للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي


آثار المساجد في إصلاح الأمة

الخطبة المنبرية
(خطبة منبرية ألقاها صديقنا الأستاذ: محمد عبد العزيز الخولي المدرس
بمدرسة القضاء الشرعي في افتتاح معالي وزير الأوقاف لجامع الخازنداره بشبرا،
بمصر، في يوم الجمعة ٨ شعبان سنة ١٣٤٥هـ، الموافق ١١ فبراير سنة
١٩٢٧م، ويعد ذلك الجامع من أهم جوامع القاهرة نظامًا واتساعًا) .
الحمد لله يجزي كل امرئ مما عمل، فمن عمل صالحًا؛ فله جزاء الحسنى،
ومن عمل سيئا فله سوء العقبى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ
سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: ٣٩-٤١) .
أشهد أن لا إله إلا الله، يعلم نفوسًا طيبة طاهرة مخلصة صادقة أنفقت مالها
في سبيل دينه، وإظهار شعائره، وإعلاء كلمته {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: ٢٢) ، ويعلم نفوسًا أخرى غرتها زخارف الدنيا حتى
ألهتها عن الأخرى، فأنفقت مالها في سبيل المظاهر الكاذبة، والدعاية الباطلة
{أَوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: ١٩) ،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أسوتنا في مكارم الأخلاق، قدوتنا في صالح
الأعمال، سباقنا إلى الخيرات، فصلوات الله وسلامه عليه , وعلى آله وصحبه
الذين رووا من علمه، واستنوا به في عمله (جزاهم الله أحسن ما كانوا يعملون) .
(أما بعد) : فإن من أبر الأعمال، وأعظمها منزلة عند الله بناء المساجد،
وتعمير بيوت {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً
تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ
يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: ٣٦-٣٨) ? كيف لا تكون المساجد خير
ما يبنى، وفيها تقام الصلاة التي هي عماد الدين؟ ومن أقامها أقامه، ومن هدمها
هدمه، الصلاة التي حسب الجاهلون أنها حركات رياضية لا صلة لها بالأخلاق،
وسياسة الكون، وما دروا أن بالصلاة توثيق العلاقات بين أهل السماء وأهل
الأرض، وتوثيق العلاقات بين المخلوقين وأحكم الحاكمين، إن مصر لتسعى
جهدها في توثيق العلاقات بينها وبين الدول الأجنبية؛ لتأمن شرها، وتستجلب
خيرها، فهل تلكم الدول أعظم خطرًا وأعز جندًا من دولة السماء التي على رأسها
رب العالمين، وأعدل الحاكمين، الذي له جنود السموات والأرض، الذي بيده
ملكوت كل شيء، الذي إذا أراد أمرًا فإنما يقول له: كن؛ فيكون؟ فإذا كنا ننفق
الكثير من أموالنا في سبيل توثيق العلاقات، وإقامة المؤتمرات، فهلا ننفق القليل
من وقتنا في القيام بصلوات نوثق بها الروابط بيننا وبين ربنا وخالقنا؛ فيمدنا بجنده
الذي لا يغلب، وجيشه الذي لا يقهر {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: ٤٠-٤١) .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما آذاه قومه في سبيل الدعوة، ولم ير في
مكة جوًّا صالحًا لتتم له الكلمة؛ هاجر منها إلى المدينة حيث الأنصار الذين
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: ٩) ، فلما أن وصل إلى قباء أول
ضاحية من ضواحي المدينة مكانتها من المدينة مكانة شبرا من القاهرة، كان أول
عمل قام به بناء مسجد قباء الذي يقول الله فيه: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ
أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} (التوبة: ١٠٨) ، وكان صلى الله عليه وسلم يعمل فيه بنفسه، ولما أتمه، تحول
إلى المدينة، فتلقاه أهلها فرحين مستبشرين، وخرجت ذوات الخدر يقلن:
أشرق البدر علينا ... واختفت منه البدور
مثل حسنك ما رأينا ... قط يا وجه السرور
وكان أول ما عمله أن شرع في إقامة مسجده المعروف، وكان مكانه لغلامين
يتيمين، فاشتراه منهما بخمسة جنيهات، ثم أخذ يبني فيه مع أصحابه، وكان صلى
الله عليه وسلم ينقل الطوب والحجارة، ويقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة *
فاغفر للأنصار والمهاجرة) ، فأنتم ترون أن أول أعمال الرسول صلى الله عليه
وسلم في المدينة إقامة مسجدين، فلم يبدأ بفتح المدارس، أو إقامة المستشفيات،
أستغفر الله، بل فتح المساجد، وأقام المدارس، وبنى المستشفيات.
هل المساجد إلا مدارس تكون فيها الأخلاق، وتهذب الأرواح، وتلقى فيها
الدروس العلمية والعملية؟ ألست في المساجد تسمع آيات لله تتلى؟ وتسمع الحكم
العالية، والنصائح الغالية من كلام خاتم النبيين وسيد المرسلين، وإن ذلك شفاء لما
في الصدور، وهل مداواة الأجسام خير، أم مداواة الأرواح؟
إن المساجد بحق بيوت للعبادة، مدارس للتعليم الصحيح، مستشفيات لأمراض
النفوس.
إن المدارس الأولية التي تسعى الحكومة في نشرها جهد الطاقة، إنما تعم
الصبيان، وإن المساجد يعلم فيها الصبيان والشباب والشيوخ، بل يعلم فيها النساء
والرجال، وإن أنواع المدارس الأخرى، إنما تعلم بالأجر، والمساجد فتحت أبوابها
لكم لا تتقاضى منكم على التعليم أجرًا ولا ثمنًا.
فالمساجد في الأمة تؤدي خدمة عظيمة، لا تماثلها خدمة أخرى لو أن القائمين
فيها ممن عرفوا الدين حق معرفته، ودرسوا أصلية كتاب الله والسنة، لو أنهم ممن
خبروا الحياة، وعرفوا شؤونها، وكان لهم بجانب ذلك أرواح طاهرة، وعقول نيرة،
وحكمة بالغة، وعسى أن يكون ذلك قريبًا {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا
مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف: ١٠) .
روى البخاري ومسلم، عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له مثله في الجنة) .