للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سعد زغلول
(١)

فطرته واستعداده - تربيته العقلية والنفسية - تعليمه - ونتيجة ذلك
إن اسم (سعد زغلول) أو (سعد) وحده قد صار أشهر وأكبر - وهو
غفل من الألقاب والنعوت - من كل ما تتحلى به أسماء العظماء وتحلى هو به
من لقب ونعت كالزعيم والرئيس الجليل وذي الرياستين والوزير الخطير
ورئيس الوزراء أو رئيس مجلس النواب؛ أعني أن جميع طبقات الناس صاروا
يعدون شخص الرجل أكبر وأعلى بصفاته ومزاياه الذاتية، من كل المناصب
الرسمية وغير الرسمية التي وصل إليها. ذلك بأن هذه المناصب قد تحلى بها
غيره، ولم يكن لأحدٍ منهم معشار ما بلغه من إجلالِ أمته وغير أمته له.
وعدتُ بأن أكتب شيئًا في ترجمة سعد يليق بمشرب المنار، وقد كان
يخطر بالبال أن اضطراري إلى تأخير إنجاز الوعد يجعلني مضطرًا للاقتباس
مما كتبه غيري لأن جمهور الكتاب من تاريخيين وسياسيين ومترسلين
وجمهور الشعراء المفلقين قد تسابقوا إلى تأبين سعد ورثائه وكتابة تاريخه
ببلاغة رائعة وعناية تامة، شارك فيها المصريين سائر الشعوب العربية من
فلسطين إلى سورية إلى العراق إلى عمان وجزيرة العرب في الشرق ومن
تونس والجزائر إلى مراكش في الغرب.
ناهيك بحفلة التأبين الكبرى في العاصمة وما قاله فيها الوزراء والرؤساء،
ومصاقع الخطباء وخناذيذ الشعراء، وبتراجم الجرائد الكبرى وما توخاه
محرروها من الاستقصاء.
حضرت حفلة التأبين الكبرى وسمعت ما قيل فيها مما أبكاني وأبكى
جمهرة الحاضرين، وقرأت كثيرًا مما نشر في أشهر الجرائد، ولا أدعي أنني
قرأتُ كل ما كتب في الصحف التي ترسل إليَّ وهي تعد بالعشرات، دع ما لا
يرسل إليَّ منها وهو أكثر؛ ولكنني على كثرة ما سمعت وقرأت قد بقي لي ما
أقوله مبتدئًا غير مقتبس، ومبتكرًا غير منتزع، بَيْدَ أنَّه لا بد من مزجه بغيره
مما قد يعرفه كل أحد.
ومن الغريب أن جميع من وقفت على كلامهم قد قصروا في بيان أهم
شيء في تاريخ الرجل وهو تربيته وتعليمه مع إجماعهم على أن التربية
والتعليم هما بعد الاستعداد الفطري كل شيء، على أنهم قصروا في الكلام
على استعداده أيضًا كما قصروا في الكلام على إيمانه بالله عز وجل الذي هو
السبب الأكبر في كل ما رأوا من شجاعته واستهانته بالمصائب، واهتمامه
بمعالي الأمور وعزوفه عن سفسافها، نعم إنهم قصروا فيما يجب بيانه من
هذه الأمور الأربعة وهي البذرة والجرثومة فالشجرة، وكيف نبتت واستوت
على سوقها ورسخ أصلها وعلا في المساء فرعها، فأينعت ثمراتها، وآتت
أكلها ضعفين بإذن ربها. وحق المنار على قرائه أن يتلافى هذه التقصير ويتم
ما كتب غيره في موضوعه.
***
(١) نفس سعد وفطرته
قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (الناس معادن كمعادن الذهب
والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه البخاري.
في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في
جواب مَن سألوه عن أكرم الناس وأرادوا معادن العرب وأنسابها. وقوله:
(كمعادن الذهب والفضة) من زيادة رواية العسكري. والمعنى أن الناس في
اختلاف استعدادهم للخير والشر كما في رواية أبي داود الطيالسي للحديث
معادن بعضهم كالذهب والفضة في صفاء جوهره وجماله وبقائه وقلة قبوله
للخبث والصدأ، وبعضهم كالزنك والقصدير في ضعف مادته وسرعة قبوله
للصدأ والتلف، وبعضها كالنحاس والحديد بين ذينك وذين، وقد كان سعد ذا
مزايا فطرية ووراثية يعد بها جوهر نفسه من أزكى النفوس، وعقله من أذكى
العقول، كان ذكي الفؤاد شجاع القلب دقيق التمييز عظيم الإقدام عالي الهمة،
يحب المعالي ويحتقر الصغائر، عرفت فيه هذه الصفات الفطرية من صغره،
وتجلت تمام التجلي في كبره، فكانت هي الأصل في استفادته مما صادفه من
حسن التربية والتعليم، وقد روى الطبراني في الكبير من حديث الحسين بن
علي مرفوعًا وحسنه (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره
سَفسافها) .
