للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أنباء العالم الإسلامي

(بلادنا المصرية)
فقدت هذه البلاد بموت زعيمها الأكبر سعد باشا زغلول ركن نهضتها، وسياج
وحدتها، وروح قوتها، ومناط آمالها في نيل الاستقلال التام المطلق، وأثبت لها ما
قالته الجرائد البريطانية فيه بعد موته أنها غير مخطئة في آمالها فيه وتعلقها به،
ولكنه قد مهد السبيل قبل وفاته للسياسي المحنك عبد الخالق ثروت باشا رئيس
الوزارة الائتلافية، للاتفاق مع الحكومة البريطانية على حد عقد الخلاف بمعاهدة
بين المملكتين، فإذا أمكن لرجال الوفد وسائر الأحزاب المحافظة على وحدة البلاد
واتفاق كلمتها بنظام حكيم يؤدي وظيفة الزعيم في ذلك؛ فإن البلاد تنال بذلك ما كان
مرجوًّا لها بوجوده أو ما يقرب منه , وإلا تعذر الاتفاق بين الدولتين , وعاد الجهاد
إلى ما كان عليه، فالفرصة الآن سانحة للفريقين بهذا وبحرص الدولة البريطانية
على تسوية المشاكل بينها وبين الشعوب الشرقية لئلا تفاجئها الحرب البلشفية العامة
الآتية، وهذه الشعوب على عداوتها؛ فيتعذر عليها الاستفادة منها كالحرب التي
قبلها أو الأمن من قيامها عليها وانتقامها منها.
***
(الشعب التركي)
كنا نعلن أن مصطفى باشا كمال يشنأ الإسلام , ويمقته من قبل أن يظهر ذلك،
ونعلم أن ملاحدة الترك الموافقين له على السعي لتحويل الشعب التركي عن
الإسلام بغضًا فيه , وفي العرب قوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيرون،
وكنا نتمنى قبل تأليفه للجمهورية اللادينية لو يظل هو وأركان حزبه يظهرون الإسلام
ويحافظون على اسمه وشعائره الظاهرة , ولا يعلنون عداوته مراعاة للشعب التركي
فأبوا إلا أن يهدموا كل ما بقي للدولة فيه من مظهر وشعيرة وحكم وعمل وعلم،
بعد أن وضعوا في قانون الجمهورية أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، فلم نشك
وقد رأينا ما رأينا من هدمهم للإسلام من الدولة , ثم محاولة هدمه في الأمة أن هذا
اللقب قد وضع تقية لئلا يكون لمفاجأة الأمة بترك دينها اسمًا ومعنى تأثير تخشى
غائلته، وقد صرح مصطفى كمال باشا نفسه أخيرًا بعد أن صرح مرارًا بأن التركي
حر في اختيار الدين الذي يعجبه وثنيًّا كان أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، ولعمري إنه ليس
حرًّا في أن يكون مسلمًا , فإنه يجبر إجبارًا على استباحة شرائع الإسلام من حلال
وحرام.
إن الحكومة الكمالية الشخصية العسكرية (الدكتاتورية) قد خصصت زهاء
نصف ميزانيتها للمصالح العسكرية وما يتعلق بها من حفظ الأمن في البلاد , وهي
في حال السلم , فمزقت شمل المعارضة التي قام بها الزعماء المسلمون , وكذلك
الثورات المتتابعة , ولما لم يبق في المملكة صوت يرتفع صرح مصطفى كمال باشا
بأن وضع اسم الإسلام في قانون جمهوريته كان مؤقتاً , وقد حان الوقت.
ومن أعجب أمر انتكاس المسلمين في دينهم وعقولهم أن أكثرهم لم يكونوا
يصدقون أن مصطفى كمال باشا قد انتزع الدولة التركية من حظيرة الإسلام , وأنه
يحاول انتزاع الشعب التركي منها، فإن منهم من سمى إلغاءه للأحكام الشرعية
ومحاكمها توحيدًا للمحاكم لا ينافي الإسلام - وسمى منعه للتعليم الإسلامي وإبطاله
لمدارسه توحيدًا للتعليم التركي لا ينافي الإسلام , وسمى تفضيله للقوانين الأوربية
المسيحية الأساس كقانون سويسرة للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث إيثارًا
للأحكام المدنية الجديدة على الأحكام الدينية القديمة الرثة البالية كما يقول هو وحزبه.
