للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أموال ابن السعود التي اتهم بها صاحب المنار
(٥٠٠٠ جنيه مكافأة على خدمته للملك وقومه ١٠٠٠٠ جنيه رواية أخرى
١٠٠٠ أو ٢٠٠٠ أجرة تعب العمل في المؤتمر ٦٠٠٠ جنيه بحيلة طبع المغني
وابن كثير , ٦٠٠ جنيه باسم الجرائد المصرية. آلاف الجنيهات مبهمة في رواية
أخرى) .
لا بدع ولا غرابة إذا خطر في بال بعض الناس أن الملك العربي عبد
العزيز بن السعود يكرم صاحب المنار , أو أكرمه بالمال وبغير المال - ولا غرابة
في تقدير بعضهم لهذا الإكرام بكذا وكذا من المبالغ بحسب آرائهم، ولا عجب إذا
ذكر بعض الناس ما قدروه من هذا المال؛ فظن آخرون أن هذا التقدير رواية لا
رأي، وتناقلوه تناقل الروايات.
نقول: إن كل هذا ليس بغريب لأن من شأن مثله أن يقع، وقد وقع بالفعل ,
وكثر فيه القيل والقال , وتناقله خواص الناس كما ذكرنا ذلك في فاتحة الجزء الأول
من هذا المجلد من المنار (٢٨) نقلاً عن بعض كبار العلماء والوجهاء , ونسمي
الآن من كبار العلماء الذين تحدثوا به في مصرالأستاذ الشهير الشيخ محمد بخيت
فهو أول من سمعنا منه رواية الخمسة الآلاف من الجنيهات التي تحدث بها بعض
الخواص في مصر - وأما صاحب رواية العشرة الآلاف التي تحدث الناس بها في
أوربة فقد سمعها الأمير ميشيل لطف الله في مدينة (جنيف - سويسرة) .
أمثال هذه الأحاديث إذا دارت بين خواص الناس لا ينبغي أن يهتم مثلنا
بتكذيبها إن ذا كانت كاذبة؛ لأن الذين يتحدثون بها لا يعدونها عارًا , ولا يقصدون
الطعن في عالم يأخذ مساعدة أو مكافأة على نشر العلم والدين من ملك من الملوك
الكرام.
وأما غيرهم من اللئام والحاسدين والسفهاء والخصوم الذين يفترضون سماع
مثل هذه الإشاعات أو يفترونها للطعن على من يأخذ أمثال هذه المبالغ التي تعد
عظيمة في هذا العصر , فيذمون آخذها بما شاءت آدابهم، وتحركت به أهواؤهم،
فقد اعتدنا أن نحتقر كل ما يقولون ويكتبون ونعده كالعدم، وماذا يهمنا إذا سفه سفيه ,
أو احترق قلب حسود؟ ؛ لهذا ذكرنا الخبر في أهم مكان من المنار (وهو فاتحة
المجلد) ولم نصدقه؛ لأنه غير صدق، ولم نكذبه لما ذكرنا آنفًا.
وقد سمعنا وقرأنا في بعض الصحف لغطًا كثيرًا في ذلك منذ العام الماضي
إلى الآن؛ فلم نحفل به على عادتنا.
ولكن السفهاء لم يقفوا عند حد أخذ صاحب المنار ألوفًا من الجنيهات مكافأة من
ملك الحجاز ونجد على خدمته السابقة له ولقومه على قولهم، أو مساعدة له على
خدمته المستمرة للعمل والدين على ما يدين الله به ذلك الملك من كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج سلف الأمة الصالح، وإن عد ذلك بعضهم
نقيصة فينا ودليلاً على أن هذه الخدمة التي كاد يمر عليها ثلث قرن لم تكن لوجه
الله تعالى , وإنما كانت لأجل أموال ابن السعود - كأننا كنا نعلم الغيب على تقدير
صحة زعمهم.