ولد سعد سوي الخلق، جميل الصورة، تام البنية، كبير الدماغ، مستعدًّا
لتربية يكون بها من عظام الرجال، وهو من عرق عربي أصيل ورث عنه
الشجاعة والإقدام، وغريزة الحرية والاستقلال، ولم يكن يحتاج إلا إلى رجل
حكيم جمع بين العلم الصحيح ومكارم الأخلاق وعلو الهمة وشرف المقصد
يربي فيه هذه الغرائز وينميها ويصقل معدنها ويضعه حيث ينتفع به، وكم وكم
يولد في الأمة من أطفال أزكياء الفطرة فيفسد فطرتهم سوء التربية؛ كما
يوضع المعدن النفيس في السبخة، فيعلوا طبعه الطبع، إلى أن يأكله الصدأ.
***
تربيته وتعليمه
إذًا إن خير ما قيضه الله لسعد فكان بعد ما ذكرنا من استعداده سببًا لكل
ما ظهر منه من المزايا أن ساقه في أول نشأته إلى كنف نادرة الزمان المصلح
الكبير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عند ما أراد طلب العلم في الأزهر،
ولم أسأله ولا سألت شيخنا وشيخه عن أول أمره فيه ولكنني علمت منهما أنه
لم يكن يعجبه درس غير درس الأستاذ الإمام بعد أن اعتاده، فسعد قد جلس
إلى كثيرٍ من شيوخ أستاذه وغيرهم من شيوخ الأزهر ولم يستفد إلا من واحدٍ
منهم ولم يتخرج إلا به؛ بل كان كثيرًا ما يجلس إلى تلك الدروس مختبرًا
للشيوخ والطلبة منتقدًا عليهم في نفسه تارةً وبلسانه تارةً كما سمعت من لسانه،
وسأنشر في هذه الترجمة بعض مكتوباته المصرحة بذلك.
قال لي مرة: علمت أن الشيخ أحمد الرفاعي يقرأ درسًا في المنطق -
لعله قال شرح السلم أو إيساغوجي - فجلست في درسه لأعلم كيف يقرأ علمًا
هو في عقله من أبعد الناس عنه، فإذا هو يبدي احتمالين في إعراب عبارة
يقتضي أحدهما بطلان القاعدة المنطقية التي يقررها وهي كون القضية الكلية
السالبة تنعكس جزئية ولا يطرد عكسها كلية فلا يصح. فقلت له: يا سي
الشيخ إن هذا الإعراب يبطل القاعدة من أساسها فلا يصح أن يكون مرادًا.
فقال: ما لنا؟ هم العلماء قالوا إذا صح الإعراب صح المعنى؟ فعجبت لأستاذ
يقرر بطلان قواعد العلم القطعية فيه بإيراد احتمال في إعراب عبارة مؤلف
فيه! أو ما هذا معناه.
وقال لي مرة إنه حضر له درسًا آخر في علمٍ آخر - لعله السعد أو جمع
الجوامع - فاستمر الدرس ساعتين كاملتين (قال) ولم أحضره من أوله،
وكان موضوعه مسألة واحدة لم يستقر ذهن الشيخ على فهم رضيه فيها إلا
بانتهائه، وهنالك تنفس الصعداء وقال الحمد لله، هذه المرة فهمناها في درس
واحد، وقد قرأت هذا الكتاب مرتين قبل هذه، فأما الأولى فقد استغرق بحثنا
في هذه المسألة ثلاثة دروس مثل هذا الدرس، وأما الثانية فقد فهمناها في
درسين مثله في طوله. قال سعد فقلت له: ياسي الشيخ لِمَ لَمْ تكتبوا الحل الذي
فهمتوه في المرة الأولى أو الثانية بعد ذلك التعب الطويل فيها ليستغنوا عن هذا
التعب في كل مرة؟
وإننا رأينا بعض الجرائد تذكر أن الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى
كان من أشياخه كفلان وفلان، نعم وكان من أشياخ شيخه أيضًا؛ ولكن هل
علم أولئك الكاتبون بما استفاده من فلان وعلان؟ ولَمْ أَرَ أَحَدًا منهم بين أن
أستاذه الذي تخرج به هو فلان؛ بل ذكروا أو ذكر بعضهم أنه كان يحضر مع
(صديقه) الشيخ محمد عبده دروس الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني،
والسيد لم يكن يقرأ إلا دروسًا عالية في الفلسفة والكلام والأصول، ذكرنا
كتبها في تاريخ الأستاذ الإمام؛ إذ كان سعد مبتدئًا لم يستعد لحضور تلك
الكتب؛ ولكنه كان يختلف إلى مجلسه بالتبع لأستاذه فيستفيد منها علمًا وحكمة
وأدبًا وسياسة؛ لأن مجالس السيد - رحمه الله - كانت كلها كذلك كما قلت في
