للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


صاحب المنار وجريدة السياسة

ذكرنا في الجزء الماضي ما بلغنا من قول رئيس تحرير السياسة: إنه لا بد
من قتل صاحب المنار.
ذكرناه تعجبًا من غروره , وتمهيدًا لإثبات سوء نيته فيما سيكتبه ويعده
قاتلاً، وإذا به قد كتب مقالة في جريدة السياسة اليومية بقلمه , ثم استكتب بعض
أجرائه مقالاً آخر في مرآة السياسة الأسبوعية صورت آدابهما أوضح تصوير ,
وأدقه؛ قذع بأفحش الهجو الشعري , وجرأة على البهتان الصريح وقلب الحقائق
استغربهما الناس من السياسة بعد أن انتشرت , وصارت تقرأ , وقد بَعُد عهدهم بما
سبق لها من هذا النحو أيام كانت تحمل أمثال هذه الحملات على الرئيس الجليل
سعد باشا زغلول؛ لامتهان الأمة لها , ولحزبها الحر الدستوري المشاق له , وللوفد
المصري حتى إنه قلما كان يوجد من يقرؤها.
ولكن حنق رئيس تحريرها , وبعض مرءوسيه على صاحب المنار إنما هو
في شيء لا يمس أرزاقهم , ولا رواج جريدتهم , فما باله حملهم على قذع وبهتان
أشد من كل ما عهد منهم ومن غيرهم من أصحاب الجرائد التي يلقبونها بالساقطة؟
حتى أجمع كل من اطلع من العارفين , ولا سيما رجال القانون أننا إذا حاكمنا
الكاتبين عليه؛ يحكم عليها بالعقاب قطعًا؛ لأنه لا يمكن أن يعتذر عنه بأنه خلاف
علمي , أو سياسي , أو غير ذلك من أنواع الخلاف الذي يؤيد فيه كل فريق رأيه.
إن بين المنار , والسياسة خلافًا أهم مما كان بين حزبها , وبين الوفد المصري ,
وهو أن المنار داعية الدين الإسلامي , والمدافع عنه، والسياسة تقوم بدعاية إلحادية
تريد أن تنسخ بها هداية الإسلام , وتقطع الرابطتين الإسلامية والعربية بما تعبر عنه
بالثقافة المصرية , والتجديد، ولكن ليس في شيء من المقالتين تخطئة للمنار في شيء
من رأيه في ذلك , ولا دفاع عن ثقافتها وتجديدها، وإنما كله بهت في مثالب شخصية
مختلقة كزعمها أن صاحب المنار ليس ليه دين ولا عقيدة ولا مذهب , فتارة يكون
مسلمًا سنيًّا أو شيعيًّا أو وهابيًّا , وتارة بوذيًّا أو برهميًّا وتارة ملحدًا! ! وما أشبه هذا.
لعل جريدة السياسة تريد أن تستدرجنا بهذا إلى منازلتها في هذا الميدان الذي
تعلم علم اليقين أننا لسنا من فرسانه , وإن جميع فرسانه المبرزين ينهزمون أمامها
فيه، وقد سبق لنا أن قلنا في تفسير قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩) : إن الجرائد البذيئة في هذا العصر
قد بذت الشعراء الهجائين في العصور الخالية , فيجب الإعراض عنها، وإذا نحن
عاتبنا , أو عتبنا على أحد في هذا المقام , فإنما نعتب على الحزب الحر الدستوري
الذي جعل أمثال هؤلاء الكتاب لسان حاله , ومحررين لجريدته، فهو المسؤول عن
قذعهم , وبذاءتهم , وعن إلحادهم أيضًا , فإن كنا لا نعرف رأي زعمائه كلهم , أو
أكثرهم في الأمر الثاني , فإننا نجزم بنزاهتهم كلهم عن الأول، ومن يمتري في
آداب عدلي باشا , وثروت باشا , والدكتور حافظ بك عفيفى إلخ.
نعم إن الأحزاب لا بد لها من جرائد تنشر دعوتها , وتحمي حماها , ولو
بالطعن الشخصي في خصومها كما كانت القبائل تختار لها شاعرًا هجاء يدافع عنها
إذا هجيت يلقب بسفيه القوم، وكان خصوم القبيلة يهجونها في جملتها دون سفيهها
عملاً بقول الشاعر:
ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل بلاء الناس من رابط الكلب
ونحن لم نكن من خصوم الحزب الدستوري , ولا هجونا رجلاً من زعمائه ,
ولا من دهمائه , وما كان الهجو والثلب من شأبنا.
ولو كانت السياسة ترد على ما ننشره من تفنيد بعض نشرياتها الإلحادية
عملاً بحرية الرأي والنشر الذي تدافع به عن الكتب الإلحادية ككتب علي عبد
الرازق وطه حسين , وتعترف لنا بمثل هذه الحرية لما شكوناها إلى حزبها , ولا
لامها أحد , فإن هذا التباين بيننا لا يمكن السكوت عليه.