لم يقف خصومنا في ديننا ومذهبنا السلفي من ملاحدة وطننا هذا - ومن
روافض العلويين في جاوه الداعين إلى عبادة علي رضي الله عنه وذريته، ومن
بعض الحاسدين لنا على مكانتنا عند هذا الملك المسلم التقي السلفي - لم يقفوا عند
هذا الحد، بل أخذوا يختلقون علينا سلب مال الملك بالحيلة والسرقة (والنصب) ,
ويكتبون ذلك في بعض الصحف , ومنها صحف لا نراها عادة لعدم المبادلة بينها
وبين مجلتنا , أو لأنها لا تصدر إلا عند الحاجة إليها، وقد كان من سوء تأثيرها أن
كتب إلينا صديق لنا من خيرة فضلاء الحجاز رقعة أودعها كتابًا له يذكر فيها هذه
الإشاعات , ويزيد عليها قوله: (هذا عدا ما أتحفكم به جلالة الملك من الهدايا
والتحف الثمنية) - ويقول: إنه دافع عنا من حدثوه بتلك التهم على عدم وقوفه على
شيء مما قيل إلخ , وقد كان لهذه الرقعة من سوء التأثير في نفسنا ما كان هو
الحامل المباشر على بيان الحقيقة في المنار؛ فنقول:
أرسل إلينا أحد أصدقائنا في سورية نسخة من عدد جريدة ألف باء المشهورة
الذي صدر في دمشق في ٩ يوليو (تموز) الماضي فإذا فيه ما قاله من راسل
الجريدة بمكة المكرمة بإمضاء (أبو هشام) في ذي الحجة الماضي يثني فيها على
ملك الحجاز ونجد ويخاف على أعماله الإصلاحية أن يتركها لمن لا يهمهم إلا جمع
الآلاف من الجنيهات , أو حب الذات وكرسي الوظيفة - وحينئذ تبوء مساعيه
بالفشل، ثم قال المراسل بعد هذا السياق:
ولنعد الآن لموضوعنا , فإننا ذكرنا ما التهم سادتنا المتعممين (كذا) من
ألفي جنيه وألف جنيه أجرة أتعابهم بالمؤتمر , فظن البعض أننا مغالين (كذا)
وربما جاراهم الأستاذ صاحب ألف باء بهذا الظن، ولكن ما قولهم وقول الأستاذ
بالتهام ستة آلاف جنيه آخر (كذا) ؟
وإليك البيان: يوجد في نجد كتابان خطيان وهما: (شرح المغني لابن
قدامة , وتفسير ابن كثير) وهما كتابان سلفيان؛ فلما كان المؤتمر الإسلامي منعقدًا
أطلع جلالة الملك عليهما الشيخ رشيد رضا؛ فتعهد الشيخ بطبعها لقاء ستة آلاف
جنيه , وهكذا تم الاتفاق , وتناول المبلغ , وباشر بالطبع , ولكن أتعلم ماذا طبع؟
طبع من كل كتاب جزءًا واحدًا , وأهمل بقية الأجزاء، وقد خاطبه جلالة الملك
مرارًا بتنفيذ تعهده وما تناوله لقاءه (كذا) , فكان الشيخ يحاول تارة ويعتذر أخرى
إلى أن ضاق ذرع جلالة الملك؛ فطلب أن يرد الكتابين وهو مسامح بالستة آلاف
جنيه , وللآن لم يردهما , ولم يقم بطبعهما مع أنه تناول المبلغ سلفًا.
فما قول الأستاذ صاحب ألف باء الذي مسخ لي مقالي السابق في هذا
الموضوع؟ , وما قول القراء الكرام؟ , وما قول سادتنا العلماء؟
ولا يظن أحد أن هذه القصة مختلقة , أو تصورتها مخيلة الكاتب، كلا فأنا
مستعد أن أناقش كل فرد يكذبني لأن الذي أطلعنا عليها كان هو الواسطة , وهو
رجل ثقة أمين واقف على كل شيء حتى إنه من أنصار الشيخ , ولكنه قالها عفوًا ,
وما علم أنها ستذهب إلى ألف باء , ولولا الخوف على الرجل لذكرت اسمه [١] ولكن
لا سبيل إلى ذلك.
حتى إن السيد الطيبي كان حاضرًا ذلك المجلس , ويقول المثل: (إذا أردت
أن تكذب فبعد شهودك) , ولكن ولله الحمد الشهود موجودون.
وهذه الحادثة يعلمها كثيرون من أعضاء المؤتمر من أهل الحجاز وغيرهم
من الأعضاء.
