى تقاويمهم، ونحن في أشد الحاجة
إلى علمهم في حال وجود المانع من رؤية الهلال؛ لأنه علم يقيني كرؤية الهلال،
وإكمال عدة الشهر كثيرًا ما تكون خطأ كما تقدم بيانه، وهي تبنى في كل شهر على
رؤية هلاله، وإلا كانت مسألة حسابية، وقد تمر في بعض الأقطار التي تكثر فيها
الأمطار عدة أشهر لا يرى فيها هلال، فكيف يمكن العمل فيها بإكمال عدة الشهر
ثلاثين؟ ! ومن المعلوم حسابًا وشرعًا أن الشهر يكون تارة ٣٠ وتارة ٢٩.
إذا تمهد هذا فنحن نلخص الكلام في هذا الموضوع في مسائل:
(١) إن إثبات أول شهر رمضان وأول شهر شوال هو كإثبات أوقات
الصلوات الخمس، قد ناطها الشارع كلها بما يسهل العلم به على البدو والحضر؛ لما
تقدم من بيان حكمة ذلك، وغرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات، لا التعبد
برؤية الهلال، ولا بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر؛ أي: انفصال
كل من الآخر برؤية ضوء الفجر المستطير من جهة المشرق، ولا التعبد برؤية ظل
الزوال وقت الظهر، وصيرورة ظل الشيء مثله وقت العصر، لا برؤية غروب
الشمس وغيبة الشفق لوقتي العشاءين، فغرض الشارع من مواقيت العبادة معرفتها،
وما ذكره صلى الله عليه وسلم من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال، أو إكمال العدة
بشرطه قد علله بكون الأمة في عهده كانت أمية، ومن مقاصد بعثته إخراجها من
الأمية لا إبقاؤها فيها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: ٢) ، وفي معناها ما ذكره من دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذلك
في سورة البقرة، ويؤخذ منه أن لعلم الكتابة والحكمة حكمًا غير حكم الأمية.
(٢) إن من مقاصد الشارع اتفاق الأمة في عباداتها ما أمكن الاتفاق وسيلة
ومقصدًا، فإما أن تتفق كلها، أو أهل كل قطر منها على العمل بظواهر نصوص
الشرع، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصدر الأول في مواقيت
الصلاة والصيام والحج من رؤية الفجر والظل والغروب والشفق والهلال عند
الإمكان، وبالتقدير، أو رؤية العلامات عند عدم الإمكان، وفي هذه الحالة لا يجوز
لمؤذن الفجر أن يؤذن إلا إذا رأى ضوءه معترضًا في جهة المشرق، وهو يختلف
باختلاف الليالي، ففي النصف الثاني من الشهر - ولاسيما أواخره - يرى متأخرًا
عن الوقت الذي يرى فيه ليالي النصف الأول المظلمة بقدر تأثير نور القمر في جهة
المشرق، وقد قال صلى الله عليه وسلم في رمضان: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا
واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) ، قال بعض رواته: وكان رجلاً أعمى
لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت. رواه الشيخان وغيرهما. وإما أن تعمل
بالحساب والمراصد عند ثبوت إفادتها العلم القطعي بهذه المواقيت التي جرى عليها
العمل في جميع بلاد الحضارة الإسلامية في الصلاة مع المحافظة على الاستهلال
ورؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته؛ للجمع بين ظاهر النص والمراد منه،
ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الصلاة عماد الدين، فهي أفضل من الصوم
وأعم، وفي غير حالة الصحو وعدم المانع من رؤية الهلال يكون إثبات الشهر
بإكمال العدة ثلاثين ظنيًّا، أو دون الظني، ومن قواعد الشريعة المتفق عليها: إن
العلم مقدم على الظن، فلا يعمل بالظن مع إمكان العلم، فمن أمكنه رؤية الكعبة لا
يجوز له أن يجتهد في التوجه إليها ويعمل بظنه الذي يؤديه إليه الاجتهاد.
(٣) إذا قيل: إن إفادة الحساب للعمل القطعي بوجود الهلال، وإمكان
رؤيته خاص بالفلكي الحاسب، وقد اختلف العلماء في العلم به كما ذكرتم، ولا
يكون علمهم حجة على غيرهم. قلنا: إن الذين لم يبيحوا العمل بالحساب قد عللوه
بأنه ظن وتخمين لا يفيد علمًا ولا ظنًّا، كما نقلناه عن شرح البخاري للحافظ ابن
حجر آنفًا، والحساب المعروف في عصرنا هذا يفيد العلم القطعي كما تقدم، ويمكن
لأئمة المسلمين وأمرائهم الذين ثبت ذلك عندهم أن يصدروا حكمًا بالعمل به فيصير
حجة على الجمهور، وهذا أصح من الحكم بإثبات الشهر بإكمال عدة شعبان ثلاثين
يومًا، مع عدم رؤية الهلال ليلة الثلاثين، والسماء صحو ليس فيها قتر ولا سحاب
يمنع الرؤية، فإن هذا مخالف لنصوص الأحاديث الصحيحة كما تقدم في هذا المقال،
فهو حكم باطل.
(٤) يؤيد هذا الوجه الأخير القول الثالث للإمام أحمد فيما يجب العمل به
إذا غم على الناس رؤية الهلال وهو: أن يرجعوا إلى رأي الإمام (أي: السلطان
ولي الأمر الشرعي) في الصوم والفطر، وقد تقدم مع القولين الآخرين.
(٥) إذا تقرر لدى أولي الأمر بالعمل بالتقاويم الفلكية في مواقيت شهري
الصيام والحج كمواقيت الصلاة وصيام كل يوم من الفجر إلى الليل امتنع التفرق
والاختلاف بين المسلمين في كل قطر، أو في البلاد التي تتفق مطالعها، وهذه لا
ضرر في الاختلاف في صيامها، كما أنه لا ضرر في الاختلاف في صلواتها.
وجملة القول أننا بين أمرين: إما أن نعمل بالرؤية في جميع مواقيت العبادات
أخذًا بظواهر النصوص وحسبانها تعبدية، وحينئذ يجب على كل مؤذن أن لا يؤذن
حتى يرى نور الفجر الصادق مستطيرًا منتشرًا في الأفق، وحتى يرى الزوال
والغروب إلخ، وإما أن نعمل بالحساب المقطوع به؛ لأنه أقرب إلى مقصد الشارع،
وهو العلم القطعي بالمواقيت وعدم الاختلاف فيها، وحينئذ يمكن وضع تقويم عام
تبين فيه الأوقات التي يرى فيها هلال كل شهر في كل قطر عند عدم المانع من
الرؤية وتوزع في العالم، فإذا زادوا عليها استهلال جماعة في كل مكان، فإن رأوه
كان ذلك نورًا على نور، وأما هذا الاختلاف وترك النصوص في جميع المواقيت
عملاً بالحساب ما عدا مسألة الهلال فلا وجه ولا دليل عليه، ولم يقل به إمام مجتهد،
بل هو من قبيل {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: ٨٥)
والله أعلم وأحكم.