للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قرار النيابة العامة
في قضية الدكتور طه حسين

وصلت إلينا نسخة من هذا القرار فإذا هو يؤيد ما كتبه الكاتبون من علماء
الشرع , ومن علماء القوانين , ومن سائر طبقات العرافين من إثبات جهل طه
حسين فيما كتبه , وطعنه في الدين الإسلامي , وتكذبيه للقرآن , وتقليده في ذلك
لبعض دعاة النصرانية، وإننا ننقل منها ما سبقتنا إلى تلخيصه جريدة الأخبار
الغراء للثقة بها قالت:
أصدر حضرة صاحب العزة محمد بك نور رئيس نيابة مصر قرارًا مسببًا عن
البلاغات التي قدمت ضد الدكتور طه حسين؛ لتأليفه كتابًا أسماه الشعر الجاهلي.
ويقع هذا القرار في ست عشرة صفحة من القطع الكبير , وقد تناول في
مقدمته الإشارة إلى أسماء الأشخاص المبلغين , وهم الشيخ خليل حسنين الطالب
بالقسم العالي بالأزهر , وفضيلة شيخ الجامع الأزهر , وحضرة عبد الحميد أفندي
البنان عضو مجلس النواب.
ثم أتى القرار على التهمة التي وجهها المبلغون إلى الدكتور , وهي أنه طعن
في الدين الإسلامي في مواضع أربعة من كتابه:
(الأول) أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في أخباره عن
إبراهيم وإسماعيل.
(الثاني) ما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها.
(الثالث) ينسبون للمؤلف أنه طعن في كتابه على النبي صلى الله عليه
وسلم طعنًا فاحشًا من حيث نسبه.
(الرابعة) أنكر المؤلف أن للإسلام أولية في بلاد العرب؛ وأنه دين إبراهيم.
***
عن الأمر الأول
تناول القرار الكلام عن الأمر الأول باستفاضة واسعة , وذكر أقوال الدكتور
طه في الشعر الجاهلي ولغة العرب , وعاب طريقة المؤلف الاستدلال والاستنتاج
ثم انتقل إلى تعرضه لإبراهيم وإسماعيل , فقال:
إن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في
أبحاثه حيث يبدأ بافتراض يتخيله، ثم ينتهي بأن يرتب عليه قواعد كأنها حقائق
ثابتة كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير , وبين لغة عدنان، ثم في مسألة
إبراهيم وإسماعيل , وهجرتهما إلى مكة , وبناء الكعبة؛ إذ بدأ فيها بإظهار الشك ,
ثم انتهى باليقين [١] .
بدأ بقوله: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل , وللقرآن أن يحدثنا
عنهما أيضًا , ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات
وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن
إبراهيم إلى مكة؛ ونشأة العرب المستعربة فيها) , إلى هنا أظهر الشك؛ لعدم قيام
الدليل التاريخي في نظره كما تتطلبه الطرق الحديثة، ثم انتهى بأن قرر في كثير
من الصراحة قوله: (أمر هذه القصة إذن واضح , فهي حديثة العهد ظهرت قبيل
الإسلام , واستغلها الإسلام لسبب ديني) إلخ , فما هو الدليل الذي انتقل به من الشك
إلى اليقين؟ هل دليله هو قوله: (نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا
من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية
والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وإن أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه
الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون في شمال البلاد العربية ,
ويبثون فيه المستعمرات) إلخ , وإن ظهور الإسلام , وما كان من الخصومة العتيقة
بينه , وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن تثبت الصلة بين الدين
الجديد , وبين ديانتي النصارى , واليهود، وإنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن
تؤيدها صلة مادية إلخ.
