للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى
(٤)

نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم

أقل الشيء الذي لم يطيقوه , وعجزوا عن معاناته عجزًا تامًّا , فهو ما في
الإسلام من محاربة الاستبداد , والاحتكار , والغش , والقمار , والربا , والبغاء ,
والخمر أمهات الرذائل , والجرائم الاجتماعية التي أَنَّتْ منها الإنسانيةُ.
فهم يريدون الانحلال من هذه التكاليف؛ للمسارعة خفافًا وثقالاً إلى الانهماك
في الآثام والشرور، وملازمة الحانات , والمواخير، وليعيشوا عيشة البهائم والكلاب
يسكرون , ويتسافدون على قارعة الطريق، ويرابون , ويقامرون جهارًا كما يقامر
الماليون ويرابون في البنوك والبورصة يحتكرون الأرزاق والأقوات , ويستبدون بها
وبأسعارها إلى ما لا يحصى من الموبقات والمحاكم الإباحية تؤيدهم بحرابها
وجنودها.
وثانيهما أن يكونوا جاهلين حقيقة الإسلام , ومزاياه إلا ما يعرفونه مما كتبه
عنه الاستعماريون المعطلون , والرهبان المتنطعون الحاقدون , فإذا كانوا كذلك ,
وهو ما تدل عليه كتاباتهم المشوشة , وخطبهم المعقدة , فينبغي تعليمهم من جديد إن
كانوا حسني النية , وإرشادهم إلى الكتب النافعة , وجدالهم بالتي هي أحسن حتى
يرجعوا إلى طريق الهدى , فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ
يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) .
لذلك استنسبنا أن نختم هذه الملاحظات على كتاب حقيقة الإسلام بلاحقة , أو
نداء عام للأزهريين , وسنتابع ملاحظتنا على الكتاب حتى تمامه متى ساعدتنا
الفرصة.
لاحقة
أو نداء عام لعلماء الأزهر والمعاهد الدينية
ليسمح لنا مشايخ الأزهر وقرهم الله , وأبد حرمتهم أن ننبههم لبعض الواجبات
المتعين عليهم القيام بها؛ عملاً بالحديث الذي أخرجه مسلم , عن تميم الداري أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) , قلنا: لمن؟ قال: (لله ,
ولكتابه , ولرسوله , ولأئمة المسلمين , وعامتهم) , فنقترح على ساداتنا الأزهريين
اقتراحين:
(أحدهما) إحداث جمعيات من علماء الأزهر , والمعاهد الدينية في القطر
المصري كله تكون وظائفها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر امتثالاً لقوله تعالى:
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) , وذلك بإنشاء جرائد , ومجلات ,
ومنشورات دورية توزعها بأرخص ثمن , والبعض مجانًا , وبإذاعة ذلك على لسان
التلاميذ في المعاهد والمدارس , وبتبليغ التلاميذ لأوليائهم وأقاربهم وجيرانهم
وجلسائهم , وبإلقاء الخطب والمسامرات في المساجد والمدارس والمنتديات
والاحتفالات.
وأول وظائفها: حض الحكومة على إزالة المنكرات , والمحرمات , وإرشاد
مشايخ الطرق لتبديل تعاليمهم لتابعيهم بأن يعلموهم قواعد الإسلام الخمس , ومحاسن
الأخلاق , وأن يحضوهم على التعلم والتعليم , ومزاولة الصنائع النافعة , فذلك خير
من الشطح , والرقص , وتضييع الوقت بتلاوة أوراد ما أنزل الله بها من سلطان
أكثرها لا يفهم , ولا معنى له.
وقد أحسن المصلح الكبير السلطان عبد العزيز بن السعود أعانه الله في سبقه
العالم الإسلامي إلى هذه المنقبة الجليلة , فأصدر أمره بتأسيس جماعات للقيام بالأمر
بالمعروف , والنهي عن المنكر.
(وثانيهما) إحداث جمعيات تشتغل بالسياسة العامة؛ لتظهر للعالم أجمع أن
الإسلام دين ودولة , وذلك بإحضار المعدات اللازمة لذلك من كل وجه , وأهمها:
إصدار الجرائد والمجلات على نفقة الجمعيات يومية وأسبوعية وشهرية ودخول
معترك الحياة السياسية بسلاح متين , وإذا قلنا: السياسة , فمرادنا بها السياسة
الشرعية المنزهة عن التدجيل والتضليل وقلب الحقائق والكذب والبهتان وقول
الإنسان ما يعتقد بطلانه , أو تكذيب , وإبطال ما يعتقده حقًّا , وصوابًا , فهذه السياسة
سياسة الختل , والمراوغة لا يعرفها الإسلام.
