للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: قسطنطين ملحم


لماذا دخلت في الإسلام؟

(نشرت بعض الجرائد العربية في أمريكا ثم في مصر مقالاً بهذا العنوان
لصحاب الإمضاء الذي هداه الله تعالى إلى الإسلام ببحثه الحر , وعقله المستقل ,
وفطرته السلمية؛ فلغط أهل ملته التقليدية في إسلامه بما شاءت عصبيتهم , فكتب
مقاله النزيه ردًّا عليهم قال) :
لم ألزم الصمت حتى الآن , ولم أتحاش إذاعة إسلامي على صفحات الجرائد
إلا لاعتقادي بأن الأمر ليس بذي أهمية تذكر.
وما هو إلا حادث بسيط خاص بي وحدي دون سواي، ولست بمؤد عنه
حسابًا إلا لخالقي عز وجل.
وما كنتُ لأحسب - وايم الحق - أن شخصي الحقير يستأهل مثل هذه
الاهتمام , ويستفز كل هذه الجلبة والضوضاء مستثيرًا الظنون المتضاربة والأقاويل
المتنوعة حول عمل كنت أعده بسيطًا , ولم يقعدني عن إذاعته إلا خوفي من أن
يحسب العاذل أنني أرمي من ورائه إلى حب الشهرة والمجد الباطل.
أما وقد وقع ما كنت أتحاشاه تواضعًا لا خوفًًا , فإنني لم أخف قط في قول
الحق , ولا خشيت فيه لومة لائم , فلم يبق بد من بسطي لبني وطني رأيي الصراح
في الأمر المذكور كي لا تبقى حسرة في نفس يعقوب.
ليس في اعتناق الإسلام مدعاة للاستغراب , ولا موضع للظنة والريبة، فإن
هو بحسب اعتقادي إلا تطور طبيعي يؤدي إليه التعمق في درس الأديان المتسلطة
اليوم على عقول البشر، اللهم إذا كان عقل الدارس غير مقيد بقيد غليظ يربطه
بأحد الأديان ربطًا محكمًا لا يستطيع الإفلات منه.
وليس غرضي الآن التبسط في شرح كل دين على حدة لتبيان أفضلية الواحد
على الآخر , فذاك أمر يستلزم مجلدًا ضخمًا، لا مقالاً واحدًا ينشر في جريدة سيارة ,
فأكتفي إذن من هذا البحر الواسع بالوشل مقتصرًا على بعض المميزات بين الدين
المسيحي الذي ولدت في أحضانه والدين الإسلامي الذي اتبعته.
لا جدال في أن الأول دين سام غاية في الجمال والنفع لبني البشر إذا جردناه
من الزوائد التي أدخلها عليه الأكليروس فمسخته مسخًا , وشوهته تشويهًا جعله اليوم
دينًا أقرب إلى المادة الفانية منه إلى الروح الشريفة السامية.
ادخل مثلاً إحدى الكنائس؛ فترى التماثيل والأيقونات والرسوم محيطة بك من
كل جانب.
تأمل ملابس الكهنة وزخرفتها وزركشتها، لاحظ بدقة طقوس الصلاة
والعبادة , وما يعتورها من رائحة بخور وابتهال حار لطغمة لا يحصى عديدها من
قديسين وقديسات يقومون سدًّا منيعًا دون الوصول إلى العزة الصمدانية.
تبصر في كل هذا وقل لي: ألا تحسب نفسك في هيكل أعد لعبادة الأوثان؟
تعالى معي الآن لندخل هذا الجامع الخالي من التماثيل والصور.
انظر هذه الجموع الغفيرة المؤلفة من مئات وألوف الرجال الأشداء.
تأمل خشوعهم العديم المثال , وسجودهم بورع زائد كأنهم رجل فرد أمام
الواحد القهار , أصغ إلى صلاتهم السامية في بساطتها والمختصرة [١] في كلمات
الشهادة
(أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الله أكبر الله أكبر)
انظر إلى إمامهم اللابس ثيابًا بسيطة كواحد منهم , والمتعمم بعمامة من الشاش
الأبيض الرخيص الثمن , وقابل ملابسه بملابس ذاك الكاهن أو المطران المزركشة
بخيوط الفضة والذهب , والمرصعة قلنسوته بالحجارة الكريمة.
في الجامع كل شيء يحولك عن بهرجة هذا العالم الفاني , ويصعد بك في
عوالم اللانهاية؛ ليضعك عند أقدام العزة الصمدانية.
أما في الكنيسة فكل ما يحيط بك يبعد عن الواحد الأحد , ويلصقك بالمادة.
قد يقول لي قائل: إن البروتستنت وهم شيعة من المسيحية قد نسخوا من
كنائسهم الرسوم , فلماذا لم تتبع مذهبهم وفضلت الإسلام عليه؟ ، فجوابي أن
المذهب البروتستنتي هو أقرب المذاهب المسيحية إلى الدين المسيحي الحقيقي ,
غير أنه يعاب في نظري لإقراره بألوهية المسيح.
وأنا مع اعتباري السيد المسيح من فضلاء المصلحين والأنبياء وفي اعتباري
النبوة وحي إلهي لا أقر له بالألوهية , ولن أعبد قط رجلاً مثلي من لحم ودم.