إذا كان الأستاذ المؤلف يرى أن ظهور الإسلام قد اقتضى أن تثبت الصلة بينه ,
وبين ديانة اليهود , والنصارى، وأن القرابة المادية الملفقة بين العرب , واليهود
لازمة لإثبات الصلة بين الإسلام , وبين اليهودية؛ فاستغلها لهذا الغرض , فهل له
أن يبين السبب في عدم اهتمامه أيضًا بمثل هذه الحيلة؛ لتوثيق الصلة بين الإسلام ,
وبين النصرانية؟ وهل عدم اهتمامه هذا معناه عجزه أو استهانته بأمر
النصرانية؟ وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود بأي ثمن حتى باستغلال
التلفيق هو الذي يقول عنهم في القرآن: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا
اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (المائدة: ٨٢) ؟
إن الأستاذ ليعجز حقًّا عن تقديم هذا البيان؛ إذ إن كل ما ذكره في هذه المسألة
إنما هو خيال في خيال، وكل ما استند عليه من الأدلة هو: (١) فليس يبعد أن
يكون , (٢) فما الذي يمنع , (٣) ونحن نعتقد , (٤) وإذن فليس يمنع قريشًا
من أن تقبل هذه الأسطورة , (٥) وإذن فنستطيع أن نقول -
فالأستاذ المؤلف في بحثه إذا رأى إنكار شيء؛ يقول: لا دليل عليه من
الأدلة التي تطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في منهج البحث،
وإذا رأى تقرير أمر لا يدلل عليه بغير الأدلة التي أحصيناها له , وكفى بقوله
حجة!
سئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة (أي: تلفيق القصة) , وهل
هي من استنتاجه , أو نقلها؟ فقال: هذا فرض فرضته أنا دون أن أطلع عليه في
كتاب آخر، وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئًا مثل هذا الفرض يوجد في
بعض كتب المبشرين , ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي. على أنه سواء
كان هذا الفرض من تخيله كما يقول , أو من نقله عن ذلك المبشر الذي يستتر تحت
اسم هاشم العربي؛ فإنه كلام لا يستند إلى دليل , ولا قيمة له، على أننا نلاحظ أن
ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام؛ كان في
عبارته أظرف من مؤلف كتاب (الشعر الجاهلي) ؛ لأنه لم يتعرض للشك في وجود
إبراهيم , وإسماعيل بالذات، وإنما اكتفى بأن أنكر أن إسماعيل أبو العرب , وقال:
إن حقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقهاء قدماء اليهود للعرب تزلفًا
إليهم إلخ.
كما نلاحظ أيضًا أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل؛ لأن
وظيفة التبشير لدينه غرضه الذي يتكلم فيه، ولكن ما عذر الأستاذ المؤلف في طرق
هذا الباب , وما هي الضرورة التي ألجأته إلى أن يرى في هذه القصة نوعًا من
الحيلة إلخ.
وإن كان المتسامح يرى له بعض العذر في التشكك الذي أظهره أولاً اعتمادًا
على عدم وجود الدليل التاريخي كما يقول , فما الذي دعاه إلى أن يقول في النهاية
بعبارة تفيد الجزم: " أمر هذه القصة إذن واضح , فهي حديثة العهد ظهرت قبيل
الإسلام , واستغلها الإسلام لسبب ديني إلخ " مع اعترافه في التحقيق بأن المسألة
فرض افترضه.
يقول الأستاذ: إنه إن صح افتراضه؛ فإن القصة كانت شائعة بين العرب
قبل الإسلام , فلما جاء الإسلام استغلها , وليس ما يمنع أن يتخذها الله في القرآن
وسيلة لإقامة الحجة على خصوم المسلمين , كما اتخذ غيرها من القصص التي
كانت معروفة وسيلة إلى الاحتجاج , أو إلى الهداية , وهاشم العربي يقول في مثل
هذا: ولما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم رأى المصلحة في إقرارها؛ فأقرها ,
وقال للعرب: إنه إنما يدعو إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه) ,
فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر (! !) .
إن الأستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب , وأخطأ أيضًا في تفسير ما كتب , وهو
في هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن , ولتفسير نصوص القرآن ,
وليس في وسعه الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلاً عن الدين؛ فليفسر لنا إذن
قوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} (النساء: ١٦٣)
وقوله في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ} (مريم: ٤١) , {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً
نَّبِياًّ} (مريم: ٥٤) , وفي سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ
عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:
٨٤) .
