للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصاب مصر بأكابر رجال العلم والدين والسياسة
الدكتور يعقوب صروف، شيخ الأزهر
بطرك القبط، زعيم الأمة سعد باشا زغلول

اشتدت وطأة الحر في صيف هذا العام على تشبع هوائه الضعيف
بالرطوبة؛ فثقل علينا القيام بأعمالنا العادية الكثيرة، فعزمنا على جعل شهري
إجازة المنار السنوية شهري المحرم وصفر متتابعين، وقد حدث في هذه الفترة وفاة
أكبر أكابر رجال مصر في المنصب والمقام والسن جميعًا يتلو بعضهم بعضًا:
مات أولا الدكتور يعقوب صروف أحد مؤسسي مجلة المقتطف الشهيرة
والمحرر الأول لها عن ٧٥ سنة , وما عهد الاحتفال بعيد المقتطف الذهبي
الخمسيني ببعيد، فكان لموته رنة أسف في مصر وسورية وسائر البلاد العربية ,
وجدد عشاق العلوم والفنون فيها الاعتراف له بخدمتها نصف قرن كامل.
وتلاه الشيخ أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد
الدينية , مات عن ٨٥ سنة , وكان في الرعيل الأول من العلماء المتقنين للعلوم
الأزهرية كلها يقل نظراؤه فيها، ولم يكن معاديًا للإصلاح في عهد الأستاذ الإمام،
بل كان صديقًا له، ولكنه لم يعمل شيئًا في أيام مشيخته، على أن الأزهر في هذا
العهد مقيد بقيود ثقيلة , ودخل جمهور شبابه في مآزق السياسة فصار أمر إدارته أعقد
من ذنب الضب.
وتلاه بطرك القبط الأرثوذكس الملقب برئيس الكنيسة المرقسية , مات عن
زهاء ٩٥ سنة , وكان عظيم الملة القبطية وأعطى منصبه حقه من الوقار
والمحافظة على التقاليد الكنسية، وفي عهده ترقت القبط في الشؤون الاجتماعية
وطالبوا رجال الدين الذي هو رأسهم بإصلاحات كثيرة أهمها: ما يتعلق بشؤون
أوقافهم , وانتفاع الشعب بها، وكانوا أمثل من المسلمين في خدمة دينهم وأوقافهم
وتكافلهم وأدبهم مع رئيسهم الديني , وفي مصالحهم السياسية والاجتماعية وسائر
أمور دنياهم.
***
سعد باشا زغلول
وتلاه زعيم البلاد الأكبر الرئيس الجليل سعد باشا زغلول , مات عن زهاء
سبعين سنة , فزلزلت الأرض، وعظمت أهوالها، وشاركت الشعوب العربية أخاها
الشعب المصري في المصاب , وعدوه مصاب الأمة العربية بأعظم رجل سياسي
نبغ فيها، وتجاوبت برقياتها مع مصر بالتعزية حتى كان أكبر ملوك العرب صاحب
الحجاز ونجد ونائبه الأمير فيصل في مقدمة المعزين للشعب المصري ولحكومته.
بل اهتزت لموته أرجاء الشرق والغرب وأكبرته جرائد الأمم كلها، حتى إن
جرائد أوربة عامة وإنكلترة خاصة قد أظهرت لنا من معرفة قدره وتقدير مواهبه ما
غاب بعضه عن جرائد مصر نفسها.
وأما الأحزاب المصرية وجرائدها؛ فقد أجمعت على إكبار الرجل في نفسه،
وإكباره في عمله، وإكباره في مصاب البلاد به، إجماعًا ظهر أنه خرج من صميم
أفئدة الكتاب، بالرغم مما كان من شذوذ بعض الأفراد والأحزاب.
وقد كان مشهد جنازته والاحتفال بتشييعه مما لم ير له أحد نظيرًا في هذه
البلاد ولا في غيرها إلا في يوم عودته من أوربة إلى مصر عظمة وحفلاً وجلالاً
ووقارًا، إلا أن الحزن العام، وقد اقتضى بطبعه شيئًا من الإخلال بالنظام، فإن
الجماهير من دهماء الشعب كانوا يهجمون المرة بعد المرة على النعش بسائق أقرب
إلى الاضطرار منه إلى الاختيار، وظهر أنهم كانوا يريدون انتزاعه , وإخراجه من
مركبة المدفع التي وضع عليها لحمله على أعناقهم.