ونحن لا نقصد التشهير , وإنما نقصد أن يعرف الناس أن هؤلاء العلماء
الذين يدعون الإصلاح مرة والتقوى أخرى لا يهمهم من وراء هذه الدعوى الفارغة
إلا صيد القروش.
ورب معترض يقول: إن الشيخ رشيدًا قام بدعاية عظيمة لابن السعود ,
وخدمه أجل خدمة , فهو يستحق هذا المبلغ أو أكثر منه - فنحن لا ننكر ذلك , ولا
نجحد خدمة الشيخ للملك , ولكنه لماذا ينادي بخدمة الإسلام والإصلاح وعز العرب
طالما يتقاضى أجرة أتعابه ودعايته؟ ... ... ... ... ... أبو هشام
(المنار)
لا أعرف أبا هشام هذا , ولم أطلع على مقالته الأولى التي يظهر من هذه
الثانية أنه ذكر فيها أنني أخذت من جلالة الملك ألف جنيه أو ألفين أجرة عملي في
المؤتمر، وكل ما كتبه عني في المقالتين كذب واختلاق , لو كان محررًا في جريدة
السياسة أو جريدة حضرموت؛ لما كنت أبحث ولا أتعجب من اختلاقه.
ويظهر من تأكيداته للخبر وتصريحه بأنه يدفع بها عن نفسه تهمة الكذب
أنه يعلم أن الأستاذ صاحب جريدة ألف باء وغيره يعهدون منه الكذب , كما يظهر
من حرصه على تصديقه , ومن استنباطه لما استنبطه منه أن له هوى فيه , إما
لأنه مأجور عليه وهو الراجح عندنا قياسًا على أمثاله وأقتاله , وإما لسبب آخر.
الراجح عندنا أنه قد أخذ أصل هذه الفرية , وما قبلها في الحجاز عن ذلك
الرجل المصري الذي كان هو المصدر الوحيد لكل ما نشر في جريدة السياسة
وغيرها , من الطعن فينا وفي السوريين الذين استخدموا في حكومة الحجاز أو عن
أحد أعوانه.
ونحن نعلم من مخازي ذلك الرجل وخياناته القطعية ما نستطيع أن ننشره في
جرائد العالم الإسلامي كله , لو كنا ممن يتصدى لعقاب المجرمين بمثل هذا.
ولكن ما بال أبي هشام أصلح الله باله يخرج عن حدود الشرع والعدل في
تأكيد بلاغ هذا المبلغ له , لو لم يكن مستأجرًا له والله تعالى يقول للمؤمنين: {إِن
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: ٦) .
وقد اطلعنا في جريدة ألف باء على رسالة لكاتب مطلع كذب فيها رواية أبي
هشام التي يدعي أنه يراهن على صحتها , فما له لا يبرز للرهان؟ أليس لأن
التكذيب مؤيد بالبرهان؟ وحسبه منه أن كلاًّ من كتابي المغني وابن كثير يقدر بنحو
من عشر مجلدات كبيرة , وأنه طبع من كل منهما ثلاث مجلدات من القطع الكبير -
فإن كانت رواية مخبره (الأمين) بأن صاحب المنار أخذ من الملك في أيام المؤتمر
ستة آلاف جنيه لنفقة طبع الكتابين صحيحة؛ فكيف يتصور عقله أن يطبع مثل
هذان الكتابان اللذان يقدران كلاهما بعشرين مجلدًا في أقل من سنة؟ , وإن عدم
إنجاز طبعهما في أقل من سنة يوجب ما ذكره من تبرم الملك وطلبه إعادة الكتابين
إليه مرارًا؟ ؟
وأنا أعتقد أنه لا يوجد بمصر مطبعة يمكنها طبع هذين الكتابين في سنة ولا
في سنتين ولا ثلاث لا مطبعة المنار ولا غيرها , ولا أستثني المطبعة الأميرية التي
تعد آلات الطبع فيها بالعشرات إلا أن تترك أكثر أعمالها الأخرى.
وقد طبع القسم الأدبي الخاص بطبع الكتب (صبح الأعشى) في ست سنين
وهو أصغر من أحد الكتابين.