وغير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التي ورد فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل
لا على سبيل الأمثال كما يدعي حضرته، وهل عقل الأستاذ يسلم بأن الله سبحانه
وتعالى يذكر في كتابه أن إبراهيم , وأن إسماعيل رسول نبي مع أن القصة ملفقة؟
وماذا يقول حضرته في موسى وعيسى , وقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى في الآية
الأخيرة مع إبراهيم وإسماعيل , وقال في حقهم جميعًا: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} (آل عمران: ٨٤) ؟
الحق أن المؤلف في هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش، ويكاد يعترف بخطئه؛
لأن جوابه يشعر بهذا عندما سألناه في التحقيق عن السبب الذي دعاه أخيرًا لأن
يقرر بطريقة تفيد الجزم بأن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام؛ فقال ص٣٨
من محضر التحقيق: هذا العبارة إذا كانت تفيد الجزم؛ فهي إنما تفيده إن صح
الفرض الذي قامت عليه , وربما كان فيها شيء من الغلو , ولكنني أعتقد أن العلماء
جميعًا عندما يفترضون فروضًا علمية يبيحون لأنفسهم مثل هذا النحو من التعبير ,
فالواقع أنهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم بأن فروضهم راجحة.
والذي نراه نحن أن موقف الأستاذ المؤلف هذا لا يختلف عن مواقف الأستاذ
هوار حين يتكلم عن شعر أمية بن أبي الصلت , وقد وصف المؤلف نفسه هذا
المؤلف في ص ٨٢ و ٨٣ من كتابه بقوله: (مع أني أشد الناس إعجابًا بالأستاذ
هوار , وبطائفة من أصحابه المستشرقين , وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان ,
ومن النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي وبالمناهج التي يتخذونها للبحث ,
فإني لا أستطيع أن أقرأ مثل هذه الفصل دون أن أعجب كيف يتورط العلماء
أحيانًا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم) .
حقًّا إن الأستاذ المؤلف قد تورط في هذا الموقف الذي لا صلة بينه وبين العلم
لغير ضرورة يقتضيها بحثه , ولا فائدة يرجوها؛ لأن النتيجة التي وصل إليها من
بحثه , وهي قوله: (إن الصلة بين اللغة العدنانية , وبين اللغة القحطانية كالصلة
بين اللغة العربية , وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة، وإن قصة العاربة ,
والمستعربة , وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك حديث أساطير لا خطر
له , ولا غناء فيه) ما كانت تستدعي التشكك في صحة أخبار القرآن عن إبراهيم ,
وإسماعيل , وبنائهما الكعبة , ثم الحكم بعدم صحة القصة , وباستغلال الإسلام لها
لسبب ديني.
ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين , وبين العلم ,
وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث الذي هو
بطبيعته قابل للتغيير والنقض والشك والإنكار (ص٢٢ عن محضر التحقيق) , وإننا
حين نفصل بين العلم والدين؛ نضع الكتب السماوية موضع التقديس ونعصمها
من إنكار المنكرين وطعن الطاعنين (ص٢٤ من محضر التحقيق) , ولا ندري لم
يفعل غير ما يقول في هذا الموضوع؟ لقد سئل في التحقيق عن هذا؛ فقال: إن
الداعي أني أناقش طائفة من العلماء والأدباء والقدماء والمحدثين , وكلهم يقررون أن
العرب المستعربة قد أخذوا لغتهم عن العرب العاربة بواسطة أبيهم إسماعيل بعد
أن هاجر، وهم جميعًا يستدلون على آرائهم بنصوص من القرآن , ومن الحديث ,
فليس لي بد من أقول لهم: إن هذه النصوص لا تلزمني من الوجهة العلمية.
أما الثابت في نصوص القرآن , فقصة الهجرة , وقصة بناء الكعبة , وليس
في القرآن نصوص يستدل بها على تقسيم العرب إلى عاربة , ومستعربة , ولا على
أن إسماعيل أبو العرب العدنايين , ولا على تعلم إسماعيل العربية من جرهم.