وأول ما يتحتم عليهم دخول الحياة النيابية , فإن أعظم وظائف مجلس النواب
هو التشريع , ومراقبة الحكومة , وذلك معنى (الإسلام دين ودولة) , فإذا لم تكن
قوانين المجلس مرتكزة على آراء علماء الدين , فتكون قوانين مبتورة , ومجحفة
معًا.
وإذا تقاعستم يا شموس الأزهر أو جبنتم فإنكم تضيعون نفوسكم ومكانتكم
ووجودكم زيادة عن ضياع الدين الذي أنتم حراسه وحماته.
فلو أنكم كنتم دخلتم المعترك في أيام سعيد , وإسماعيل؛ لكان مرجع التشريع
اليوم كله , أو جله إليكم , ولكنكم فرطتم تفريطًا أضاع عليكم أكبر وظيف كان من
أول واجباتكم , فيجب أن تتداركوا ذلك ما أمكن ما دام رجل الإسلام , وأبو
المصريين سعد باشا معكم , وما دام هو روح مصر , وشمسها المنيرة مساعدًا ,
ومظاهرًا لما يعتقد أنه الواجب.
بقي أن يقال: أين المال اللازم لتأسيس هذه الأعمال؟ فنقول: إن في علماء
مصر أغنياء كثيرين بحمد الله , فيجب أن يتنازلوا عن بعض أموالهم لذلك اقتداء
بكرام الصحابة رضي لله عنهم , فأبو بكر تنازل عن أمواله كلها لمصلحة الإسلام ,
وكان من أغنياء قريش، وعمر تنازل عن أكثر أمواله، وعثمان تنازل عن أموال
كثيرة جدًّا , وجهز جيش العسرة , وكان كل واحد من الصحابة يتنازل عن المال
اختيارًا رغبة لا رهبة؛ فإذا لم يتنازل أغنياء العلماء فيكونون مقصرين , ويسوغ
للوطني الغيور أن يظنهم أو يعدهم جبناء خائنين.
إذا تنازل بعض أغنياء العلماء في مصر , فإن الأمور تسهل جدًّا , فإنكم
ستجدون من بقية العلماء , ومن جمهور المصريين أناسًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه
يناصرون مشروعكم , ويؤيدونكم إن صبرتم , وأحسنتم النية , فإن الله مع الذين
اتقوا , والذين هم محسنون.
أمامكم وأمام أنصاركم ومريديكم عقبات لا تزال إلا بتضحيات، والمشاريع
النافعة العامة لا تقام إلا على تضحيات في أول الأمر وقد قال تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: ٩٢) , لا يهولنكم الأمر فإنه سهل مع الثبات
والصبر , فإن الشاب الكامل مصطفى كامل رحمه الله أسس الحزب الوطني وجرائده
في القطر المصري من شبان أكثرهم ليسوا بأغنياء , ثم دارت الأيام دورتها حتى
صار الحزب الوطني في أيامه وأيام المرحوم محمد فريد بك هو قلب مصر النابض،
وقبض على زمام الرأي العام يأتمر بأمره , وينتهي بنهيه.
لا فائدة في المال إذا لم يثمر مجدًا خالدًا , أو عزًّا أبديًّا , فهذا جمال الدين
الأفغاني , والشيخ محمد عبده قد أنفقا مالهما , وروحهما لإحياء مجد الإسلام , وماتا ,
ولم يخلفا درهمًا , وإنما خلفا من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم ,
والهدى , والإرشاد , ولو توجها للمال لخلفا الملايين.
وهذا أسد الإسلام السيد رشيد رضا صاحب المنار لا يملك دارًا للسكنى التي
يقول الفقهاء فيها: إنها أول ما يشترى , وآخر ما يباع , وقد أنفق ماله , وراحته ,
وحياته أطالها الله في الدفاع عن الإسلام , ونشره , وتأييده , ولو توجه للمال؛ لكان
من أصحاب الأملاك , والأطيان , والأموال الكثيرة.
