للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كيف تنهض اللغة العربية

بحث للأستاذ عبد السميع أفندي البطل من حذاق مدرسي المدارس الأهلية
عرضه على مؤتمر اللغة العربية المتصور بمناسبة الاحتفال بأحمد شوقي بك أمير
الشعراء بمصر - قال بعد مقدمة مناسبة للاحتفال ما نصه:
(آمالنا في المؤتمر)
طالما تمنت نفوس الغيورين من شداة الأدب، والذادة عن لسان العرب، عقد
مؤتمر كهذا للبحث والتشاور في حالة اللغة ومستقبلها، وما يجب عمله على أبنائها؛
لتثبيت قدميها أمام هذا التنازع المستحر بينها وبين اللغات الحية قبل تطبيق قانون
بقاء الأصلح على المصروع منهن في ميدان التجاذب.
حقًّا! إن الفرصة سانحة، والوقت مساعد، وما نرى اللغة في وقت بمسيس
الحاجة إلى هذه المباحث أشد منها في هذا الوقت الذي أصبحت فيه اللغات أداة من
أدوات المزاحمة في الحياة الزاخرة بعلومها وآدابها وصناعاتها ومخترعاتها وكل
ناحية من نواحيها.
وإن مما يذكر بالشكر للقائمين بتنظيم الاحتفال بشاعرنا العبقري أن دعوا
دعوة جفلى , كل من له اقتراح أو عنده رأي في خدمة اللغة ونهضتها أن يقدمه لهم؛
ليكون له ما بعده، ففتحوا بذلك بابًا واسعًا يجدر بكل غيور على اللغة أن يلجه
غير متوان ولا متواكل.
لذلك يتقدم هذا الضعيف إلى جماعة المحتفلين بالشكر والثناء، عارضًا عليهم
ما يراه الطريق اللاحب إلى تعليم اللغة - عرض خبير زاول تعليمها بضع عشرة
سنة بدت له في خلالها عيوب كثيرة في طرق التدريس، ويرى أنها هي التي قعدت
بالمتعلمين عن إجادة لغتهم - بله النهوض بها وخدمتها من طريق العمل كالتصنيف
والترجمة والتعريب والوضع العرفي.
ولما كان استقصاء هذه العيوب , وشرح مضارها , وذكر طرق إصلاحها
بالتوسع المطلوب لا يتسع له وقت المؤتمر - رأيت أن أسلك سبيل الإيجاز، ورب
قليل خير من كثير.
فإذا أسعدني المؤتمر بقبول هذه الرسالة ونشرها فيما يرتئي نشره؛ كان ذلك
إعزازًا للفكرة وأطير لها ذكرًا، والفكرة متى برزت من مكمنها , ووجدت تربة
خصبة، وجوًّا ملائمًا، نمت وترعرعت وآتت أكلها ضعفين.