وإذا لم يكن مأجورًا على التشهير في الطعن على صاحب المنار فما معنى
قوله إنه يقصد إعلام الناس أن هؤلاء العلماء الذين يدعون الإصلاح مرة والتقوى
أخرى , لا يهمهم من وراء هذه الدعوى إلا صيد القروش؟ , وهذه العبارة هي
عبارة مصدر سائر المطاعن التي أشرنا إليها وإلى صاحبها آنفًا.
ثم إنه قال في آخر مقاله: بأن صاحب المنار خدم ابن السعود أجل خدمة ,
وأنه يستحق عليها هذا المبلغ الذي ادعى أنه أخذه وأكثر منه - فإذا لم يكن صاحب
هوى ومأجورًا على التشهير فلماذا استدرك على هذا بقوله: ولكن لماذا ينادي
بخدمة الإسلام والإصلاح وعز العرب طالما يتقاضى أجرة أتعابه ودعايته؟ ؟
من المعلوم الذي لا يمكن إنكاره أن صاحب المنار كتب مقالات كثيرة , وألف
كتبًا في الرد على الطاعنين على الإسلام من المبشرين والملاحدة وغيرهم، وأنه
كتب مقالات كثيرة في التنفير عن البدع والخرافات والتقاليد والعادات الضارة منذ
أول سنة من سنة (١٣١٥هـ) ؟ , وأنه يفسر القرآن تفسيرًا هو الآن عمدة أشهر
مدرسي التفسير بمصر , وأنه كتب مقالات كثيرة في سبيل النهضة العربية - فهل
كانت هذه الأعمال من سنة ١٣١٥ إلى سنة ١٣٤٦ لأجل تقاضي ابن سعود أجر
خدمته مدة ثلاثين سنة , لو صح خبر التقاضي الذي افتراه؟ .
ماذا يعلم الطاعن المشهور من دين الإسلام وعلومه؛ فيسوغ له الحكم على
علمائه , ويفرق بن المحصلين والأدعياء منهم - وهو لا يحسن ضروريات اللغة
العربية حتى التمييز بين البديهيات التي يعرفها المبتدئون؟ .
ثم ماذا يعلم من قوادم النهضة العربية وخوافيها؛ حتى يصح له الحكم على
العاملين منهم وغير العاملين؟ دع المخلصين وغير المخلصين؟ أيدري من أسس
جمعية الجامعة العربية وكان يكاتب بمقاصدها أئمة الجزيرة يحيى والإدريسي وابن
السعود منذ بضع عشرة سنة , ويرسل إليهم الوفود؟ هل قرأ رد المنار على ما
كتب أشهر كتاب الترك في مصر سنة ١٩٢١ في تفضيل العرب على الترك؟ هل
قرأ تلك المقالات التي نشرت في الآستانة بعنوان (العرب والترك) مع ترجمتها
(عربار تركار) التي شرعت في نشرها جريدة إقدام التركية , ثم لم تتمها؛ لعجزها
عن الرد عليها وقيام الحجة فيها للعرب على الترك؟ هل يعلم على أي الرجال كان
يعول شبان العرب عند قيامهم بإنشاء النادي العربي بالآستانة؟ وهل يقول إذا كان
يعلم شيئاً من ذلك: إن صاحب المنار لم يكن مخلصًا لقومه فيما كان له من
المساعدة في تلك الأعمال؛ لأنه تقاضى في العام الماضي أجرة من ابن السعود على
خدمته الخاصة، على تقدير صحة رواياته المختلقة؟
لو كان منصفًا بريئًا من الهوى لما عد مساعدة ابن سعود له على خدمته
الخاصة تتناول أعماله الدينية والعربية التي بدأ بها شابًّا , ثم اكتهل وشاخ في سبيلها ,
وتكون منافية لدعوى خدمة دينه وقومه بها وهو يصرح بأن كل ما قيل إن
صاحب المنار قد التهمه هو دون ما يستحقه على خدمة ابن السعود وحده؟ وبعد هذا
كله ألم يكن العقل وحده كافيًا للحكم على أن الذي يقف حياته على خدمة عامة؛ له
حق أن يقبل كل مساعدة مالية له على ذلك إذ لا يمكن العمل ولا الحياة بغير مال ,
وأحق الناس ببذل هذا المال الملوك والأمراء؛ لأن مثل هذه الخدمة العامة تستغرق
العمر فلا تدع لصاحبها من الوقت ما يكتسب به من طريق آخر! ! كل هذا
معروف بالضرورة , ولكن الضروريات تكون أخفى من المجهولات عن نظر أهل
الأهواء.
