للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أحاديث الدجال وانتقاد بعض النجديين

كتب إلينا بعض القراء من جاوه ومن فلسطين يشكرون لنا ما كتبناه من
التحقيق في مشكلات أحاديث المهدي وأحاديث الدجال وبيان المخرج من مشكلاتها،
وسألنا بعضهم عن أحاديث نزول المسيح عيسى بن مريم لعلاقتها بتلك الأحاديث،
ولكن ليس فيها من التعارض والتناقض والإشكاليات مثل ما فيها، وإن كان بعضها
لا يخلو من ذلك.
وانتقد علينا بعض النجديين هذا البحث، وتمنوا لو لم ينشر، وإنهم لا
يعرفون لنا عذرًا في نشره، ولو كان جميع المسلمين كمسلمي نجد لما كنا في حاجة
إلى مثل هذا البحث، فإنهم قوم يأخذون بالإيمان والتسليم كل ما يجدونه في كتب
الحديث من غير بحث في تعارض ولا إشكال، حتى إن ناصحهم يحتاج إلى
الاحتراس في بيان ضعف بعض الأحاديث متنًا وسندًا؛ لئلا يخدش ذلك التسليم
والإذعان لكل ما نسب إلى السنة، وإن كان لا يصح عزوه إليها أو يعارض
الصحيح القطعي منها، وإذا بحث بعض المشتغلين بالعلم منهم على قلتهم في هذه
المسائل؛ فإنه يقبل في الجمع بين الحديثين، أو في دفع الإشكال الذي يرد على
بعض الأحاديث كل ما يقوله الباحثون في ذلك كالكثير مما أورده الحافظ ابن حجر
مما لا يكاد يعقل، حتى إنه قد يدافع عن الحديث الذي يعد من أقوى المطاعن على
أصول الدين كالتوحيد والرسالة إذا كانت صناعة فن رواية الحديث تعده مقبولاً
كحديث الغرانيق الصريح في إقرار عبادة الأصنام والثناء على اللات والعزى ومناة
الثالثة الأخرى، والمجوز لإلقاء الشيطان في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
لسورة النجم في مدح هذه الأصنام الكبري: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن
لتُرْتَجَى.
دافع الحافظ عفا الله عنه عن هذا الحديث الذي يعترف بأنه لم يصح له سند
بأن تعدد طرقه يقويه! ! ! و ... قاعدة للمحدثين لم ينزلها الله تعالى في كتابه، ولا
ثبتت في سنة عن رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة،
فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعًا كمسألة الغرانيق أو عقلاً لا قيمة له
لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل؛ ولذلك حكم صفوة المحققين من أهل
الحديث والأصول بأن حديث الغرانيق موضوع باطل.
ونحن قد علمنا منتهى شوط الانتقاد علينا من بعض النجدبين بلقائنا هنا لرجل
من أوسعهم اطلاعًا في الحديث , ومراجعته لنا في المسألة مرتين في مجلسين
طويلين , فيذكر صفوة ما دار بيننا وبينه في ذلك باختصار لبعض المسائل وإيضاح
لبعض.
بدأ الكلام في مجلسه الأول بالثناء علينا وعلى المنار وبحب النجديين لنا
لقيامنا من زهاء ثلث قرن بالدعوة إلى التوحيد الخالص ومحاربة الشرك والبدع
وتأييد السنة ومذهب السلف , ثم انتقل إلى مسألة البحث في أحاديث الدجال والطعن
أو إيراد الإشكالات حتى على الصحاح منها، وما في هذا من مخالفة خطة المنار
ومنهاجه , قال: ولا ندري السبب المقتضي لذلك.
قلت له: إن استشكال هذه الأحاديث وأمثالها من أشراط الساعة قديم حتى إنك
تجد أكثره في شراح صحيحي البخاري ومسلم , وإن لأهل هذا العصر من الاستشكال
ما ليس لغيرهم , ومنهم من يجعلها شبهة على صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله، وقد كثر سؤال الناس إياي عنها مشافهة ومكاتبة , فكنت أجيبهم بالإجمال ,
وأعد بكتابة التفصيل في فرصة أخرى، وقد قال لي من عهد قريب بعض إخواننا من
السلفيين المشتغلين بعلم الحديث: الأولى أن لا تكتب في ذلك شيئًا؛ لأن الإقناع بها
متعذر , فنحن نفوض علم الحقيقة فيها إلى الله تعالى ونعدها كأنها غير موجودة.
