للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


زيارة القبور للتبرك

بسم الله الرحمن الرحيم
من مصطفى نور الدين إلى شيخ المرشدين وزعيم المصلحين وإمام المجددين
لما درس من أمر الدين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد , فإني سمعت بكتاب اسمه (الإبداع
في مضار الابتداع) لمؤلفه الشيخ علي محفوظ , فاستحضرته؛ لأقرأه , فلما
وصلت في قراءته إلى صحيفة ٨٧ عثرت على هذه العبارة في السطر الثالث عشر
من هذه الصحيفة وهي: (ومن الزيارة التي يرجع نفعها إلى الزائر ما تكون للتبرك ,
فتستحب لأهل الخير؛ لأن لهم في برازخهم بركات، وعليهم تتنزل الرحمات) ,
فهل يحسن السكوت على هذه العبارة؟
إن السكوت على هذه العبارة وأمثالها يعد من الكتمان الذي توعد الله عليه في
كتابه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} (البقرة: ١٥٩)
الآية، خصوصًا وأنها منشورة في كتاب موضوعه من أهم مقاصد أهل الإصلاح ,
فالثقة والاغترار بها أقرب، وأيضًا فإن المفاسد والأضرار المترتبة على مدلولها
كثيرة لا يحصيها إلا الله من الافتتان بالقبور وأصحابها، وهي الفتنة التي عم
بلاؤها، وانتشر وباؤها، وعظم داؤها، وعز دواؤها - ولا سبب للإفساد بالقبور
وأصحابها إلا الاعتقاد بالانتفاع بما لهم في برازخهم من البركات، وما ينزل عليهم
من الرحمات، فإن الإنسان مطبوع على حب النافع , فإذا اعتقد ذلك؛ سعى بكل
وسعه في تعظيم أهلها , ثم تدرج من تعظيمهم إلى تعظيم قبورهم بالصلاة عندها
والطواف بها وتقبيلها واستلامها ووضع التماثيل عليها , وهي مزينة بأنواع الزينة ,
حتى العمامة للذكر والخمار للأنثى، وبأشياء كثيرة مما كان يفعله عباد الأصنام
لأوثانهم.
إن دعوى استحباب زيارة قبور أهل الخير لأجل التبرك دعوى باطلة , وقول
على الله بغير علم , ولا دليل عليه أصلاً، بل قامت الأدلة على حرمتها، فإن
الأحاديث التي وردت في التحذير من الافتتان بالقبور وأهلها؛ تدل على أن الزيارة
لمجرد التبرك محرمة؛ لأن اعتقاد التبرك ذريعة من أعظم الذرائع المفضية إلى
أكبر الكبائر وهو الشرك , فقد قال ابن القيم في باب سد الذرائع: (ومن تأمل
مصادر الشريعة ومواردها؛ علم أن الله ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم
بأن حرمها) , وقال في موضع آخر: (إن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه
أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر، لهذا تجد كثيرًا من الناس عند القبور
يتضرعون , ويخشعون , ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله , ولا في
أوقات السحر) إلخ.
فهذا هو الدليل على حرمة الزيارة إذا كان الغرض منها التبرك , فما الدليل
على استحبابها؟
إن الأحاديث التي جاءت بشأن زيارة القبور لا تدل على استحباب الزيارة إلا
إذا كان الغرض منها التذكر والاعتبار بالموت وما بعده , ففي حديث مسلم (زوروا
القبور؛ فإنها تذكر الآخرة) , فقد قصر علة الزيارة على تذكرة الآخرة فلم يطلق
بدون ذكر علة , حتى يمكن أن يقال ولو للتبرك , بل قيدها بهذه العلة , واقتصر
عليها , ولم يذكر علة أخرى، وعلى هذا؛ فدعوى استحباب الزيارة لعلة غير التي
ذكرت في الحديث , وزيادة علة لا تشبهها في معناها؛ يعد من الابتداع والتشريع
لما لم يأذن به الله، ويعد افتياتًا على الشارع، بل معارضة لمقاصده من سد الذرائع
المفضية إلى الشرك بالقبور وأهلها , وهذا هو الابتداع بعينه، ومن المصيبة أن
هذه العبارة منشورة في كتاب اسمه (الإبداع في مضار الابتداع) , ويا ليته ابتداع
لم يترتب عليه ضرر؛ بل قد ترتب على هذه الفرية (استحباب الزيارة للتبرك)
من المضار والمفاسد ما لا يحصيه إلا الله.
فجميع أنواع البدع التي تفعل عند قبور الصالحين لا سبب لها إلا الاعتقاد بأن
لهم في برازخهم بركات , وعليهم تنزل الرحمات، وأنهم ينتفعون بتلك البركات
والرحمات، ولذلك تجد عوام الناس , بل وخواصهم لا يقصدون من زيارة قبور
الصالحين إلا هذه الغاية، فهل تجد أحدًا يقصد قبور الصالحين للتذكر والاعتبار
بالموت وما بعده؟ كلا , إنما كانت زيارة القبور عبادة مستحبة؛ لأن الغرض منها
أمر محبوب للشارع مقصود له , وهو التذكر والاعتبار، فكيف تكون الزيارة بقصد
التبرك عبادة مستحبة والغرض منها إنما هو من هوى النفس وحظوظها؟ {إِن
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ} (النجم: ٢٣) .
