للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مستر كراين


محاضرة مستر كراين
عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن
في جمعية الرابطة الشرقية [*]

لأسباب عديدة قمت في هذا الشتاء برحلة في البحر الأحمر , وقد سبق لي أن
زرت قبل هذه المرة (جدة) , وأعجبت كثيرًا بمناظر البحر، وإني طفت معظم
بحار العالم , فلم أر له مثيلاً بينها، فبينما ترى فيه الزرقة القاتمة تراها تخضرّ , ثم
تحمرّ وتميل إلى لون الذهب، وترى شاطئًا رمليًّا أصفر , ومن ورائه سلاسل
طويلة من الجبال الوردية القفراء.
إن طراز الحياة في مواني البحر الأحمر الصغيرة لا يزال كما كان عليه منذ
قرون عديدة، ففي عرض هذا البحر تمخر السفن العظيمة بين السويس وعدن دون
أن تحدث أثرًا في هذه المواني القديمة التي ما زالت تحتفظ بعاداتها الأولى لعلاقاتها
بالحج والحجاج.
إني مولع برؤية الحياة الإسلامية القديمة التي شاهدتها في مصر والشام،
والقسطنطينية عندما أتيت هذه البلاد منذ خمسين عامًا، ولكن هذه البلاد الآن
أضاعت رونقها القديم، وتغير فيها طراز الحياة تغيرًا محسوسًا، ويقال: إن
(بخارى) أيضًا أضاعت سابق أسواقها الجميلة القديمة، ولذلك سررت كثيرًا منذ
أربعة أعوام لما رأيت أن جدة لا تزال محتفظة ببهائها الإسلامي القديم، وبحجاجها
المحرمين، وبوسائط نقليتها القديمة , ألا وهي: الجمل والفرس والأتان، وأن
أسواقها المعوجة الصغيرة لا تزال ملأى بالتجار الشرقيين يروحون ويغدون فيها،
وتنحصر تجارتهم في بعض الأشياء الضرورية , وبعض المصنوعات اليدوية.
إن شبه جزيرة العرب هي مهد الأنبياء , ومهبط الوحي، ولما كنت أهتم
كثيرًا بهذه الشؤون؛ شئت أن أتقرب بقدر الإمكان إلى حياة هذه الجزيرة التي كانت
تنجب الأنبياء آونة بعد أخرى، ومن البديهي أن البلاد المتمدنة لا تنجب أنبياء.
ومن أهم الأشياء في الجزيرة الآن الحركة الوهابية التي ترمي إلى الرجوع
لحياة التقشف كما كانت عليه الحال أيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
نحن في الغرب نقول: إن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن لهذه القاعدة شواذ في
الصحراء، فالحياة فيها دائمًا تعيد نفسها.
يقال: إن الدين في العالم منشؤه بعض الشخصيات البارزة التي تضيء
كالأنوار مثل بوذا [١] , والمسيح ومحمد، وهذه الشخصيات لها حياة خاصة ,
وتعاليم خاصة , وأتباع خاصة، ولكنها عندما تختفي؛ يقوم بعدها بعض الأتباع
الذين كانوا مقربين إليها كثيرًا , ويفسرون أعمالها , وينشرون أخبارها، وهم
المعروفون بالتلاميذ أو الصحابة، ولكن النور الأصلي يضعف عندما ينتقل إليهم،
ومن بعدهم تقوم الهيئات الدينية , وتنشر أعمال تلك الشخصيات حسب ما يتراءى
لها؛ وبذلك يزداد ضعف النور، ولا شك أن بوذا لو بعث حيًّا الآن لا يوافق على
أن الصينيين واليابانيين يتبعون حياته وتعاليمه , وخصوصًا متى شاهد البون
الشاسع بين تعاليمه الصحيحة , وبين تعاليم كهنوت اللاميين [٢] , وإنه لا يمكن
للمسيح أن يعترف بأن أوربا الحديثة المعروفة بمسيحيتها , والتي يقال: إنها تتبع
حياته وتعاليمه هي حقيقة مسيحية [٣] .