ولم يصرحوا بهذا إلا بعد أن صرح به كبراء الدولة الجديدة من الحكام
وأصحاب الجرائد، فكل ما ذكر لم يمنع بعض مسلمي الهند من إرسال وفد له
يعرض عليه منصب الخلافة الإسلامية؛ فرده خائبًا خاسرًا كما يستحق.! ! !
وقد بلغنا رواية عن بعض كبراء الترك في أوربة ونحن فيها منذ بضع سنين أن
مصطفى كمال باشا يرجح تنصير الشعب التركي , ولكنه يود أن يأخذ ثمنًا على ذلك
من الدولة البريطانية هو أن تعامل الشعب التركي معاملة الأقران والأمثال،
وتحالفه محالفة الأنداد والأقتال، وكان يرجو هذا بإلغاء الخلافة وإعلان اللادينية؛
فعز المنال.
من أشهر الكتاب الذين كانوا يغشون المسلمين بهؤلاء الملاحدة عمر رضا
أفندي المصري الأصل المقيم في الآستانة الذي كان يراسل جريدة الأخبار المصرية
الإسلامية قبل أن يصير أمر الحكومة التركية إلى هذا الحد من إظهار الكفر وعداوة
الإسلام , فلما برح الخفاء استبدل جريدة السياسة المؤيدة لنزعة الترك الإلحادية
بجريدة الأخبار الإسلامية التي صارت مناوئة ومقاومة لهم.
كتب الأمير شكيب أرسلان مقالات في إظهار خفايا شنآن الحكومة التركية
الجديدة للإسلام وللعرب نشرتها جريدة الأخبار , فتولى الرد عليها عمر رضا أفندي
هذا وبعض أصحاب الجرائد التركية، ثم شايعتهم جريدة السياسة في مصر، ولم
يرد له أحد حجته، ولا نقض له قضيته، وإنما جادلوا وماروا بالباطل , وزعموا
أنه ليس له حق في الدفاع عن الإسلام لأنه من طائفة الدروز! !
ولا عجز أظهر من عجز من يحاول دفع حجة خصمه بأنه ليس أهلاً لإيرادها
بسبب نسبه أو زعامته وزعامة بيته لطائفة كذا - فأي علاقة بين المباحث العلمية
والشرعية والتاريخية , وبين كون الباحث زعيمًا لطائفة من الناس لا علاقة لهم
بموضوع بحثه إلا أن تكون موافقته على الانتصار للإسلام، وتأييده في جهاد الكفر
والإلحاد؟
طائفة الدروز من الشيعة الباطنية الذين انشقت عصا الخلافة بينهم وبين أهل
السنة في القرون البائدة؛ فكانوا طرائق قددًا , منها جمعيات سرية ألبست لباس
الدين لجعل صلتها برؤسائها تعبدية لا مجال للرأي فيها وهم من صميم الأمة العربية
ولبابها , لا يعرف أكثر أفرادها من تلك التعاليم الباطنية شيئًا، والذين تعلموا
التاريخ من رجالها قد عرفوا أن تلك التعاليم كانت مكرًا من مجوس الفرس بالعرب
ليفرقوا كلمتهم، ويضعفوا شوكتهم؛ ليزول ملكهم، ويتقلص ظلهم عن بلاد فارس
فيعود لها ملكها التليد، ولذلك يسعى هؤلاء العلماء إلى رد من بقي من طائفتهم
محافظًا على تلك التعاليم الباطنية إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وقد استشارني
كثيرون من نابغي شبانهم في هذا، على أن الذين لا يزالون يعرفون تلك التعاليم
السرية أفراد من الطائفة يسمون رجال العقل ويشترط في اطلاعهم عليها استمساكهم
بكثير من الفضائل والآداب التي يقل في الناس من يحافظ عليها.
وباقي أفراد الطائفة لا يعرفونها فهم لا يعدون دروزًا إلا بالنسب، ككثير من
المنتسبين إلى السنة وهم على بدع بعضها شرك صريح بالله، وبعضها من كبائر
المعاصي , ومنهم الذين عرفوا مذهب السنة واعتصموا به.
