للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قانون الأحوال الشخصية في مصر
والتنازع بين جمود الفقهاء
وإلحاد زنادقة المتفرنجين
(١)

لقد بيَّنَّا في مقالات كثيرة من مجلدات المنار منذ سنته الأولى إلى الآن ما كان
من تقصير علماء المسلمين فيما يجب عليهم للإسلام وأهله، واشتراكهم مع الحكام
والمتصوفة في أسباب إضعافه , وإضاعة ملكه.
وبيَّنَّا في مقالات أخرى مفاسد ملاحدة المتفرنجين من المسلمين، وإضاعتهم
بقايا تراث الإسلام في شعوبهم من أدب وفضيلة ودين، وكنا نبين في أثناء بعض
هذه المقالات , وفي مقالات مستقلة شدة حاجة المسلمين إلى حزب إصلاحي معتدل
يعرف أهله حقيقة الإسلام الصحيح الخالي من الخرافات والبدع، الداعي إلى
الصلاح والإصلاح والسعادة والسيادة والملك، ويعرفون ما يتوقف عليه الجمع بين
هذين الأمرين في هذا العصر من علوم وفنون ونظام , وليكونوا هم أهل الحل
والعقد في شعوب الإسلام، ثم فصلنا القول في هذه الأحزاب الثلاثة في كتاب
(الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي كتبناه , ونشرناه عند شروع الترك في هدم خلافة
آل عثمان الصورية؛ لبيان ما يجب على المسلمين في هذه الحال.
كان الفقهاء المقلدون أعوان الملوك، والسلاطين المستبدين، والحكام
المفسدين، وكان هؤلاء أنصارهم ورافعي شأنهم، وكان الغبن في ذلك على الشعوب
الإسلامية التي ابتليت برياسة الفريقين , ثم اشترك مع الفقهاء في هذه المكانة من
الأمراء والملوك، وأعوانهم شيوخ طرق الصوفية بعد أن صارت رياسة للعوام في
الاحتفالات البدعية ومآدب الطعام، ليس فيها شيء من التصوف ولا من هداية
الإسلام، فلولا الملوك الجاهلون وأوقافهم؛ لما تفرق المسلمون شيعًا وأحزابًا باسم
المذاهب، بل كانوا يستقيمون على هدي السلف الصالح، أمة واحدة متحدة في دينها
ودنياها، تستفيد من علم كل نابغ مجتهد فيها من غير تعصب، ولا تحزب لأفراد من
العلماء يرجح كل حزب منهم ظن إمامه على نصوص الشارع، بل جعلوا أقوال
شيوخهم المتأخرين من مقلدي مقلدي المقلدين، كنصوص القرآن فيما يشبه التعبد
بألفاظها، وعدم الخروج عن معانيها، وإن خالفت نصوص الكتاب والسنة، ونافت
جميع مصالح الأمة، حتى ضاق من الحكام بهم كل ذرع، واضطروا إلى مخالفة ما
تعارفوا على أنه هو الشرع، إلى أن انقلب ذلك الوضع، وصار الحكام على هؤلاء
الجامدين ضدًّا، بعد أن كانوا ردءًا لهم ورفدًا. فأما الترك فقد تركوا الشرع كله،
ونبذوا فرعه وأصله، وألغوا محاكمه ومدارسه الشرعية، واستبدلوا به تشريع
الغرب , وقوانينه الوضعية.
وأما مصر فقد سبقت الترك إلى أخذ القوانين المدنية والجزائية عن الإفرنج،
ثم جهر ملاحدتها في أثناء وضع القانون الأساسي للحكومة الدستورية , وفي أثناء
وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية الأول بأنهم يطلبون حكومة لا دينية ,
وقانونا مدنيًّا للأحوال الشخصية يكون عامًّا نافذًا على جميع المصريين، من ملاحدة
ودينيين، مسلمين وغير مسلمين، ثم نشرت جريدتهم (السياسة) مقلات كثيرة
إلحادية بقلم تحريرها , وبأقلام أنصارها من غيرهم، ونصروا كتاب الشيخ علي
عبد الرزاق وهو من أركان حزبهم، نصرًا مؤزرًا؛ لجحده التشريع الإسلامي ,
وزعمه أن الإسلام ليس له دولة ولا حكومة ولا تشريع؛ لأنه دين روحاني محض،
ومن ذلك الحين طفق كُتَّابُ جريدة السياسة يطعنون في جميع علماء الدين
ويحقرونهم، وكان الدكتور طه حسين أول طاعن في الإسلام والمسلمين من أركان
محرري السياسة، ومنهم: محمود أفندي عزمي أول من كتب في الجرائد مقترحًا
أن تكون الحكومة المصرية لا دينية , والأحكام الشخصية فيها مدنية، وهو الآن
إمام هذه الدعاية من محرري السياسة.