***
(الموضوع)
ليست اللغة العربية ببدع من اللغات الحية الناهضة النشيطة، فسبيل تلقينهن
والتبحر فيهن، هو عين السبيل المهيع للغتنا إذا أردناها غضة بضة، وما سبيلهن
إلا الحفظ والتقليد في الكتابة والمحادثة، وليس لنا من وسيلة إلى إتقان لغتنا في
قليل من الزمن غير هذه الطريقة، وما سواها باطل وضلال وإليكم أسوق الدليل:
يقضي الطالب في مدارسنا صدر حياته بتعلم اللغة، فينفق الشطر الأكبر من
هذا الزمن في دراسة الوسائل بطريقة ملتوية غير مفيدة , وكلما أمعن فيها زاد بعدًا
عن الغاية , وإن هو وصل إليها؛ وصل وقد أنهكه السرى، وأضناه التعب، وقعد
به الملل، وهيهات أن يحصل شيئًا نافعًا يكسبه ملكة الذوق بحيث يقتدر على
ارتجال خطبة بليغة، أو كتابة رسالة عالية الأسلوب؛ لذلك أرى أن تكون طريقة
التعليم هكذا:
***
(النحو والصرف)
ليست قواعد النحو والصرف مطلوبة لذاتها، بل لتعصم اللسان عن الخطأ في
النطق، وكلما كانت طريقة تعليمها سهلة قريبة المنال، مقتصرًا فيها على القواعد
الأساسية التي يحتاج إليها في تصحيح اللسان وتركيب الجمل - كان ذلك أدعى إلى
الاقتصاد في الوقت , وتوفير جزء كبير منه يصرف في دراسة اللغة نفسها؛ لذلك
يجدر أن يفرغ من دراسة النحو والصرف عند الفراغ من المدارس الابتدائية [١]
مراعى في ذلك تطبيق العلم على العمل في كل قاعدة وبحث، ومراعى في ذلك
أيضًا سنة التدريج مع الطالب في سني الدراسة المختلفة، فيُسْتَغْنَى إذن عن كثير
من أبواب النحو والصرف كلها أو بعضها، كالتوسع في الكلام على المبتدأ والخبر
والمجرد والمزيد من الأسماء، ومواضع الإعلال والإبدال والتصغير والنسب
والإمالة وإعراب (لا سيما) , وفعلي التعجب وصيغ الاستغاثة والندبة والاختصاص
والمنادى المرخم، لعدم الحاجة إليها في الاستعمال، وعدم الاشتباه في بعض الصيغ
إذا جهل إعرابها، لأنها ملازمة لحالة واحدة لا تختلف عنها، والإعراب لا يكسبها
شيئًا جديدًا إلا التهويش واضطراب الذهن وقتل الوقت فيما لا يجدي.
والمهم في تثبيت القواعد: التطبيق في أثناء المطالعة، والتنبيه إلى مواضع
الرفع والنصب والجزم والجر وتوابعها، مع سلامة المفردات، وجعلها موافقة
للفصيح، وقد يكون ذلك صعبًا على الطالب في أول الأمر - ككل شيء في أوله ,
ثم لا يعتم أن يمرن عليه لسانه مع طول الدربة، وكثرة التنبيه، ولا نريد من
القواعد أكثر من هذا.
ولو وجدت هذه الطريقة عناية من المعلم لنجحت نجاحًا باهرًا في أقل زمن
وقد جربتها أنا نفسي في درس خصوصي فكان من نتائجها أن صار الطالب مع قلة
الدروس بعد سنة واحدة في مستوى طلبة السنة الثالثة من المدارس الثانوية بحيث
كنت أعطيه من التطبيقات ما كنت أعطيهم إياه، ولا تسل عن باقي فروع اللغة،
فقد أظهر فيها مهارة عجيبة.
***
(البلاغة)
البلاغة إحساس روحي، وشعور وجداني، وسلامة في الذوق، وملكة في
النفس، ولا يتهيأ ذلك كله لأمثالنا إلا بكثرة مزاولة الكلام البليغ نظمًا ونثرًا،
ومحاكاته كتابة وقولاً، فمن كان حظه من القراءة والحفظ وفيرًا؛ كان قسطه من
البلاغة عظيمًا، ومن كانت حافظته مهزولة مجدبة، وقريحته بليدة مفلسة؛ نأت
عنه البلاغة بجانبها، ولوت عنه أعنتها، وشمست به رامحة، ورفسته جامحة،
وهيهات أن يذلل قيادها، ويمتلك عنانها، إلا بفضل دربة ومرانة، وطول صبر
وأناة.