ونص الآية التي تثبت الهجرة: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: ٣٧) لا يفيد غير إسكان ذرية
إبراهيم في وادي مكة - أي: إن إسماعيل هوجر به صغيرًا (كنص الحديث) إلى
هذا الوادي؛ فنشأ فيه بين أهله , وهم من العرب , وتعلم هو وأبناؤه لغة من
نشأوا بينهم , وهي العربية؛ لأن اللغة لا تولد مع الإنسان , وإنما تكتسب اكتسابًا،
وقد اندمجوا في العرب؛ فصاروا منهم، وهذا الاندماج لا يترتب عليه أن يكون
جميع العرب العدنانيين من ذريته؛ إذ الحكم بهذا يقتضي أن لا يكون مع إسماعيل
أحد منهم حتى لا يوجد غير ذريته , وهو ما لم يقل به أحد.
ويا ليت الأستاذ المؤلف حذا حذو ذلك المبشر هاشم العربي في هذه المسألة
حيث قال: (ولا إسماعيل نفسه بأب للعرب المستعربة , ولا تملك أحد من بنيه
على أمة من الأمم , وإنما قصارى أمرهم أنهم دخلوا , وهم عدد قليل في قبائل
العرب العديدة المجاورة لمنازلهم؛ فاختلطوا بها , وما كانوا إلا كحصاة في فلاة)
(تراجع صحيفة ٣٥٦من كتاب مقالة الإسلام) , ولو أن المؤلف نقل هذا؛ لنجا من
التورط في هذا الموضوع.
وأما مسألة بناء الكعبة , فلم نفهم الحكمة في نفيها , واعتبارها أسطورة من
الأساطير اللهم إلا إذا كان مراده إزالة كل أثر لإبراهيم وإسماعيل , ولكن ما مصلحة
المؤلف في هذا؟ الله أعلم بمراده [٢] .
***
عن الأمر الثاني
تناول القرار الأمر الثاني الخاص بالقراءات , وبعد تحليله قال: (ونحن نرى
أن ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين ,
ولا اعتراض لنا عليه) .
***
عن الأمر الثالث
تناول القرار مسألة نسب النبي صلى الله عليه وسلم , وبعد أن حللها قال:
(ونحن لا نرى اعتراضًا على بحثه على هذا النحو من حيث هو , وإنما كل ما
نلاحظه عليه أنه تكلم فيما يختص بأسرة النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه في
قريش بعبارة خالية من كل احترام , بل بشكل تهكمي غير لائق , ولا يوجد في
بحثه ما يدعوه لإيراد العبارة على هذا النحو) .
***
الأمر الرابع
تناول القرار الأمر الرابع , وبعد تحليله قال: ونحن لا نرى اعتراضًا على
أن يكون مراده بما كتب في هذه المسألة هو ما ذكره , ولكننا نرى أنه كان سيئ
التعبير جدًّا في بعض عباراته كقوله: ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم , ولا زعم
لنفسه الانفراد بتأويلها، لقد أخذ المسلمون يردون دين الإسلام في خلاصته إلى دين
إبراهيم هذا الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى.
وكقوله: وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام , وبعده فكرة أن الإسلام
يجدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب
في عصر من العصور ...؛ لأن في إيراد عبارته على هذا النحو ما يشعر بأنه
يقصد شيئًا آخر بجانب هذا المراد، خصوصًا إذا قربنا بين هذه العبارات، وبين ما
سبق له أن ذكره بشأن تشككه في وجود إبراهيم , وما يتعلق به.
***
عن القانون
نصت المادة (٢) من الأمر الملكي رقم (٤٢) لسنة ١٩٢٣بوضع نظام
دستوري للدولة المصرية على أن حرية الاعتقاد مطلقة.
نصت المادة (١٤) منه على أن حرية الرأي مكفولة , ولكل إنسان الإعراب
عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون.
ونصت المادة ٤٩ منه على أن الإسلام دين الدولة , فلكل إنسان إذًا حرية
الاعتقاد بغير قيد , ولا شرط , وحرية الرأي في حدود القانون , فله أن يعرب عن
اعتقاده وفكره بالقول أو الكتابة بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون.
وقد نصت المادة ١٣٩ من قانون العقوبات الأهلي على عقاب كل تعد يقع
بإحدى طرق العلانية المنصوص في المادتين ١٤٨، ١٥٠ على أحد الأديان التي
تؤدى شعائرها علنًا، وجريمة التعدي على الأديان المعاقب عليها بمقتضى المادة
المذكورة تتكون بتوفر أربعة أركان:
١- التعدي.