المقصورة الرشيدية:
وأشرع الطريق للإصلاح من ... علم وحكم ولسان وحجا
بما أفاض من هوامي حكمة ... قد زانها فصل الخطاب ونثا [١]
في خطب يُحْيِي القلوب وقعها ... وتكشف الخطب وتبعث الرجا
وفي دروس كتب أحيا بها ... من دارس العلوم ما كان عفا
وفي آمالي بها أنشأ من ... معالم الإنشاء ما كان أمحي
يقبسهن في ثبا [٢] من داره ... مريده والشمس في رأد الضحى
ثبا له ينحوه أهل الرشد ما ... بين ثبات وفرادى وثنى
وفي كؤوس سمر يديرها ... في سامر (البورصة) ما الليل سجا [٣]
لا لغو بين شربها يخشى ولا ... غول فيغتال الجسوم والنهى [٤]
تنازعوها حيث لا تنازع ... صرفا بأفواه العقول تحتسى
كان سعد زغلول مريدًا للأستاذ الإمام لا تلميذًا فقط، أعني أنه كان ربيبه
ولا يصح لكل من حضر دروسه أن يدعي أنه مريده ولا ربيبه، وكان هو
يعبر عن نفسه في مكتوباته للإمام بالمريد، وهذا اللقب من اصطلاح الصوفية
الذين كان مدار التربية الروحية عندهم على تربية الإرادة. وتربية الإرادة هي
التي يكون بها الرجل رجلاً حرًّا من الرق والعبودية لغيرِ الله عزَّ وجلَّ - طليقًا
من الأسر؛ أسر الشهوات والأهواء، فلا تكون إرادته خاضعة إلا لاعتقاده،
ولا يتصرف فيها ملك من الملوك، ولا يستخذي لناسك من النساك؛ بل يأبَى
أن تذل ويخزَى لسلطان الجمال أيضًا.
وكان منهاج الأستاذ الإمام في التربية أن تكون غاية التأديب والتثقيف
حرية الإرادة وقوية العزيمة، ومنهاجه في التعليم أن تكون غايته حرية الفكر،
واستقلال العقل في الحكم، ويدخل في هذا تعليم الدين فقد كان منهاجه فيه
الرجوع إلى مذهب السلف الصالح، وفهم الدين من الكتاب والسنة كما كانوا
يفهمون، والاهتداء به في الأخلاق والعمل كما كانوا يهتدون، والتوسل إلى
ذلك بتحصيل ملكة اللغة العربية قَوْلاً وكِتَابَةً وخَطَابَةً عن فَهْمٍ وذَوْقٍ للكلام
العربي الفصيح بكثرة مزاولته مع الاستعانة بأحسن ما كتب في فنونه. وجعله
صديقًا للعلم وعونًَا له على إصلاح البشر، وكان يمزج التربية والتعليم بشيء
من السياسة يرى أنه لا تتم إنسانية المرء ولا كونه حرًّا مستقل الإرادة والفكر
بدونه، وهو الدعوة إلى استقلال الأمة وحريتها، وعدم استبعاد حكامها لها.
ويدخل في هذا الروح السياسي مسألة الوطنية واتفاق أهل الوطن على
مصالحهم الوطنية من غير جناية على الهداية الدينية.
وقد كتب فيما شرع فيه من ترجمة نفسه هذه المقاصد قال: وارتفع
صوتي بالدعوى إلى أمرين عظيمين: (الأول) تحرير الفكر من قيد التقليد،
وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب
معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها
الله لترد من شططه، وتقلل من خبطه وخلطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام
العالم الإنساني، وإنه على هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في
أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، ومطالبًا بالتعويل عليها في
آداب النفس وإصلاح العمل. وكل هذا أعده أمرًا واحدًا.
وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم
الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن
هو في ناحيتهم.
(وأما الأمر الثاني) فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء
كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره
الجرائد على الكلفة منشأ أو مترجمًا من لغات أخرى أو في المراسلات بين
الناس. وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه
الذوق وتنكره لغة العربي؛ إلخ.