وأما الأمير شكيب نفسه فهو من أنبغ مريدي الأستاذ الإمام الذين تلقوا عنه
عقائد السنة السلفية وحكمتها العالية في بيروت حيث ألف رسالة التوحيد التي لم
يؤلف مثلها في الإسلام، فكان بهذا من أنصار الإسلام والسنة لا من آحاد المسلمين
أو عوامهم، وقد قال له السيد جمال الدين حكيم الملة: حيا الله أرض إسلام أنبتتك.
وقد كان يصلي معي في فنادق أوربة أيام صحبته لي فيها، فيا ليت لهؤلاء
الذين عَرَّضُوا بدينه أو مذهبه بعض ما هو عليه من العلم الصحيح بالإسلام والعمل
به، دع الدفاع عنه والنضال دونه.
ولما كان الانتقاد في فوضى هذا العصر القلمية كالحمارة العرجاء يركبها كل
ضعيف؛ رأينا في بعض الجرائد انتقادات لغوية وشرعية على بعض عبارات
للأمير شكيب في بعض مقالاته , كان المنتقدون له فيها هم المخطئين , حتى في
مسألة المصالح المرسلة ويسر الشريعة التي كانت عبارته فيها غير محررة على
الاصطلاح الإسلامي الفقهي , ولم نفرغ يومئذ لتحقيق الحق فيها.
***
(الشعب السوري والثورة)
لكل مظهر من مظاهر الاجتماع البشري ظاهر وباطن، ولا سيما الثورات
والحروب فإنها كثيرًا ما تخفي حقيقتها وحقيقة رجالها زمنًا طويلاً إن لم يكن دائمًا.
وقعت الثورة السورية فعمل فيها بعض الناس اختيارًا، واضطر بعضهم إلى
الدخول فيها اضطرارًا، وكان هَمُّ بعض هؤلاء استغلالها والربح منها، وشاركهم
في هذه القصد آخرون ممن يشتغلون بالسياسة السورية حيثما وجدوا سواء كانوا في
داخل البلاد أو في خارجها، ومن طلاب الربح من يطلب المال، ومنهم من يطلب
الجاه كالزعامة والرياسة وكثرة الأتباع والأنصار.
وكان من أكبر جنايات هؤلاء المرائين أنهم أحدثوا شقاقًا في الأمة بطعن
بعضهم في الرجال الذين كانوا يتولون إيصال الإعانات إلى أهلها، لأنهم لم
يستطيعوا إرضاء طمعهم وإشباع نهمتهم، ومن دلائل سوء نيتهم وفساد طويتهم
استعانتهم على فعلتهم ببعض الجرائد المستأجرة للمستعمرين خصومهم، ومن
جرائمهم أنهم كتبوا إلى كرام المهاجرين الذين في البلاد الأميركانية مكتوبات تثبط
عزيمتهم وتقبض أيديهم عن إعانة المنكوبين في هذه الثورة، ولا سيما أباة الضيم
الذين أَبَوْا التسليم المخزي وأووا إلى حدود نجد يعتصمون فيها بعد أن أخرجتهم
حكومة الأمير عبد الله بن حسين الهاشمي من أرض الشرق العربي بأمر سادته
الإنكليز.
ولم يكتف هؤلاء بهذه الجريمة، بل ارتكبوا جريمة شرًّا منها أو مثلها , وهي
الوشاية باللاجئين إلى حدود نجد وبمن يخدمونهم ويسعون لسد رمقهم , فقد كتبوا إلى
جلالة ملك الحجاز ونجد من الطعن الكاذب في إخوانهم ما لا يرضاه لنفسه إلا
الشيطان الرجيم عدو البشر.
ثم دبت عقاربهم إلى اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني التي كانت
منذ أسست موضع إجلال جميع السوريين وثنائهم، فاحتلوا مكتبها وناديها وجعلوه
مركزًا لجميع ما تقدم ذكره آنفًا من الفساد والفتن، حتى اضطر أكثر الأعضاء إلى
هجر ذلك المكتب والاشتغال في مكان آخر - وقد بذلت كل ما استطعت من جهد
لتلافي ذلك فما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وقد سعى بعض فضلاء الإخوان هنا لما
عجزت عنه , ولا أزيد الآن على ما ذكرت إلا إذا خاب سعيهم.