ثم نجم قرن الإلحاد في مجلس البرلمان في دورته السابقة , ثم في دورته
الحاضرة من أفراد من الأعضاء لم يجدوا لهم مفندًا، بل وجدوا مؤيدًا , طلب بعض
المسلمين منهم في الدورة الماضية فرصة لصلاة المغرب , وتخصيص مكان
يصلون فيه كما كانت تفعل الدولة العثمانية، فقال بعض الأعضاء: إننا لا نريد
صلاة , أو ما هذا معناه فنفذ قوله.
وفي الدورة الحاضرة طرحت مسألة تكذيب الدكتور طه حسين للقرآن ,
وطعنه في الإسلام في مجلس النواب الحاضر , فأنحى بعض الأعضاء باللائمة على
الحكومة؛ لتركها إياه معلمًا لأولاد الأمة في أعلى مدارسها (الجامعة المصرية) ،
وعدم عقابه على الطعن في دينها الرسمي؛ فتصدى للرد عليهم صاحب الدولة
رئيس الوزارة عدلي باشا يكن , ولكن شايعهم في إدارة نظام المفاوضات صاحب
الدولة سعد زغلول باشا رئيس المجلس حتى كاد يلجئ رئيس الوزارة إلى الاستقالة ,
فتلافى ذلك بعض النواب , وأجلوا البحث إلى أن اجتمع الرئيسان , واتفقا على
ترك هذه المسألة للقضاء , ثم لم يفعل القضاء شيئا.
وبقي الدكتور طه حسين يلقن نابتة الأمة التشكيك في الدين , ويجرئهم على
الإلحاد فيه.
وصاح عضو من أعضاء مجلس النواب في إحدى جلساته: بأنه يجب
القضاء على الدين الذي يبيح تعدد الزوجات - يعني دين الإسلام - وقال آخر:
(إن مصطفى كمال باشا لم يفعل إلا إزالة تكايا أهل الطريق الخرافيين) , فلم ينكر
عليهما المسلمون منهم , ومعناهما واحد , ولكن قال قائل في هذا المجلس: (إنني
بصفتي مسلمًا) أقول كذا , في مسألة إسلامية خاصة بالمسلمين، فصاح بعضهم في
وجهه: لا تقل: إنني مسلم , ليس ههنا إلا مصري يمثل جميع المصريين , أو ما
هذا معناه؛ فلم ينكر هذا أحد على قائله بأن تمثيل النائب لجميع المصريين يحرم
على المسلم أن يصرح بدينه، فههنا مسألة غفل عنها هؤلاء المتفرنجون , وهي أن
هذا المجلس يضع قوانين شرعية إسلامية خاصة بالمسلمين , وهي موضوع مقالنا
هذا , فيجب أن يعلم المسلمون بأي صفة , أو بأي حق يشرعونها.
ثم إن المعاهد الأزهرية كانت قد نالت من الحكومة المصرية مطالب كانت
تعدها ثمرة؛ لاشتراكها في الأعمال الوطنية التي قامت بها الأمة منذ ثورة سنة
١٩١٩ , فسلبتها إياها الحكومة الائتلافية الدستورية الحاضرة؛ فثار طلاب الأزهر ,
وملحقاته بإغراء بعض المدرسين ثورة شؤمى سددوا فيها سهامهم إلى الدستور،
على ما يعتقد الجمهور، فنصح لهم العقلاء من أساتذتهم بترك هذا التهور ,
والإعراض عمن أغراهم به، فغرتهم كثرتهم , وشقشقة ألسنتهم , فلم تغنيا عنهم
شيئًا، كبحت الحكومة كل ما كان لهم من جماح، وقصصت كل ما كان لهم من
جناح؛ فأصبحوا في معاهدهم جاثمين، وانطلقت ألسنة الجرائد في أعراضهم،
وطفقت النيابة العامة تبحث عن موجبات العقاب القانوني من أقوالهم، وتدعو إلى
دور القضاء المتهمين من طلابهم وأساتذتهم، ثم حكمت على بعضهم؛ فغلبوا هنالك ,
وانقلبوا صاغرين، ولم يكونوا في ثورتهم , ولا في سكونهم بمهتدين.