وهذه العقيدة راسخة في منذ بلغت رشدي , وقد جاهرت بها منذئذ بين أهلي
وأقربائي وكل من شافهني في هذا الموضوع من سنين طوال إلى يومنا هذا ,
فتطوري إذن ليس حديث العهد كما يتوهم غير عارفي، بل هو نتيجة اقتناع راسخ
مستحوذ لا عليَّ فقط , بل وعلى السواد الأعظم من المسيحيين المتعلمين الذين
سنحت لي مباحثتهم في الأمر، وجلهم ينكرون حتى وجود الباري تعالى عز وجل.
أما ميلي إلى الدين الإسلامي الحنيف , فليس حديث النشأة أيضًا، ولهم بذلك
علم (أعني) من كانوا يطلعون على كتاباتي في جريدتي المحتجبة (أداليد)
ومجلتي (لابالابرابورتانيا) ، فمنذ خمس سنوات خلت بدأت بالمدافعة جهرًا عن
الإسلام بقلمي ولساني بعد أن كنت أدافع عنه سرًّا بلساني فقط.
غير أن ميلي المذكور لم يصل بي إلى حد التدين نهائيًّا بالدين الذي آليت على
نفسي الدفاع عنه.
وما ذلك إلا لأني كنت لم أزل أجهل عنه الشيء الكثير , فعندما عولت على
وضع كتابي (شرائع الإسلام) رغبة مني في دحض افتراءات المفترين على
الشريعة السمحة رأيت نفسي مضطرًّا لمراجعة مصنفات الأئمة الأعلام , ومطالعة
أكثر من واحد من كتب الدين؛ فاتضح لي عندئذ بجلاء جمال هذا الدين السامي
وفضل المصلح الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم على الإنسانية جمعاء؛
فصممت حينئذ على اتخاذ الإسلام دون باقي الأديان دينًا أتدين به , وكان ذلك عام
١٩٢٤، أي حين انتهائي من وضع الكتاب المذكور.
بيد أني للأسباب التي ذكرتها آنفًا، ولحذري من سوء ظن أولئك الضعفاء
العقول الذين لا يبصرون أعمال بني جنسهم إلا مدفوعة بدافع مادي، ولا
يتصورون أن المرء قد يعشق الجمال لمجرد الجمال , بل لما يتضمن من لذة مادية
وحشية قلت: إني لهذه الأسباب تركت أمر إسلامي طي الخفاء إلى أن جاء زمن
إعلانه , ولم يبق في وسعي السكوت، لأن سكوتي الآن إما أن يحسب عليّ جبنًا
وخيانة , وإما مراوغة ومداجاة، فأكون نصرانيًّا مع النصارى ومسلمًا مع المسلمين،
وأنا بعيد عن ذلك.
فأنا منذ ثلاث سنوات مسلم بكل ما في الإسلام من مبادئ سامية وأفكار راقية
وروح تعاضد وحب خير وابتعاد عن المنكر.
والذي يزيدني تمسكًا به ما وجدته فيه من الحض على العلم والعرفان ,
ومطابقته روح المدنية الحقيقية.
فالإسلام دين علم وعمل , وبعبارة أخرى هو دين إيجابي، بعكس الدين
المسيحي الذي هو سلبي: يأمر بإنكار الذات التام , ويحض على الابتعاد عن كل ما
في هذه الدنيا من رزق ومتاع بصورة أن من أراد العمل [٢] بأوامر الدين المسيحي
بالحرف الواحد؛ لزمه ترك الدنيا والتنسك في صومعة.
أما الدين الإسلامي فيمكننا العمل بأوامره تمامًا دون أن يحوجنا ذلك إلى
الابتعاد عن العالم وما فيه من لذة وتمتع غير محرمين.
ورب قائل يقول: إنه كان بوسعي أن أفعل كباقي متعلمي النصارى المحافظين
بالاسم فقط على دينهم , والعاملين فعلاً ضد تعاليمه , فجوابي على قولهم هو أني لا
أرضى لنفسي ادعاء ما ليس في , فما دمت لا أستطيع العمل بتعاليم الدين المسيحي
فما لي وللادعاء الفارغ بحملان اسمه.
ثم إني لأشعر بذاتي حقيرًا في عيني نفسي إن لم أجسر على التصريح
بأفكاري بحرية واستقلال , وكيف يحق لي طلب استقلال لبني أمتي وبلادي إذا
كنت لا أبدأ بإنالة روحي استقلالها؛ لتفعل ما تراه صالحًا وموافقًا لخلاصها وراحتها
الأبدية؟
وهل يليق بمن كان مثلي أن يظل أسير التقاليد إذا كان في هذه التقاليد ما ينافي
عقله واعتقاده؟ فإذا ولدت مسيحيًّا من أبوين مسيحيين، هل يكفي ذلك لبقائي على
الدين المسيحي حتى لو كان هذا مخالفًا لما يوحيه إلي ضميري ويمليه عقلي؟
ولو كان هذا صحيحًا ومقبولاً لما جاز للسيد المسيح عليه السلام وتلاميذه
الأبرار ترك اليهودية والتبشير بالنصرانية , ولا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم
وصحابته (رضي الله عنهم) هجر عبادة الأصنام، ونشر الإسلام من المشرق إلى
المغرب.
إن سنة النشوء والارتقاء تقضي ببقاء الأصلح , فمن ترك أمرًا صالحًا للتمسك
بما هو أصلح منه , أو بما يعتقده أصلح منه كان عاملاً بأوامر تلك السنة الأزلية
التي لا مرد لأحكامها.
هذه هي حقيقة حالي والأسباب الجوهرية التي حملتني على اعتناق الإسلام
لأقف على خدمته البقية الباقية من عمري.
... ... ... ... ... ... ... ... ... قسطنطين ملحم