لقد أدرك محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا من أمر هذا التحريف الذي لعب
دورًا مهمًّا في تاريخ الديانات القديمة على ممر الأيام؛ ولذلك حدد أقواله بحديثه ,
وأظهر بصورة واضحة علاقة المسلم مع خالقه، ولم يترك ميدانًا واسعًا لتدخل
الهيئات الدينية من بعده , ومع هذا كله رأينا أن الدين الإسلامي عندما ابتعد عن
مركزه الأصلي في الصحراء , وأخذ يتزاحم مع غيره من الديانات والمدنيات في
العجم والصين مثلاً؛ خرج عن الصراط المستقيم، وأضاع شيئًا كثيرًا من بساطته
وبهائه.
ولما كانت الحياة في نجد بعيدة عن مثل هذا الضغط , وبعيدة عن المدنية
الحاضرة , فلا شك أن هذه البلاد هي المكان الوحيد المعد لحفظ علاقة المسلم
الحقيقية بخالقه بصفة لا تشوبها شائبة، وقد ظهر الآن أشياء عديدة تثبت جميعها أن
القاعدة الأساسية في الدين الإسلامي , والمسيحي , واليهودي هي علاقة الإنسان
بخالقه , وأصبح الاعتراف بهذه الحقيقة أمرًا لازبًا؛ لأن البولشفيك ينظمون دعاية
ضد جميع الديانات , وقد وجهوا سهامهم إلى قلب هذه الحقيقة الظاهرة , ألا وهي:
وجود الخالق , وتدبيره لهذا الكون، وقد أدرك العالم المسيحي هذا الخطر , وأصبح
ميَّالاً إلى ترك الجزئيات , والتمسك بالكليات، ويوجد في الغرب أناس كثيرون
يعتقدون أن في الإمكان التأليف بين العالم المسيحي , وغيره من البشر ممن يعتقدون
بوجود الخالق , ويسعون لطاعته.
ولاشك أن العالم ليشهد منذ أول التاريخ إلى عهدنا هذا ثورة شديدة على الدين ,
كالثورة التي يديرها البولشفيك.
يوجد بين المسيحيين طائفة صغيرة تقول بالتوحيد , وتشابه عقائد هذه الطائفة
من وجوه عديدة العقائد الإسلامية القديمة، وقد ظهر بين أفرادها كثير من العظماء
الذين أفادوا العالم فائدة تذكر فتشكر، ففي النمسا مثلاًُ ظهر بعض أفراد منها للعالم،
وشغلوا وظائف سامية، وكانوا موضع إعجاب جميع من عرفهم، وفي أمريكا ظهر
أيضًا بعض أتباع هذا المذهب المحترم , وكان في مقدمتهم الرئيس (إيليوت) الذي
بقي مدة أربعين سنة رئيسًا لأعظم جامعة أميريكية ألا وهي: جامعة (هارفرد)
وقد توفي في السنة الماضية عن عمر جاوز اثنين وتسعين عامًا , ولا شك أنه كان
أحد رجال أمريكا العظام [٤] , وقد كان يهتم كثيرًا برحلاتي إلى البلاد الإسلامية،
وشعر أنه من الواجب أن يحصل تعارف بين الموحدين المسيحيين , وبين المسلمين،
وكنت دائمًا عند عودتي أزوره , وأطلعه على جميع اختباراتي الحديثة.
إنه بقي محافظًا على قواه العقلية إلى آخر دقيقة من حياته، وكان لصوته
أعظم وقع على الأميركيين , كما أنه كان الخادم الأمين لحفظ الضمير الأميركي
الحي، وعندما كان يتكلم في موضوع سياسي , أو تهذيبي , أو اجتماعي كان يتكلم
دون خجل , أو وجل.