هذا وإنه قد جاءني في البريد قصاصة لمقالة افتتاحية في جريدة تسمى
(الأماني) لم أرها ولم أسمع بها من قبل، عنوان المقالة (شكوى واحتجاج من
الحجاج المصريين) إلى ملك الحجاز ونجد , موضوعها عين موضوع تلك المقالات
المتعددة التي كانت تنشرها جريدة السياسة لمكاتبها في مكة المكرمة - وهو أحد
الأفراد الذين أشرت إلى مصدر عملهم آنفًا - موضوعها الطعن في السوريين
المستخدمين في الحجاز عامة , والشيخ يوسف ياسين خاصة وشكري بك القوتلي
من غير المستخدمين، وكان لصاحب المنار حظ منها وهو قول الكاتب: (فكم من
ألوف الجنيهات حملها ذلك للشيخ رشيد رضا النشيط يوسف ياسين وغيرهم من
أبالسة النفاق , وطوحوا بها حيث تقف مطامعهم وتضل في وادي المادة المحسوس)
اهـ نقلت هذه الكلمة من المقالة؛ لأنها تدل في الجملة على أنني مشارك لأولئك
السوريين في أكل الألوف من الجنيهات بزعم الكاتب، وإن كنت لم أفهم معنى
العبارة لأنها ليست عربية صحيحة ولا عرفية عامية.
وفي آخر هذه المقالة أن صورًا منها أرسلت إلى الوزارة المصرية , وأعضاء
مجلس الشيوخ والنواب , وزعماء الإسلام وأمرائه , وجميع الصحف في البلاد
الإسلامية - ولكن لم نعلم أن شيئًا من صحف العالم نشرها غير هذه الجريدة
المجهولة التي ذكرت أنه جاء في آخرها ٣٧ توقيعًا.
ولكل عاقل اطلع عليها أن يقول: ما للحجاج وللطعن في السوريين الموظفين
بالحجاز؟ هل ذهبوا لأداء النسك وعبادة الله , أو لمعصية بالبحث عن عيوب الناس
وعوراتهم والتشهير بهم؟ , ثم إن كانوا قدموها لملك الحجاز ناصحين له فما شأن
الحكومة المصرية ونوابها وشيوخها وأمراء الإسلام وزعمائه وصحفه في ذلك؟
ومن ذا الذي أطلعهم على عناوين أولئك الأمراء عقب عودتهم من الحجاز ومن
تولى مكاتبتهم والنفقة عليها؟
هذه التواقيع تشبه تلك البرقيات العشرين التي وردت على سمو الأمير سعود
عندما كان بمصر احتجاجًا واعتراضًا على ما كان عزم عليه من زيارة صاحب
المنار، كاشف الأمير صاحب المنار قبيل صلاة الجمعة بأنه يريد زيارته في داره
غدًا , فما جاء المساء إلا وكان قد ورد عليه عشرون برقية أو أكثر من أقسام القاهرة
المختلفة المتباعدة الأطراف في استنكار هذه الزيارة والاحتجاج عليها! فمن ذا الذي
أعلم هؤلاء بذلك الوعد , وماذا أهمهم منه؟
الحق الواقع أن القائم بهذه السخافات رجل واحد صار معروفًا , وله أفراد من
الأعوان بمكة ومصر، فمصدر ما يسمى شكوى الحجاح المصريين واحتجاجهم على
السوريين الموظفين في الحجاز ومصدر تلك البرقيات للأمير سعود واحد - هو
بعينه مصدر ما نشر بهذا المعنى في جريدة السياسة وألف باء وغيرها، والغرض
منها واحد وهي التأثير الذي يطلبون أن يكون لهم عند جلالة ملك الحجاز ونجد
والانفراد بالنفوذ عنده، وأبغض الناس إليهم أشدهم إخلاصًا له، وهم يعلمون أنه
يميز حق التمييز بين المخلصين والمنافقين، ولكنهم يظنون أن هذا التهويش في
الجرائد يقلقه , فلا يجد له بدًا من تضحية أخلص المخلصين له للاستراحة منه.