ثم يقال لأهل هذه الضلالة أيضًا: من أين أتاكم أن البركات التي لأهل الخير
في برازخهم , والرحمات التي تنزل عليهم تنال زائريهم؟ والحال أن هذا أمر
غيبي لا يصح أن يقال إلا عن توقيف من الشارع , إذ لا مجال للرأي والعقل فيه ,
ويا ليتهم اقتصروا على هذه الفرية؛ بل رتبوا عليها حكماً شرعيًّا , وقالوا: يستحب
زيارة أهل الخير لما لهم في برازخهم من البركات , وما ينزل عليهم من الرحمات ,
سبحانك هذا بهتان عظيم، وهل تدري أيها القارئ من أين أتت هذه الضلالة ,
وأدخلت في الدين؟ جاءت من الفلاسفة الضالين المضلين التاركين لنصوص
الشريعة معتمدين على عقولهم وآرائهم؛ فضلوا , وأضلوا، فقد قال ابن القيم في
إغاثته: (إن أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة من عباد الأصنام , فإنهم
قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا يزال تأتيه الألطاف
من الله تعالى , وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به , وأدناه
منه؛ فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها) .ا. هـ
ثم قال: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي، ثم قال:
وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد , وبناء المساجد عليها ,
وتعليق الستور عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والدعاء بهم , والنذر
لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله قد بعث رسله , وأنزل كتبه بإبطال ذلك ,
وتكفير أصحابه ولعنهم , وهو الذي قصد رسول الله إبطاله , ومحوه بالكلية، وسد
الذرائع المفضية إليه، فوقف هؤلاء الضالون المضلون في طريقه , وناقضوه في
قصده، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان , وهو شديد التعلق به ,
فما حصل من السلطان من الإنعام والإفضال نال ذلك المتعلق من حصته بحسب
تعلقه به، وبهذا السبب عبد الناس أصحاب القبور.
وقال أيضًا رضي الله عنه: ولا تحسبن أيها المؤمن المنعم عليه باتباع
الصراط المستقيم أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانًا فيه غض من أصحابها ,
وتنقيص لهم، كلا ليس هذا من تنقصهم كما يحسبه الجهال أهل البدع والضلال،
بل هو من تعظيمهم وإكرامهم واحترامهم وسلوك فيما يحبون، واجتناب لما يكرهون،
وأنت - وايم الله - وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم، وأنت على هداهم.
وأما هؤلاء المبتدعون الضالون , فقد نقصوهم في صورة التعظيم، فهم أبعد
الناس من هداهم ومتابعتهم , كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى،
والروافض مع علي. هو من قبيل الصديق الجاهل الذي هو أضر من العدو العاقل،
فأهل الحق أحق بأهل الحق من أهل الباطل , والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء
بعض , والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض , فإن القلوب إذا اشتغلت بالبدع؛
أعرضت عن السنن، ولذلك نجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن
طريقة من كان يتبع السنن ويحييها، مشتغلين بغير ما أمر به ودعا إليه.
وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما تكون باتباع ما دعوا إليه من العلم
النافع والعلم الصالح , واقتفاء آثارهم , وسلوك طريقهم دون عبادة قبورهم ,
والعكوف عليها , واتخاذها أوثانًا , فإن من اقتفى آثارهم كان سبباً لتكثير أجورهم
باتباعه لهم، ودعوة الناس إلى اتباعهم، فإن أعرض عما دعوا إليه , واشتغل
بضده، حرم نفسه وإياهم من ذلك الأجر، فأي تعظيم واحترام له في هذا.. انتهى.
هذا وإني كنت أود أن الرد على هذه العبارة المضلة يكون من فضيلتكم؛ لما
هو معلوم من البون الشاسع بين ما أوتيتم من سعة العلم , وما أوتيه مثلي، ولكن
لعلمي بكثرة مشاغلكم الإصلاحية؛ كتبت هذا الذي يسر الله لي , فقد قال تعالى:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: ١٦) , وقال: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ
مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: ٧) , ولكن ما فائدة الكتابة بدون نشر، ومن ينشر مثل
هذا غير مجلتكم المنار مجلة الإصلاح الوحيدة في هذا الزمان، وإني لا أجد من
ينصر هذا الحق ويعينني عليه غيركم , فقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى} (المائدة: ٢) , وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التوبة: ٧١) وفقنا الله وإياكم، وبارك لنا فيكم , ونفعنا بعلومكم والسلام عليكم.
... ... ... ... ... ... كاتبه: مصطفى نور الدين بدمياط
(المنار)
إن كتاب الإبداع هذا لم يهد إلينا , وإنما رأينا نسخة منه جيء بها إلى مكتبة
المنار لأجل تجليدها لصاحبها , فنظرنا في فهرسه وبعض أوراقه؛ فسرَّنا أن يؤلف
مدرس في الأزهر كتابًا في مضار الابتداع , وينكر كثيرًا من البدع التي يشارك
الأزهريون فيها العامة , ويتأولون النصوص الدالة على حظرها، ورأينا في النظرة
العجلى القصيرة الزمن بعض مسائل منتقدة , لعل هذه المسألة منها , وأحببنا لو يتاح
لنا تصفح الكتاب كله لبيان منافعه وفوائده , والتنبيه لما ينتقد منه لعله يجتنب
في الطبعة الثانية المرجوة لمثله , ثم لم نره بعد ذلك.