وقبلما أنشبت المنون أظفارها فيه شعر بدنو أجله , فقلت له: اسمع هذه
الصلاة الإسلامية الجميلة , وقرأت له: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: ٢-٧) , وقد
أعجب بهذه الصلاة الوجيزة كثيرًا , وكانت هي آخر العهد بيننا، وكان صديقي هذا
دائمًا يتمنى الحج إلى شواطئ البحر الأحمر , والتقرب من الحركة الوهابية؛ لأنه
هو نفسه كان يعيش عيشة بسيطة , ويعتقد بعظم فائدة الصلاة , وتأثيرها في
العالم , ولكنه كان بعيدًا عن الظواهر الدينية الميكانيكية [٥] , وسأرسل إليكم عندما
أعود إلى أمريكا جميع ما قاله عظماء الأميركيين بشأن هذا الرجل الجليل عند
وفاته.
إن بوذا , والمسيح عاشا عيشة روحية , ولم يكونا يومًا من الأيام إداريين ,
ولا فكرا أن ينظما الحياة الدينية، وأما محمد صلى الله عليه وسلم , فكان نبيًّا
وإداريًّا عظيمًا، وقد مد الله في أجله إلى أن تمكن من تنظيم الحياة الاجتماعية على
أسس دينية، وها هو ذا ابن سعود ينسج اليوم على منواله، ويتبع سننه في كل
خطوة بحزم وعزم، وهو يسعى لأن يوفق بين الحياة الاجتماعية , وبين الشريعة
الغراء , ولست مغاليًا إذا قلت لكم: إنه لا جنايات في مملكة ابن سعود، وإن البدو
الذين مازالوا منذ الأزل يضربون في بلاد الله الواسعة , ويغزو بعضهم بعضًا أخذوا
في عهده يبنون البيوت الثابتة، ويشتغلون بالأشغال النافعة.
ولاشك أن الأمن في الطرقات أصبح مستتبًّا، والتجارة في البلاد محمية،
ومال الحاج مضمونًا، وأسعار الحاجيات محددة.
***
فليحيا ابن سعود
إن الحماسة التي تدعم حركة كحركة ابن سعود الوهابية , والتي ترمي إلى
إرجاع الدين الحنيف , كما كان عليه قديمًا , تتعارض في بعض الأحيان مع العادات
الإسلامية الحاضرة، وليس بالعجيب أن نرى (الإخوان) في حماستهم قد هدموا
أشياء كثيرة ذات قيمة تاريخية ومعنى ديني للحجاج الذين يحجون إلى هذه البلاد
المقدسة , وقد قتلوا أثناء حماستهم بضعة آلاف حاج من حجاج اليمن , بينما كانوا
قادمين إلى مكة بقصد الحج، واعتذروا عن عملهم بأن نيتهم كانت سيئة نحو
الإخوان [٦] , ومع ذلك , لا شك أن الأحوال الآن أحسن من ذي قبل، وإذا مد الله
في عمر ابن سعود؛ فالحالة تزداد تقدمًا، والروح الاجتماعية تنتشر أكثر فأكثر بين
العرب مستمدة نشاطها من بعد ابن سعود من روحه.
نزلت بجدة في دار السيد محمد نصيف , وهي كأنها مجمع علمي يحتوي على
مكتبة عامرة , يؤمه جميع أقطاب جدة وأشرافها.
والسيد محمد نصيف عالم محقق , ورجل شريف يزوره جميع من يمر بجدة
من العلماء والنبلاء قبل ذهابهم إلى مكة، وقد اجتمعت عنده بأناس كثيرين ,
وتكلمت معهم بصراحة زائدة، وكانوا جميعهم عنوان اللطف بي , والعطف علي،
وأفهموني حقيقة سير الحياة بالحجاز في هذه الأيام، وبعد وصولي إلى جدة جاء
سمو الأمير فيصل من مكة , ورحب بي , وتأكد بنفسه أن راحتي مضمونة , وقال
لي: إن كل شيء في جدة تحت أمري.
في الليل كنت أدعو الكثيرين؛ ليسمعوني الأناشيد الوطنية والغناء العربي
القديم والحديث , وكان بين هؤلاء المنشدين شيخان ضريران يترددان دائمًا على
دار السيد محمد نصيف، وقد أسمعاني مرارًا ترتيل القرآن، والحق يقال: إن
ترتيلهما كان في غاية الإبداع.