عرف ذلك رجال الأدب المبرزون، الأقدمون منهم والمحدثون، فكانوا حفظة
بارعين، ورواة ناقلين، والتاريخ يحدثنا عنهم بما يثير في النفس العجب، ويبعثها
على تلمس السبب، فمن في زماننا يتصور أن شاعرًا كأبي تمام كان يحفظ أربعة
عشر ألف أرجوزة غير المقطعات والقصائد، ولا يخجل أن يسميه الناس أديبًا، أو
يخلع هو هذه الخلعة السنية على غيره من الأدعياء؟
قد يكون في مثل هذا الخبر بعض المبالغة، ولكنه يفيد على كل حال في
موضوعنا.
لذلك أقول في غير مواربة: إن قراءة هذه الكتب التي يطلقون عليها كتب
البلاغة - مضيعة للوقت، مهزلة في الحياة، فما كانت إلا مبعدة للبلاغة عن طلابها،
حابسة لها عن ورادها، وما علمنا يومًا أن ضليعًا في البلاغة وقواعدها، خبيرًا،
برسومها واصطلاحاتها، كان كاتبًا مجيدًا، أو شاعرًا مفلقًا، أو خطيبًا مصقعًا اللهم
إلا إذا كان ممن لم تشغلهم المباني عن المعاني، ولم ينصرفوا إلى العناية بالأشباح
مجردة عن الأرواح، في حين أنك تستطيع أن تعد ألوفًا من أهل الخبرة والذوق في
البلاغة، وهم لم يقرؤوا من قواعدها حرفًا، ولا سمعوا فيها درسًا، ولكنهم عرفوها
بالتقليد والمحاكاة، والموازنة بين كلام وآخر، فانطبعت صورتها في نفوسهم،
وتغلغلت في صدورهم، ثم جرت على لسانهم عفوًا لا قصدًا، وهدرت شقاشقهم بها
طبعًا لا تعملاً، وتلك - لعمري هي البلاغة التي تبلغ بصاحبها ما أراد، وتنزل به
في كل واد، ويقتاد بها العاصي، ويستدنى القاصي.
وقد أخجل إذا ذكرت لكم الطريقة التي نتبعها في دراسة البلاغة بالمدارس
الثانوية، وأخبرتكم كيف نضحي بوقت الطلبة بلا جدوى.
إن الطلبة لا يجهلون القواعد الأساسية لعلوم البلاغة، ولا يجهلون التطبيق
عليها، إنهم يدرسون ذلك , وينفقون فيه سنتين من عمرهم، ولكنها دراسة فنية
اصطلاحية محضة، لا حظ فيها للعلم من حيث يكسب ملكة الذوق، ويشعر بجمال
المعنى وطلاوته، فيعرف الطالب مثلاً مواقع التشبيه أو الاستعارة وأركانهما
وإجراءهما بطريقة فنية، ويفرق بين الاستعارة الأصلية والتبعية، والتصريحية
والمكنية، والمرشحة والمجردة والمطلقة، ويعرف التشبيه المجمل والمفصل
والمرسل والمؤكد والبليغ الاصطلاحي وغير البليغ، ولكن ذوقه لا يساعده على
التمييز بين تشبيه بليغ رائع، وآخر مبتذل خامل، ولا بين استعارة بديعة طريفة،
وأخرى ركيكة سخيفة، وقل مثل ذلك في البديع، فهو يستطيع أن يبين المحسنات
البديعية فيما يقرأ من النظم، ولو كان مهلهل النسج فاتر الخيال مبتذل المعنى، ولا
تساعده بلاغته على إدراك هذه العيوب، بل متى ظفر بحاجته من المحسنات؛ طار
بها فرحًا غير ناظر إلى ما وراءها من حسن أو قبح , وهذا الحكم نفسه يجري في علم
المعاني.
وأظنني لست بحاجة إلى التدليل على فساد هذه الطريقة وعقم نتيجتها.