لا يتسع هذا الجزء من المنار لوصف المصاب , ولا لوصف الفقيد العظيم
وترجمته، وإنما نقول: إن الشعور بأن المصاب بسعد مصاب كل فرد من أفراد
الشعب كان شعورًا عامًّا , ولكن لا نزاع في أن وقع الرزء على قرينته كان أعظم
من وجوه يعرفها بالإجمال كل أحد , ويعرفها بالتفصيل من عرف كيف كانت
حياتهما الزوجية في جميع أطوارهما , ولا سيما الجهاد السياسي الأخير فنحن نعزيها
بقول أشهر النساء في الحزن وهي الخنساء الشاعرة الصحابية رضي الله عنها:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على أحبابهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
بل نقول: إن الخنساء تعزت بكثرة الناس الذين يبكون حولها من فقدوا وإن
لم يكن في نظرها كمن فقدت - ولكن قرينة سعد أولى منها بالعزاء لأن الذين يبكون
حولها إنما يبكون من تبكي هي , فلا تستطيع أن تقول كما قالت الخنساء.
(وما يبكون مثل أخي) فإن كان المصاب لا نظير له في عظمته , فالتعزية
لها لا نظير لها أيضًا فهي على قدر المصاب سواء.
سننشر لهذا الزعيم الكبير ترجمة نودعها من العبرة ما يوافق خطة المنار ,
ونعجل الآن بذكر مسألة مهمة وهي أن مجلس الوزراء قرر أخذ بيت سعد باشا
الذي يدعَى (بيت الأمة) , وهو موقوف بطريق الاستبدال المعروف , وجعله من
المنافع العامة ذكرى للفقيد مع إبقاء كل آثاره فيه , وشراء البيتين المجاورين له ,
وهدمهما وإنشاء قبة عظيمة يجعل فيها قبره بنقل جثته إليها , وتجعل مسجدًا ومزارًا
للناس؛ فتكون كقبة الشافعي والبدوي ونحوهما، وقد رسم الرسامون شكل القبر
وشكل القبة، وطُبِعَا في بعض الجرائد.
وقد أنكر هذا العمل القبط ومن على رأيهم من وجهين (أحدهما) أن الفقيد
كان زعيمًا سياسيًّا للشعب المصري كله , لا للمسلمين وحدهم , ولم يكن زعيمًا دينيًّا
إسلاميًّا , بل هو الذي جمع بين الهلال والصليب , ولم يكن يفرق بين المسلمين
وغيرهم , فلا يجوز أن يجعل قبره معبدًا للمسلمين.
(ثانيهما) أن شكل القبة التي رسمت لقبره عربي إسلامي , والواجب أن
يكون مصريًّا فرعونيًّا؛ لأنه هو كان مصريًّا قبل كل شيء , ويعنون بهذه الكلمة أن
الجنسية المصرية الوطنية مقدمة على كل رابطة أخرى دينية كانت أو لغوية أو
غيرهما.
وقال بعض الكاتبين في ذلك: إن الزمن الذي كان فيه المصريون من القبط ,
والمسلمين يلعنون الفراعنة لأجل دينهم (الوثني) ولا سيما فرعون موسى تبعًا
للتوراة والإنجيل قد مضى , وصار جميع المصريين الوطنيين يفتخرون بفرعون
وبأنهم سلالة فرعون.
ولعل هؤلاء يستحسنون أن يجعل ما يبنى على قبره بشكل الهرم كما قالت
إحدى السيدات المسلمات.