(ثم قال) وهناك أمر آخر كنت من دعاته، والناس جميعًا في عمى
عنه وبعد عن تعقله؛ ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية،
وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه. وذلك هو التمييز
بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة
على الحكومة؛ نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على
حاكمها وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد
على عشرين قرنًا - دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو
من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم وأنه لا يرده عن خطئه، ولا يقف
طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل.
جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه
والظلم قابض على صولجانه
ويد الظالم من حديد
والناس كلهم عبيد له أيّ عبيد ا. هـ
كان سعد أيام طلبه للعلم في حجر الإمام وكنفه كولده لا كسائر تلاميذه
فكان يستفيد من علمه وعمله، ومن أخلاقه وشمائله، ومن فصاحته وبلاغة
كلامه، فشبَّ بين يديه كاتبًا خطيبًا أو أديبًا سياسيًّا، وطنيًّا إسلاميًّا.
لأجل هذه النزعة السياسية نفى الخديو توفيق باشا الأستاذ الإمام من
القاهرة إلى بلده محلة نصر في الغربية عقب نفي أستاذه السيد الأفغاني إلى
الهند، وكان يعلم أنهما قد بثا في مريديهما فكرة الحكومة النيابية الدستورية
في الحزب الوطني الذي ألفه السيد وكان سببًا لإسقاط إسماعيل باشا بالتواطؤ
مع ولي العهد توفيق باشا الذي كان انتمى إلى هذا الحزب وعاهد رئيسه السيد
على أن يجعل حكومة مصر نيابية إذا آل أمرها إليه إلخ ما بيناه بالتفصيل في
الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الذي سيصدر عن قريب إن شاء الله
تعالى، ثم انقلب على الحزب وزعيمه بدسائس الطامعين في ملكه وهو لا
يدري.
وأعجب من هذا أن توفيق باشا أبى على الأستاذ الإمام ما طلبه بعد
عودته إلى مصر بانتهاء مدة نفيه من أن يكون مدرسًا في مدرسة دار العلوم
لئلا يربي طلابها على أفكاره الاستقلالية - وأمر البلاد في أيدي المحتلين لا في
يده - وأمر بعد العفو عنه بأن يجعل قاضيًا في المحاكم الأهلية؛ ولكن في غير
القاهرة فقال الأستاذ لوزير الحقانية لما عرض عليه ذلك إنني لم أُخْلَقْ قاضيًا
وإنما خُلِقْتُ معلمًا، على أنني أعلم إذا دخلت القضاء أرتقي إلى أعلى درجة
فيه وأن التعليم ليس فيه ارتقاء.
هكذا كان شيخنا الأستاذ الإمام، وشيخه السيد الأفغاني موقظ الشرق
وحكيم الإسلام، يعلمان ويربيان مريديهما ويعدانهم لكل إصلاح. كانا يشبهان
في استفادة الناس منهما الكون الأعظم أو العالَم الكبير: سماؤه وما فيها من
النيرات، وأرضه وما فيها من جماد ونبات وحيوان، كل أحد يأخذ عنهما كما
يأخذ عن الكون ما هو مستعد له بفطرته، وبما توجهت إليه نفسه في تربيته،
وكانت مجالسهما وأوقاتهما كلُّها عِلْمٌ وحكمة كعالم الكون الأكبر لا تحجب عن
أحد، فكانت صيقلاً لمعادن مريديهما تعدها للنفع والفائدة للناس، والقيام بما
يتيسر للمرء من المصالح العامة، وقد كان تعليم سعد دينيًّا أدبيًّا سياسيًّا،
فعرض له أن يكون محاميًا في المحاكم الأهلية ففاق جميع المحامين؛ بل كان
أول من جعل لهذه المهنة قيمةً واحترامًا لم يكونا لها من قبله، ثُمَّ طفر
منها إلى أعلى درجة في القضاء الأهلي فكان مستشارًا في محكمة الاستئناف
في الذروة العليا منها، وتعلم اللغة الفرنسية وقوانينها في أثناء اشتغاله بها،
وذلك أن مَن كان مريدًا للأستاذ الإمام يصلح لما تَعَلَّمَ الوسائلَ له، ولِمَا لم
يتعلم وسائله. قال لي الأمير شكيب أرسلان الشهير: قلت لأستاذنا الإمام إن
الدولة عَرضت عليّ أن أكون مديرًا للمعارف في ولاية بيروت فامتنعت
معتذرًا بأن استعدادي للأمور الإدارية العامة لا للتعليم - فعذله الأستاذ عذلاً
شديدًا لقوله إنه غير مستعد لإدارة التعليم وإنني أنقل هنا كتابًا من كتب سعد
لأستاذه ليقف القارئ منه على ما كان من أثر تربيته له في نفسه، وسأنقل
غيره أيضًا إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))