ثُم نقب بعض النواب عما أخذ الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر من وزارة
الأوقاف من المال الذي أنفق في سبيل مؤتمر الخلافة الذي تولى مع هيئة كبار
العلماء الدعوة إليه، فجاءهم وزير الأوقاف ببيانه، وقدره ٢٥٠٠ جنيه؛ فهاجت
الأحزاب الائتلافية الساخطة على شيخ الأزهر، وعلى العلماء العاملين في مؤتمر
الخلافة، وأنشأت جرائدها تشايع من بالغ من النواب في إنكار هذا العمل، وكان
لذلك سببان سياسي , وإلحادي؛
(السبب الأول) أن الأحزاب البرلمانية المؤتلفة التي تمثلها الحكومة
الحاضرة تعد شيخ الجامع الأزهر، وكبار علمائه من أنصار حزب الاتحاد الذي
كان يؤيد الوزارة التي تولت أمر الحكومة في عهد تعطيل الدستور بقوة الاحتلال
القاهرة؛ إذ كان يعد نفسه ويعدونه هم حزب السراي) العامرة، وكان حسن نشأت
باشا وكيل وزارة الأوقاف، ورئيس الديوان الملكي بالنيابة، هو المرجع لشيخ
الأزهر، والسكرتير العام للمعاهد الدينية في أمر الدعوة إلى تأليف مؤتمر الخلافة،
ولذلك كان حزب الاتحاد وحده هو المؤيد لهذا المؤتمر , وهو الذي لا يزال يدافع
عنه وعن أهله في جريدته إلى اليوم كما بلغنا , وكانت الجرائد الوفدية ,
والدستورية تطعن فيه، وهي التي أثارت مسألة نفقاته من بعد، وألبسوها ثوبًا من
التدليس , أو التزوير، تولى كبره بزعمهم الأستاذ الأكبر، وشاركه في وزره كل
من أصابه شيء من المال للمساعدة على هذا العمل، ذلك بأنه وجد في الوثائق
الرسمية أن الشيخ طلب من وزير الأوقاف مبلغًا من أموال الأوقاف الخيرية؛ لينفق
على بعض (الأعمال السائرة) في المعاهد الدينية , وهو (لا يدخل في ميزانيتها) ,
فأعطاه وزير الأوقاف خمسمائة جنيه من فضل وقف يسمى وقف أم حسين عملاً
برأي لجنة الأوقاف الاستشارية، ثم طلب مبلغًا بعد مبلغ , فكان جملة ما أخذه
٢٥٠٠ جنيهًا أنفقها في هذه السبيل، وهو زهاء.
(السبب الثاني) أن حزب الملاحدة افترض هذه الحملة وما ألبسته من ثوبي
زور؛ للانتقام من رجال الدين وتحقيرهم، وإبطال ثقة العامة بدينهم وعلمهم،
فطفق كتابه يحبرون المقالات في إثر المقالات، ويوالون الصيحات الهيعات: أيها
المسلمون، انظروا ما فعل علماؤكم الدينيون، أكلوا أموال الفقراء والمساكين،
واستحلوا ما حرم رب العالمين، فأثبتوا لكم أنه لا ذمة لهم ولا دين، وإننا نحن
الذين ينبذوننا بألقاب الإلحاد والزندقة، والإباحة المطلقة، نغار على دينكم وأوقافكم،
ونضرب على أصابعهم أن تسدر أخلافكم , الأوقاف الأوقاف، ذهبت الأوقاف،
هلك مستحقو الأوقاف , فعاقبوا شيخ الأزهر، على ما دلس وزوّر ....
هل يصدق أحد من علماء الدين، أو رجل مستقل الفكر، ولو من غير
المسلمين، أن أحدًا من هؤلاء الصائحين النائحين، يغار على الأوقاف، أو يدافع
عن الفقراء والمساكين، وهم يعلمون أن عشرات الألوف من الجنيهات تصرف
منتها كل عام في غير مصارفها الشرعية، ولا يرون جريدة تقول كلمة في ذلك؟
أم يعتقد عاقل أن شيخ الأزهر خدع وزير الأوقاف العالم القانوني، وغشه بإيهامه
إياه أن ما طلبه من المال لبعض الأعمال السائرة في المعاهد الدينية كان يريد إنفاقه
على العلم والتعليم بشرط أن لا يدخل ميزانية المعاهد؟ أيجهل أحد من رجال
الحكومة وأصحاب الصحف ومحرريها , أو من الواقفين على الشؤون العامة من
أعضاء البرلمان وغيرهم أن وزير الأوقاف , ووكيل وزارته , ولجنة الشورى فيه
كانوا يعلمون أن شيخ الأزهر قد طلب المال؛ لأجل النفقة على مؤتمر الخلافة الذي
شرع في دعوة العالم الإسلامي إليه؟
كلا , إنهم يعلمون ذلك , ولكنهم يغشون من لا يعلم من النواب والعوام، فإن
كان في الطلب تزوير , فالمسئول الأول عنه وزير الأوقاف , لا شيخ الجامع الأزهر.