***
(خير الطرق لدرس البلاغة)
وأنفس الطرق عندي لدرس البلاغة دراسة جدية نافعة، أن يوضع كتاب
مختصر على طريقة إمام الفن عبد القاهر الجرجاني في الإكثار من الأمثلة والشواهد
البليغة من القرآن فما دونه من كلام الفصحاء، ويوجه الأستاذ نظر تلامذته إلى ما
أودع فيها من أسرار البلاغة ونكتها، والإحساس الذي شعرت به نفوسهم عند
قراءتها، وارتياح القلب واهتزازه حين استخراج دفائنها، ثم يقفي على ذلك بسرد
عدة شواهد دونها في البلاغة والروعة، ويوازن بين القولين، ويزيّل بين النفوس
في الحالين، عند ذلك تستقيم طباع الطلبة، وتسلم أذواقهم، فلا ترمحهم البلاغة
مولية، ولا تجمح بهم هاربة، بل تضع في أيديهم زمامها، وتسفر لهم عن بدرها.
***
(الأدب وتاريخه)
هذا فن حديث العهد بمدارسنا، ولذلك لما تتعبد طريقته، ولا تزال فجة ثمرته،
ولم تجذب التلامذة إليه روعته، وأكثرهم يستثقله؛ فيلفظه، ومنهم من يتجرعه
ولا يكاد يسيغه، لو أضيف إليه قليل من التوابل، ووضع بجانبه بعض الكوامخ؛
لاشتهته نفوسهم ولم تصد عنه، ولفتحت له صدورهم ولم تنقبض دونه.
ورأيي أن يبدأ بدراسته عندما يضع التلميذ قدمه على عتبة المدارس الثانوية،
فيدرس له في السنتين الأولى والثانية حالة اللغة في عصورها المختلفة لا بطريق
التلقين والحفظ، بل بطريق الاستنباط والاستقلال، فإذا أراد الأستاذ مثلاً أن يتكلم
عن مميزات النظم أو النثر في عصر من العصور، استعرض طائفة منه، ووجه
نظر الطلبة إلى ما فيها من متانة التركيب وقصر الجمل، وقلة الاستعارة والغلو،
وترك التمهيد، والبعد عن العجمة، إن كان الكلام في نثر الجاهلية، أو وصف
الخمر ومجالس الشراب والأنس، والقصور البديعة ومحاسن الطبيعة، والمعارك
الحربية، والأساطيل البحرية، وعذوبة الألفاظ والمحسنات البديعية، والأخيلة
الجملية، إن كان الكلام في مميزات النظم في العصر العباسي.
عند ذاك تكون دراسة الأدب نافعة شائقة لا يملها الطلبة.
وفي باقي السنين يدرس ترجمة النابهين , ومن لهم أثر بارز في اللغة من
الكتاب والخطباء والشعراء ومدوني العلوم كالفقهاء والمؤرخين بالطريقة المتقدمة
عينها، فيذكر المترجم نشأته وبيئته وحياته المادية والأدبية وصلة الثانية بالأولى
وتأثرها بها، وما لذلك من أثر في نفسه وأفكاره وتخيلاته، ثم تعرض أثارة من
قوله، وينبه الأستاذ إلى ما فيها من حسن وإبداع، أو تقليد لقول سابق، أو تكلف
باد، وما أشبه ذلك.
ويحسن أن تدرب التلامذة على إجراء موازنات بين شاعر وشاعر، أو
خطيب ومثله، وكاتب وتاجر، فإن ذلك مما يزيد في سلامة الذوق وصحة الحكم،
وتنبيه الذهن، وتفتق القريحة.
ويتوسع بعض التوسع في الكلام على القرآن الكريم: إعجازه وأسلوبه وأثره
في اللغة، ويقرر جزء كبير منه في كل سنة لدرسه وحفظ بعضه؛ ليستعان به على
إصلاح النفوس التي استفحل مرضها، وأعيا نطس الأطباء علاجها، وتثقيف
الألسنة التي اعوجت، وخصوب الملكات التي أجدبت، ولا يخفى صلة ذلك بعلمي
الأخلاق والبلاغة.
((يتبع بمقال تالٍ))