ولكن الناس يظلون يسألون ويستشكلون، وبعضهم يشككون ويطعنون، فكان
من الواجب على صاحب المنار القائم بفريضة الدفاع عن الإسلام أن يبين للناس ما
يدفع الشبهات عنه، ويثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما صح
عنه صحة لا شبهة فيها.
وقد صرحت فيما كتبت في آخر بحث أشراط الساعة بأن من صدق رواية
مما ذكر فيها ولم يجد فيها إشكالاً , فالأصل فيها الصدق , ومن ارتاب في شيء
منها [١] أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشكلين إشكالاً في متونها؛ فليحمله على
ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية بالمعنى أو غير ذلك مما أشرنا إليه. فعلم بهذا
أن غرضنا من أصل البحث تبرئة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل طعن
يورده أحد على بعض هذه الروايات تبرئة يقبلها عقله , ويطمئن لها قلبه، ومن كان
يكتفي برواية الشيخين أو أحدهما فإنه لا يستشكل ما رويا.
قال أخونا النجدي الفاضل: إن بعض ما ذكرتموه من الأجوبة عن التعارض
بين الأحاديث وحل مشكلاتها , مما يتضمن الطعن في أسانيد ما في الصحاح منها
كحديث الجساسة يمكن أن يجاب عنه بأجوبة أخرى مقنعة مع الجزم بصحة الأسانيد.
قلت: إن من جاءنا بأحسن مما جئنا به دفاعًا عن هذه الأحاديث وجمعًا بين
رواياتها؛ نشكر له صنعه , وننشره في المنار؛ ليهتدي الجمهور به، ومن أقنعنا
بخطأ في شيء مما جئنا به؛ نقبله مع الشكر أيضًا.
فعليك إذًا أن تكتب لنا ما عندك في ذلك؛ لننشره , وعسى أن يكون خيرًا
وأهدى سبيلاً.
ثم ذهب الرجل وغاب عنا غيبة طويلة جاءنا بعدها بمقال طويل غير ما
اقترحناه عليه , وقد اتهمنا فيه أننا أنكرنا أحاديث الدجال كلها , وحاول الرد علينا
بإثباتها وفيه أغلاط أخرى - فقرأنا عليه طائفة منه بينا له ما فيها من الغلط، وإن
بعضه قد جاء من عدم فهم عباراتنا التي صرحنا فيها بأنها متواترة تواترًا معنويًّا،
وإن القدر المشترك الذي يدل عليه التواتر المعنوي هو كذا وكذا (ص٢٠ ج١م)
فاعترف بالخطأ , وأخذ منا المقالة ورسمنا له خطة لمقالة أخرى يقول فيها:
إنه اطلع في المنار على بحث كذا , فوجد فيه مطاعن في بعض أسانيد الأحاديث
وإشكالاً وتعارضًا بين بعض المتون , يمكن الجواب عنها بما يدفعها ويثبت صحة
تلك الأحاديث كلها أسانيد ومتونًا، ثم يسرد ذلك بالعدد , ويجيب عن كل منها بما
عنده , وأعطيناه المنار؛ لينقل منه ما يقتضيه الرد بالحرف لئلا يخطئ، بنقله
بالمعنى , ونصحنا له بأن يراجع عند الكتابة شرح البخاري للحافظ ابن حجر
وشرح مسلم للنووي في الكلام على هذه الأحاديث , فوعد بذلك , وانصرف شاكرًا ,
ولما يعد.
وإننا نطالب كل منتقد بما طالبنا به هذا النجدي الفاضل الغيور , ومن المعلوم
من أصول ديننا بالضرورة أن كل أحد يجوز عليه الخطأ إلا المعصوم فيما هو
معصوم فيه , وحسن النية مع بذل الجهد في استبانة الحق مما يرجى به عفواته
تعالى عن المخطئ.