لا يسمح الوهابيون لأحد أن يغني غناءً عاديًّا , ولا أن يستعمل معازف
موسيقية، وقد منعوا الحجاج المصريين من جلب المحمل التي كانت العادة أن
يجلبوه مع موسيقى الحج [٧] , ولكنهم لا يتعرضون لترتيل القرآن , وقد تسامحوا
معي في بعض الشؤون , ولم يمنعوني من دعوة بعض البدو إلى داري , وسماع
أناشيدهم، وقد أسمعني أحد أصحاب القوافل بعض الأناشيد التي ينشدها الحداة من
رجال القافلة أثناء سيرهم في البادية.
كان ابن سعود يوم زرت جدة في طرف البادية [٨] , ولم أتمكن من مقابلته،
ولكنه تلطف , وأرسل لي عدة برقيات تنم جميعها عن عطفه علي، وقبل سفري
ببضعة ساعات أخذت وأنا على ظهر الباخرة برقية منه أعرب لي فيها كثرة أشغاله،
وأفصح عن أسفه الشديد؛ لعدم تمكنه من مقابلتي، وتمنى لي سفرًا سعيدًا [٩] .
والحق يقال: إن ابن السعود كالإمام يحيى لا يوجد حوله رجال عاملون
يساعدونه في إدارة دفة الحكم , فهو يعتمد على نفسه في كل شيء.
وقد مضى عليه ثلاث سنوات , ولم يزر في خلالها أرض نجد؛ ولذلك ذهب
هذه السنة؛ ليزورها، ولينظر في شؤون الإخوان , وتنظيم أعمالهم.
***
السيد أحمد السنوسي
كان من جملة الأسباب التي حملتني على القيام برحلتي هذه؛ رغبتي في
مقابلة صديقي القديم السيد أحمد السنوسي , الطائر الصيت الذي تعرفت إليه في
بورصة في صيف سنة ١٩١٩ , وكانت تلك الرحلة التي تعرفت إليه في خلالها من
أهم الرحلات التي قمت بها في هذا العالم.
قلت: إني قمت برحلات عديدة في هذه الأرض , وكنت دائمًا أدرس نفسية
البشر في أطرافها، وقد أعجبت مرارًا ببعض العقول التي لم تبلغها أيدي التهذيب ,
وقابلت كثيرًا من أصحاب هذه العقول , ولا غرو أن مقابلتهم ساعة عملهم كانت
نهاية الإبداع , وهذه العقول لا تنمو إلا بين أصحاب الفيافي والقفار , وكل ذرة , لا
بل كل خلية من خلايا دماغ هؤلاء الأشخاص هي حية في ذاتها، وحساسة لكل
عارض يعرض لها، وسريعة في تنفيذ أحكامها , وحكيمة في استنتاجاتها.
وأحمد السنوسي هو أحد أصحاب هذه العقول النيرة، ودليلي على ذلك أنه
تمكن في برهة وجيزة من إيجاد مملكة تحيط بها القفار من كل الأطراف.
منع الحلفاء عامة , والتليان خاصة هذا الزعيم الكبير من العودة إلى بلاده
وأهله بعد الحرب العظمى؛ فاضطر أن يذهب من تركية إلى سورية , فالصحراء.
ولا يزال إلى يومنا هذا هائمًا على وجهه من بلاد إلى بلاد بعيدًا عن أهله
وعائلته [١٠] , ومع الأسف الشديد لم يهتم به أحد , وهو اليوم في العسير , وقد
أرسل أحد عماله إلى جدة؛ ليفاوض ابن سعود , فرأيت أن أراه لأطلع منه على
أخبار السنوسي؛ لأني قلت سابقًا: إن من جملة الأسباب التي حملتني على هذه
الرحلة هي مقابلة هذا الرجل العظيم , ولكن لم يؤذن لي أن أقابل ذلك الرسول , ويا
حبذا لو اهتمت بعض الحكومات الإسلامية بشأن هذا الرجل العظيم ما دام شعبه قد
حرم من زعامته , وحرم هو من بلاده.
للمحاضرة بقية
((يتبع بمقال تالٍ))