والحق أن شيخ الأزهر طلب ما يعتقد أنه حق مشروع , وأنفقه في سبيله،
وإن أساءت السكرتارية في تفصيله، فإن مسألة الخلافة من أهم المسائل الإسلامية
التي يجوز الإنفاق في سبيلها من أموال الأوقاف الخيرية العامة , وأما الشكل الذي
أبرز الطلب فيه , وبنى الدفع عليه , فالظاهر أنه أمر شكلي وضعته لجنة الاستشارة
في الأوقاف.
كان مجموع ما أجملناه من حوادث مصادمة الدين، وتحقير رجاله موسعًا
لمسافة الخلف، وسوء الظن بين رجال الدين، وبين دعاة الإلحاد الذين صرحوا في
مقالات عديدة نشرت في جريدة السياسة بأن ثقافة التفرنج الجديدة التي ترفع أركانها
مدرسة الجامعة المصرية ستقضي على الثقافة الإسلامية التي كان ينبوعها الجامع
الأزهر.
في أثناء هذا التنازع، والتصارع بين الإسلام والإلحاد قامت الحكومة
بمشروع قانون الأحكام الشخصية الذي نص فيه على: منع عقد المسلم التزوج على
زوج ثانية إلا بشروط فوض الأمر فيها إلى القاضي , وعلى أحكام أخرى مخالفة
للمذاهب الأربعة التي تدرس في الأزهر , وأمثاله من مدارس أهل السنة، فأوجس
جمهور علماء الأزهر وغيرهم خيفة منه، وعدوه خطوة أو خطوات في الطريق
التي سبقت إليها الحكومة التركية من تحديد سن الزواج في كل من الزوجين الذي
تبعتها فيه الحكومة المصرية , ومن وضع (قانون العائلة) الذي هي بصدد اتباعها
فيه، وأخوف ما يخيفهم منه هو جعل الأحكام قانونًا، وجعل الشارع له البرلمان
المصري المؤلف من المسلمين، وغير المسلمين، وبناء تنفيذه على هذا لا على
كون الشارع له هو الله ورسوله.
ومن سوء حظ الأزهر أن الجامدين على التعصب لكتب معينة في فقه
المذاهب الأربعة ليسوا أصحاب حجة ولا برهان، ولا يقدرون على الدفاع عن
الدين بالسلاح العلمي القاطع في هذا الزمان، بل يريدون أن يكونوا على ما عهدوا
في الزمن الماضي من التسليم لهم بما يقولون أنه حكم الله، وهم يفتون في مسائل
حادثة لم تكن في عصر التنزيل , ولا في عصور الاجتهاد المطلق أو المقيد , أو
التخريج , أو التصحيح , واجتهاد المجتهد ظن له لا حكم لله، والتخريج عليه أبعد
منه عن ذلك، والتصحيح لأحد قولين مخرجين على نصوص المجتهد , أو قواعده،
لا يرتقي صاحبه إلى درجة المخرج له، ودون هذه الطبقة طبقة ناقلي التصحيح،
ومنهم أفقه فقهاء هذا العصر على حسب عرف هؤلاء المقلدين، فهم في الدرجة
الخامسة عند طائفة , والسادسة عند أخرى، وبينهم وبين معرفة حكم الله تعالى
خمسة حجب , أو ستة باعترافهم.
ألا إن العالم يحتاج إلى إصلاح، ولن يستطيع شعب إسلامي أن يتحمل أثقال
تقليد هؤلاء المقلدين لمذهب واحد، ولا أن يجعلوا مصالحهم الزوجية والمنزلية
والمالية منوطة بفهمهم لكتب مذهب واحد في عسره ويسره، وقد آن للمستقلين في
فهم الدين أن يبينوا يسر الشرع الإلهي للمسلمين، فقد زالت دولة هؤلاء الجامدين
المشددين، ويخشى أن يدال منها لملاحدة المتفرنجين، وفي الأزهر وغيره من
المعاهد الدينية أنصار لهذا الإصلاح سيجدون أعوانًا من جميع الطبقات.
(للموضوع تتمة)
((يتبع بمقال تالٍ))