فالبدار البدار يا علماء الأزهر قبل الفوت , واستعدوا كما أمركم الله بقوله:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: ٦٠) إلخ , {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (الأنعام: ١٥٢) .
وأول ما يلزمكم في الحال أن تطهروا أنفسكم من تعاطي ما يخل بالمروءة
مهما كان فيه من وفور المال، فقد أضحكني، وأبكاني ما نشره فكري أباظه في رده
على الشيخ أبو العيون الذي امتثل ما أمره الله به , ورفع لائحة للحكومة يأمرها
بإلغاء البغاء الرسمي.
جاء في آخر الرد تشنيع على العلماء بأن بعضهم يتعامل بالربا , وبعضهم
يأكل أموال المحاجير , واليتامى إلخ , فهؤلاء إذا ثبت عليهم ذلك يجب التشهير بهم
والتشنيع عليهم بخصوصهم ومحاسبتهم بما أكلوه.
ونقول لفكري أباظه: إن ذلك لا يكون لك حجة في إبقاء البغاء , وإذا كان
بعض العلماء يتعاطى بعض المحرمات؛ فإنهم بشر وليسوا بمعصومين , ولأمثالهم
وغيرهم من الحكام الجائرين شرعت الحسبة والمراقبة , وأسست مجالس
الشورى والنواب , فلا يكون تلطخهم بتلك الهنات مسوغًا لإهمال النزيهين للأمر
بالمعروف , والنهي عن المنكر , بل إنهم إذا أخلوا بذلك يكونون آثمين , وتكون
رواتبهم التي يتقاضونها من الأوقاف , ومن الأمة سحتًا.
وعجيب من فكري أباظه كيف ينعي على الشيخ أبي العيون قيامه بواجب
النهي عن منكر البغاء الذي نهت عنه جميع الشرائع , مع أنه يمتدح تؤدة الشعب
الإنكليزي , وتعقله لدى إصدار القوانين التشريعية , ومراعاة حكومته لأميال
المتدينين منهم , فقد عُلِم أنه لما اكتشف تلقيح الجدري سنَّت حكومة الانكليز قانونًا
للعمل به على وجه الإلزام , فقاومها الذين رأوا تحريمه دينًا ولم يسكن الاضطراب
حتى أضيف للقانون مادة خاصة بإعفاء من يعتقدون حرمته من إلزامهم به , ولا يزال
هذا الإعفاء مستمرًّا إلى الآن.
فما يقوله فكري أباظة لو قام أبو العيون أو غيره , وقاوم تلقيح الجدري
الذي كاد الأطباء يتفقون على فائدته العظمى ونفعه العام، إذًا لطبق السموات
والأرضين بالعويل والصريخ هو وزملاؤه ورموا الدين الإسلامي بأعظم المفتريات ,
والمفتي بالبله , والجنون.
ثم نقول لفكري أباظه أخيرًا: يظهر أن جنابكم من جماعة الاحتلاليين؛ لأن
حكومة الاحتلال هي التي سنَّت هذه السنة السيئة المشئومة , فالمؤيد لأعمالها محبذ
للاحتلال وأذنابه , وبالتالي يكون خائنًا لدينه ووطنه.
وفي الختام أرجو بإلحاح من مشايخ الأزهر الكرام أن يسارعوا إلى إعداد
المعدات , ويتداركوا ما فاتهم , وليتشبهوا بالرسل أولي العزم , ويتدبروا قوله
تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:
١٥٩) , وليستعينوا بالله , فهو نعم المولى , ونعم النصير. ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غيور

(المنار)
إنه ليحزننا أن نضطر إلى إخبار أخينا المصلح المراكشي أن علماء الأزهر
أضعف منةً وإرادة من أن يقوموا بمثل ما دعاهم إليه وأن سعد باشا ليس معهم
وليسوا معه , وأن الحزب الوطني لم يكن كما تصور في نفسه فصور بقلمه، وأن
الخديو هو الذي كان يستخدم المرحوم مصطفى كامل بماله ونفوذه , ونخبره أيضًا
بأن فكري بك أباظه ليس احتلاليًّا كما ظن , ولا يتسع هذا التعليق لبيان الحقيقة فيما أنكره عليه. وسيرى في المنار ما يجب على المسلمين لحفظ الإسلام في هذا العهد.