ونحن نتعجب لسكوت علماء الدين , ولا سيما أهل الحديث منهم عما نستدركه
عليهم من النصح للحكومة أن لا تجعل قبره مسجدًا لأن بناء المساجد على القبور
محرم شرعًا , وقد وردت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن الأربع
وغيرها بلعن فاعليه , ووصفهم بشرار الخلق، ونحن نعلم أن العلماء إنما يسكتون
عن مثل هذا البيان والنصح للحكام لاعتقادهم أنهم لا يعملون به، ولولا الملوك
والسلاطين؛ لما وجدت هذه القباب العظيمة والمساجد على قبور الأئمة والصالحين
وعلى الملوك بالتبع لهم , فهم الذين ابتدعوا ذلك , ونفذوه بالرغم من أنوف العلماء؛
ولذلك أجاب بعض العلماء الأعلام في كتاب له من احتج بوجود هذه القباب
والمساجد في أكثر بلاد الإسلام على مشروعيتها , فكان مما قاله: إن هذه أمور
حكومية لا حكمية، ودولية لا دليلية، ولكن الحكومة المصرية الحاضرة لا ترضى
أن تجعل قبر سعد باشا فتنة لعوام الشعب يضلون به كما ضلوا بقبور الأولياء
فعبدوها بالدعاء والنذور والطواف بها وغير ذلك مما شرحناه مرارًا، وإنني قوي
الرجاء في امتناعها عن جعل قبة قبره مسجدًا؛ لمخالفته لنصوص الشارع ولحكمة
التشريع معًا، وهو افتتان الجاهلين بتعظيم القبر تعظيمًا دينيًّا , وتعليق آمال زائريه
بقضاء الحاجات، ودعائه لذلك في المهمات والنذر له , فهذه الحكومة لا تريد أن
يكون قبر رجلها السياسي سببًا لازدياد الخرافات والضلالات في البلاد، ولكنها لا
تسمع كلام العلماء فيما عدا ذلك من المباني والتماثيل التي قررتها , وقد يتأول لها
من يبالي بالدين من رجالها بأنها خالية من الحكمة أو العلة التي حرمت لأجلها،
وهي كونها ذريعة للشرك محتجين بأنه لا يوجد في مصر أحد يعظم تمثال محمد
علي باشا أو ولده إبراهيم باشا تعظيمًا دينيًّا , ولا غير ديني أيضًا، فإذا كان هذا
مأمونًا فيما ستنصب الحكومة لسعد من التماثيل , فليس مأمونًا في قبر عليه مسجد
يصلى فيه بجانب القبر , والصلاة إلى القبر ممنوعة شرعًا أيضًا.
وقد ظهر أن قرن الفتنة بعبادة سعد قد نجم في الأرياف؛ إذ بلغنا أن بعض
أهل الطرق ابتدعوا طريقة سموها السعدية الزغلولية.
وإننا لا نشك في أن جعل البناء على قبره مسجدًا معدًّا للصلاة فيه بفرشه
ووضع محراب فيه لمعرفة القبلة يكون ذريعة لجعله كقبر البدوي والسيدة زينب
وأمثالهما.
وهل يظن عاقل أن جميع عوام المصريين يفهمون أن خدمة سعد للبلاد
سياسية محضة لا شائبة للدين فيها؟ , كيف وإن بعض كبار علماء المغرب الأقصى
قد ذكر في مقال له نشر في المنار ما يدل على أن العلماء المستنيرين هنالك
يعتقدون أنه زعيم ديني , فعسى أن تتدبر الحكومة المصرية هذا الأمر وتحول دون
وقوع هذه الفتنة التي هي خلاف مرادها من إحياء ذكرى سعد بقبره وداره وآثاره
وما تنصب له من تماثيل، وإنما مرادها أن تحفظ ذكرى خدمته السياسية ومقاصده
الاستقلالية ويتمسك الشعب بها ويكون عونًا للقائمين بعده بتنفيذها كما كان عونًا له
يؤيده في كل أعماله.
وأما تعليل دعاة الإلحاد من القبط والمسلمين طلبهم جعل شكل القبة فرعونيًّا
تبعًا لجعلهم جنسية المصريين في هذا العصر فرعونية , وجعل سعد من ذرية
فرعون , فهو تعليل باطل، فسعد من أسرة عربية الأصل , كما أخبرني ابن أخيه
العالم الفاضل الثقة عبد الرحمن زغلول رحمه الله تعالى، والجنسية المصرية في
هذه العصر جنسية سياسية شاملة لكل سكان هذا القطر من عرب - وهم السواد
الأعظم - وقبط وترك وإفرنج وغيرهم من الأجانب الذين قبلوا هذه الجنسية
الوطنية السياسية , ولا دخل للأنساب القديمة ولا للحديثة فيها.