٢- وقوع التعدي بإحدى الطرق العلنية في المادتين ١٤٨، ١٥٠ عقوبات.
٣- وقوع التعدي على أحد الأديان التي تؤدى شعائرها علنًا.
٤- القصد الجنائي.
***
عن الركن الأول
لم يذكر القانون بشأن هذا الركن في المادة إلا لفظ (تعد) , وهذا لفظ عام
يمكن فهم المراد منه بالرجوع إلى نص المادة باللغة الفرنسية , وقد عبر القانون فيه
عن التعدي OUTRGE , والقانون قد استعمل لفظ OUTRAGE هذا في المواد
١٥٥ و ١٥٩ و١٦٠ عقوبات أيضًا , ولما ذكر معناها في النص العربي للمواد
المذكورة؛ عبر في المادة (١٥٥) بقوله: (كل من انتهك حرمة) , وفي المادتين
١٥٩، ١٦٠ بإهانة , فيتضح من هذا أن مراده بالتعدي في المادة ١٣٩ هو كل
مساس بكرامة الدين أو انتهاك حرمته أو الحط من قدره أو الازدراء به؛ لأن
الإهانة تشمل كل هذه المعاني بلا شك.
وحيث إنه بالرجوع إلى الوقائع التي ذكرها الدكتور طه حسين , والتي تكلمنا
عنها تفصيلاً , وتطبيقها على القانون؛ يتضح أن كلامه الذي بحثناه تحت عنوان
(الأمر الأول) فيه تعد على الدين الإسلامي؛ لأنه انتهك حرمة هذا الدين بأن نسب
إلى الإسلام أنه استغل قصة ملفقة هي قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ,
وبناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة , واعتبار هذه القصة أسطورة , وأنها من تلفيق
اليهود، وأنها حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام إلى آخر ما ذكرناه تفصيلاً عند الكلام
على الوقائع , وهو بكلامه هذا يرمي الدين الإسلامي بأنه مضلل في أمور هي عقائد
ثابتة وواردة في القرآن باعتبار أنها حقائق لا مرية فيها , كما أن كلامه الذي بحثناه
تحت عنوان (الأمر الرابع) قد أورده على صورة تشعر بأنه يريد به إتمام فكرته
بشأن ما ذكر , أما كلامه بشأن نسب النبي صلى الله عليه وسلم , فهو إن لم يكن فيه
طعن ظاهر إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره , وأما ما ذكره بشأن
القرآن مما تكلمنا عنه في الأمر الثاني فإنه بحث بريء من الوجهة العلمية والدينية
أيضًا , ولا شيء فيه يستوجب المؤاخذة لا من الوجهة الأدبية , ولا من الوجهة
القانونية.
***
عن الركن الثاني
لا كلام في هذا الركن؛ لأن الطعن السابق بيانه قد وقع بطريق العلانية.
إذ إنه أورد في كتاب الشعر الجاهلي الذي طبع ونشر وبيع في المحلات
العمومية , والمؤلف معترف بهذا.
***
عن الركن الثالث
لا نزاع في هذا الركن أيضًا؛ لأن التعدي وقع على الدين الإسلامي الذي
تؤدى شعائره علنًا , وهو الدين الرسمي للدولة.
***
عن الركن الرابع
هذا الركن هو الركن الأدبي الذي يجب أن يتوفر في كل جريمة , فيجب
لمعاقبة المؤلف أن يقدم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه، وبعبارة أوضح يجب
أن يثبت أنه إنما أراد بما كتب أن يتعدى على الدين الإسلامي , فإذا لم يثبت هذا
الركن؛ فلا عقاب.