ولكن من المحزن أن يلجأ من رفعه سادة المسلمين وكبراؤهم , ووضعوه فوق
رؤوسهم إلَى الاستعانة على مقاومتهم برجال الكنيسة ومتعصبي الدين والسياسة؛
لينصروه باسم النصرانية على المسلمين، ويزعم هو وهم أنهم نبذوه لأجل دينه،
فهل كان حين رفعوه مسلمًا أو " ما عدا مما بدا "؟
نفاق وشقاق، وخلف وافتراق , وقر لا يطاق، وبيوت مخربة، وقرى مهدمة،
ومزارع مستأصلة، وهجرة من البلاد متصلة، وذل وعبودية، وشكوى عامة من
الحالة الاقتصادية، وتخبط في التصرفات السياسية - كل هذا بعض ما تئن منه
سورية، وكل هذا وأكثر منه لم يصرف بعض شبان أم الوطن (دمشق) وشوابها
عن فتنة التفرنج، القاتلة للتدين، والتعرب، المزينة باسم التجدد.
فأما الشبان فيريدون تزيين رءوسهم بالبرنيطة ليكونوا كبعض محرري جريدة
السياسة المصرية والهلال المصري مجددين، فإن كانوا لا يعلمون من هذا التجديد
أو التجدد إلا لبس البريطانية لسهولته، وخفة مؤنته، والسبق إلى التميز عن الجمهور
به، فليعلموا أن من أساتذتهم في مصر من يدعو جهرًا إلى ترك الدين - كل دين ألبتة،
ومنهم من يدعو إلى ترك الجنسية النسبية، وقطع الرابطة الوطنية، والتجنس
بجنسية أوربية، فإن كانوا كذلك فما عليهم إلا أن يتجنسوا بالجنسية الفرنسية مباشرة
كما يقول المثل الذي يكثر من ضربه أبو حامد الغزالي: (كن يهوديًّا صرفًا وإلا فلا
تلعب بالتوراة) , وإلا فلبس البرنيطة وحدها لا تفيدهم علمًا ولا عملاً، ولا عزًّا، ولا
شرفًا، وأقل ما فيها من الضرر إيجاد شقاق وتفرق جديد في بعض مشخصات أمتهم
وهو إضعاف لها، وقطع لصلتهم بها وكذلك يصبحون بغير أمة ولا ملة.
وأما الشواب فقد طلبت زعنفة منهن إذن الحكومات لهن بأن يبرزن في
الشوارع والأسواق سافرات الوجوه، عاريات الصدور، حاسرات عن الذراعين
والعضدين، كاشفات عن الساقين والركبتين، أو كما ورد في الحديث في صفة
بعض أهل النار: (ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة
البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) فهل رأى هؤلاء أن العهر قد رث
وخلق؛ فهن يردن تجديده بتقليد عواهر الغرب؛ ليكون أشهر وأعم انتشارًا؟ فإن
لم يكن عندهم بقية من الدين وشرف العرض كما هو الظاهر، أفليس لهن شعور
بأن لهن أمة محتاجة إلى تجديد مجدها الذي كان فوق كل مجد في الأرض! وبأن
لهن وطنًا محتاجًا إلى تجديده بالعمران، بعد أن خربته أحداث الزمان، أَوَ لا يوجد
من أهلهن من يخبرهن بأن تجديد الأمم والأوطان إنما يكون بالجهاد في تحصيل
الثروة والقوة بالعلم والفن والصناعة والزراعة والتجارة - وأن الترف والسرف في
التورن والتنوق والتطرز والتطرس مدعاة للفسق والفجور المخرب للعمران لا
المجدد له؟ وهذه قضية متفق عليها بين علماء الشرق والغرب لم يختلف فيها أحد ,
وإن ظن الجاهل الناظر لظواهر ترف الإفرنج خلاف ذلك، وقد بينا شبهة هؤلاء
الجاهلين وفندناها في المنار مرارًا.