فإن صح زعمهم فإن الرجل لن يستريح له بال طول حياته سواء ضحى
أصدقاءه أم لا , فقد علمنا من تاريخ السلطان عبد الحميد أن إصغاءه للجواسيس
والدساسين , ولما كانوا ينشرونه في الجرائد في مدحه وذمه هو الذي سلب راحته
وحرم الدولة العثمانية من مواهبه، أعاذ الله ابن السعود من ذلك.
وجملة القول؛ أن كل تلك الإشاعات باطلة , وأما مسألة المطبوعات فكل
ما ذكره فيها أبو هشام فهو افتراء، وإنما الحق أن ابن السعود يطبع عندنا كتبًا كثيرة
منها المغني مع الشرح الكبير، وتفسير ابن كثير مع تفسير البغوي، ولم نقاوله ولا
أحدًا من أتباعه على شيء منها، وإنما نطبع ونقدم لجلالته عند إتمام بعضها كشفًا
(فاتورة) بنفقتها ونطلب منه مبلغًا من الدراهم على الحساب سلفًا أو متأخرًا
فيرسله، وكل ذلك يقيد في دفاتر المطبعة على الطريقة المعروفة فيما يسمونه
الحساب الجاري، وإدارة المطبعة أعلم منا بتفصيل هذا الحساب لأننا نأخذ عنها.
وأما مسألة الهدايا التي كتب إلينا صديقنا أنها مما تناوله حديث الناس في
الحجاز , فالخوض فيها من الغرائب بمكان، إذا من المعلوم عندهم وعند ألوف من
الناس أن هذا الملك كثير الهدايا , وأنه قلما عرف أحدًا من أي جنس وملة كان ,
ولم يهده شيئًا، فما نال صاحب المنار من هداياه مع الصداقة القديمة واتحاد العقيدة
والمشرب ليس غريبًا فيذكر , لولا الحسد من قوم وحب الإفساد من آخرين.
إنني أغتبط بأي هدية منه لأنني أرى فيها آية المودة والإخلاص، لا للانتفاع
بها , فإنها مما لم أكن أستعمله عادة كالعباء الرقيقة الصيفية، ولا لأنها من ملك ,
وقد أبت علي نفسي أن أقبل من الملك فيصل في الشام أن يفرش لي الدار الواسعة
التي استأجرتها , وكان قد عرض علي ذلك , وأنا أعلم أن قيمة ما كان يفرشها به
من السجاد العجمي والأرائك والزرابي والسرر والآنية له قيمة عظيمة. وإحسان
بك الجابري سمع ذلك منه وما أراه نسيه، وقد أحضرت الأثاث لها من طرابلس
قبل أن يشعر فيصل باستئجاري لها.
كتبت هذا كله وإن كان الأخير منه غير لائق في العرف، ولولا ما كتبه إلي
ذلك الصديق لم أكتبه، وأزيد على ذلك أنني لمت هذا الإمام بلسان الشرع قولاً
وكتابة على بسط يده إلى الحد الذي اشتهر عنه من الصلات والهدايا للزائرين من
حجاج الآفاق وغيرهم وبينت له أنني أعتقد أنه محرم شرعًا، فهل هذا مما يفعله
ويقوله من كان طامعًا في ماله بحق أو بغير حق كلا , إنني أحمد الله أن نفسي لا
تستشرف لأخذ مال من أحد بدون استحقاق شرعي، على أنني أثق بما في يد هذا
الأخ في الله كما أثق بما في يدي ولكنني بما في يدي الله تعالى أوثق. وليعلم الحاسد
والمفسد أن الرابطة بيننا هي رابطة دينية روحية خالصة لوجه الله تعالى لا تزيدها
المعاملة المالية ولا تنقصها كما زعموا لأنها ليست للمال ولا لجاه الملك، وأن كل
تلك الإشاعات والتقولات لا تزيدها إلا قوة وثباتًا، هي رابطة لا يقدر على حلها أو
نكث فتلها إلا الله تعالى - والمرجو من فضله أن يحفظها بالإخلاص والعقل وهداية
الشرع - ولا يطمع فيها إلا الشيطان، وأعوانه من بني الإنسان، ولكن الله تعالى
قال في الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل: ٩٩-١٠٠) ,
ونحن بحمد الله من المؤمنين المتوكلين.