أنكر المؤلف في التحقيقات أنه يريد الطعن على الدين الإسلامي، وقال: إنه
ذكر ما ذكر في سبيل البحث العلمي , وخدمة العلم لا غير ... غير مقيد بشيء،
وقد أشار في كتابه تفصيلاً إلى الطريق الذي رسمه للبحث، ولا بد لنا هنا أن نشير
إلى ما قرره المؤلف في التحقيق من أنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم
وإسماعيل , وما يتصل بهما مما جاء في القرآن , ولكنه كعالم مضطر إلى أن يذعن
لمناهج البحث؛ فلا يسلم بالوجود العلمي التاريخي لإبراهيم وإسماعيل , فهو
يجرد من نفسه شخصيتين , وقد وجدنا المؤلف قد شرح نظريته هذه شرحًا مستفيضًا
في مقال نشره بجريدة السياسة الأسبوعية بالعدد نمرة ١٩ الصادر في١٧ يولية سنة
١٩٢٦ ص ٥ تحت عنوان (العلم والدين) , وقد ذكر فيه بالنص: (فكل امرئ
منا يستطيع إن فكر قليلاً أن يجد في نفسه شخصيتين ممتازين , إحداهما عاقلة
تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس ,
والأخرى شاعرة تلذ وتألم، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وترغب وترهب
في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا لا
نستطيع أن نخلص من إحداهما , فما الذي يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة
باحثة ناقدة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟
ولسنا نعترض على هذه النظرية مما اعترض به هو على نفسه في مقاله ,
حيث ذكر بعد ذلك: (ستقول: وكيف يمكن أن تجمع المتناقضين؟ ولست أحاول
جوابًا لهذا السؤال , وإنما أحولك على نفسك) إلخ , ولا شك في أن عدم محاولة
الإجابة على هذا الاعتراض إنما هو عجزه عن الجواب، والمفهوم أنه قد أورد هذا
الاعتراض؛ لأنه يتوقعه حتى لا يوجه إليه.
الحقيقة أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين في شخص واحد , وفي وقت واحد ,
بل لا بد من أن تتخلى إحدى الحالتين للأخرى , وقد أشار المؤلف نفسه إلى هذا في
نفس المقال في سياق كلامه على الخلاف بين العلم والدين , حيث قال بشأنهما:
(ليسا متفقين , ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما لصاحبه عن شخصيته
كلها) .
أما توزيع الاختصاص الذي أجراه الدكتور؛ بجعله العلم من اختصاص القوة
العاقلة , والدين من اختصاص القوة الشاعرة , فلسنا ندركه، والذي نفهمه أن العقل
هو الأساس في العلم وفي الدين معًا، وإذا ما وجدنا العلم والدين يتنازعان فسبب ذلك
أنه ليس لدينا القدر الكافي من كل منهما.
إننا نقرر هذا بناء على ما نعرفه في أنفسنا , أما الدكتور , فقد تكون لديه
القدرة على ما يقول , وليس ذلك على الله بعسير.
نحن في موضع البحث عن حقيقة نية المؤلف , فسواء لدينا صحت نظرية
تجريد الشخصيتين عالمة , ومتدينة , أو لم تصح؛ فإننا على الفرضين نرى أنه
كتب ما كتب من اعتقاد تام , ولما قرأنا ما كتبه بإمعان؛ وجدناه منساقًا في كتابته
بعامل قوي متسلط على نفسه، وقد بينا حين بحثنا الوقائع كيف قاده بحثه إلى ما
كتب , وهو وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب
شيء , وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر.
وحيث إنه مع ملاحظة أن أغلب ما كتبه المؤلف مما يمس موضوع الشكوى ,
وهو ما قصرنا بحثنا عليه؛ إنما هو تخيلات , وافتراضات , واستنتاجات لا تستند
إلى دليل علمي صحيح , فإنه كان يجب عليه أن يكون حريصًا في جرأته على ما
أقدم عليه مما يمس الدين الإسلامي الذي هو دينه , ودين الدولة التي هو من رجالها
المسؤولين عن نوع من العلم فيها , وأن يلاحظ مركزه الخاص في الوسط الذي
يعمل فيه.
صحيح إنه كتب ما كتب عن اعتقاد بأن بحثه العلمي يقتضيه , ولكنه مع هذا
كان مقدرًا لمركزه تمامًا , وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة في كتابه , منها
قوله: (وأكاد أثق بأن فريقًا منهم سيلقونه ساخطين عليه , وبأن فريقًا آخر
سيًزْوَرُّون عنه ازْوِرَارًا , ولكني على سخط أولئك , وازورار هؤلاء أريد أن أذيع
هذا البحث) .
