للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


افتراء عقائد في عالم الغيب
وحياة الرسول فيه وجعله عقيدة
وتكفير من لا يتبع مبتدعها فيها

(ومنه) هل يجب على المؤمن أن يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم حي
في قبره حياة دنيوية، وأنه يتمشى في الكون على ما يشاء وأن ذاته الشريفة تحضر
في المجلس الذي تقرأ فيه قصة مولده صلى الله عليه وسلم وبالأخص البرزنجي،
وأن من لم يعتقد كل ذلك يخرج من دائرة الإسلام , ويفسخ نكاح زوجته ومأواه النار
والعياذ بالله؟ وألتمس من حضرتكم فتوى يطمئن بها الخاطر وينشرح الصدر حجة
لنا لا علينا , ودمتم محفوظين بالعناية الإلهية آمين والسلام.
(ج) ليس لأحد من خلق الله أن يوجب على أحد من عباده عقيدة ليس فيها
نص قطعي في كتاب الله أو سنة رسوله , وأجمع عليها أهل الصدر الأول، فإن
العقائد لا يقبل فيها دليل القياس عند من يقولون إنه حجة في الشرع دع من
يرفضون الاحتجاج به مطلقًا , أو فيما عدا المنصوص على علة الحكم فيه، وذلك
لأنه عند المحتجين به دليل ظني خاص بالأحكام العملية , والتحقيق أنه خاص فيما
دون التعبديات منها، والله تعالى يقول: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: ٣٦) , وأجمعوا على أن أمور الغيب تؤخذ من نصوص الشارع القطعية ,
ولا يقاس عليها , ولا يحتاج فيها إلى القياس؛ لأنها من أصول الدين والله تعالى
يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) فإذا تذكرت هذه القواعد
القطعية علمت أن من أوجبوا على المؤمن أن يعتقد ما ذكر في السؤال , وكفروه
بعدم قبول زعمهم ضالون مضلون قد كذبوا على الله ورسوله وشرعه , ويصدق
عليهم قوله تعالى في أصول المحرمات والكفر: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} (البقرة: ١٦٩) وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: ٢١) ومكذبون لقوله عز وجل: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) ومخالفون لإجماع المسلمين، فهم أجدر بالكفر والخروج من
الملة ممن يكفرونه بعدم تصديق بدعهم في المولد وقصة البرزنجي وغيره ,
والواجب عليهم عند إعلامهم بذلك أن يتوبوا ويجددوا إسلامهم , فإن التشريع الديني
كفر صريح , وصرح بعضهم أنه أشد من الشرك لأن ضرره متعد , كما بيناه في
تفسير سورة الأعراف تبعًا لغيرنا من العلماء , ومنه تكفير المسلمين الذين لا يقبلون
بدعهم , وأئمة أهل السنة لا يكفرون مسلمًا إلا بجحد ما هو مجمع عليه ومعلوم من
الدين بالضرورة لأن غير المعلوم من الدين بالضرورة يعذر منكره بالجهل.
قال صاحب عقيدة الجوهرة:
ومن لمعلومٍ ضرورةً جَحَدَ ... من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
فكيف يكفر المسلم بإنكار البدع , وإنكارها واجب شرعًا؟ وقراءة قصة المولد
بدعة , ومن أشد فسادها اعتقاد هؤلاء المبتدعة ما ذكرتموه بشأنها , وهو كفر
صريح , وقصة البرزنجي وغيرها فيها مشتملة على أكاذيب أغنى الله خاتم رسله
عنها بما مدحه به في كتابه , وما هدى به من خلقه، وحياته بعد الموت من عالم
الغيب , من قال فيه قولاً من رأيه قياسًا على حياة الدنيا التي انقطعت بموته وإلا لم
يكن ميتًا؛ فهو كاذب مفتر على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومنه ما
ذكرتم في السؤال.
ومن عجيب أمر هؤلاء المبتدعة أنهم يخترعون عقائد للإسلام ليس لها أصل
من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولم يقل بها أحد من الأئمة المجتهدين على أنه لو
قال بها لردها المسلمون عليه.
ثم إنهم يطعنون في كتب الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن تيمية لما افتراه عليه
بعض المقلدين بزعمهم أنه خالف الإجماع في بعض مسائل الفروع يَعْنُونَ إجماع
فقهائهم , وهم يجهلون اختلاف الأئمة وعلماء الأصول في حجية هذا النوع من
الإجماع وفي إمكانه أيضًا.
وأشهر المسائل التي زعموا أنه خالف فيها الإجماع مسألة الطلاق الثلاث بلفظ
العدد مرة واحدة , وسترى قيمة زعمهم في الفتوى التالية.