إن للمؤلف فضلاً لا ينكر في سلوكه طريقًا جديدًا للبحث حذا فيه حذو العلماء
من الغربيين , ولكنه لشدة تأثر نفسه مما أخذ عنهم؛ قد تورط في بحثه حتى تخيل
حقًّا ما ليس بحق، أو ما لا يزال في حاجة إلى إثبات أنه حق؟
إنه قد سلك طريقًا مظلمة , فكان يجب عليه أن يسير على مهل , وأن يحتاط
في سيره حتى لا يضل , ولكنه أقدم بغير احتياط؛ فكانت النتيجة غير محمودة.
وحيث إنه مما تقدم؛ يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن ,
والتعدي على الدين , بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع
من كتابه؛ إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.
وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر.
(فلذلك) تحفظ الأوراق إداريًّا ... ... ... رئيس نيابة مصر
القاهرة في ٣ مارس سنة ١٩٢٧
(المنار)
قد أثبت رئيس النيابة أن الدكتور طه حسين طعن في الدين الإسلامي ,
وكذب القرآن بما سبقه إليه بعض دعاة النصرانية , فكان هذا في طعنه أقرب منه
إلى الأدب، وأثبت أن مطاعنه التي شكا منها المسلمون وطلب بعض رجال الدين
ورجال النيابة البرلمانية محاكمته عليها لم تستند إلى دليل علمي صحيح , وإنما هي
تخيلات , وافتراضات باطلة , وهو قد أثبت بما ذكر ارتداده عن الإسلام، وإنه كان
مقدرًا نتيجة عمله وسوء تأثيره في المسلمين كما صرح به بغير مبالاة , ثم إن الرئيس
مع هذا قد ارتأى أن الدكتور طه يعتقد أن ما كتبه حق , وإنه يقتضيه البحث العلمي ,
ولم يقصد به مجرد الطعن والتعدي , وإنه لهذا لم يجد وجهًا قانونيًّا لمحاكمته؛ فأمر
بحفظ الأوراق الخاصة بقضيته إداريًّا.
وقد رأينا الناس متعجبين من هذه النتيجة ومخالفين لرئيس النيابة في استنتاجه
على إعجابهم بدقة فهمه وحسن تفنيده لتلك المطاعن.
وقد سبق لي أن بينت في المنار ما فهمته من غرض الدكتور طه حسين ,
وهو تشكيك طلبة الجامعة المصرية , وسائر من يقرأ كتابه في الدين الإسلامي؛ بل
إفساد اعتقادهم , وتجرئتهم على الكفر؛ لأنه ليس من الغباوة والبلادة بحيث يعتقد
أن تلك (التخيلات , والافتراضات) أدلة علمية على حقية طعنه , فهو لا يعتقد أن
ما كتبه حق إلا من حيث إنه لا يؤمن بأن كتاب الله هو الحق الذي {لاَ يَأْتِيهِ
البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) .
ثم أقول: إذا كان من يطعن في دين الدولة والأمة طعنًا صريحًا لا يستند
إلى دليل , ولكنه هو يعتقده؛ يباح له ذلك قانونًا , ولا يحاكم , ولا يعاقب , فكيف
يعقل أن يكون الطعن في الدين ممنوعًا , ومن الضروري أنه لا يطعن فيه إلا من
يعتقد بطلانه من ملحد , أو متدين بدين آخر؟
ألا إن هذا القرار يجرئ كل كافر بالإسلام على الطعن فيه، وهل يطعن فيه
إلا كافر به؟
هذا وإن الدكتور طه قد استقال من التعليم في الجامعة عقب صدور هذا القرار؛
لما فيه من الإهانة له , وإثبات جهله , فبادر مدير الجامعة أحمد لطفي بك السيد
إلى تلافي الأمر , وحمل وزير المعارف على أن لا يقبل استقالته؛ ففعل، فعلم بهذا
من لم يكن يعلم رأي كل من مدير الجامعة , ووزير المعارف في الدكتور طه حسين ,
وقد طبع كتابه ثانية بعد حذف ما أنكر المسلمون منه , وهو باق في الجامعة ,
فمن شاء؛ فليرض , ومن شاء؛ فليغضب {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩) .