للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من تونس
(تأخرت سهوًا)
(س ٢٩-٣٣) من صاحب الإمضاء بتونس.
حضرة صاحب الفضيلة والفضل، والرأي والقول الفصل.
سيدي أعزك الله وأخذ بيدك , من بعد تقديم السلام والاحترام لسعادتكم، وما
يجب عليّ أن أبرز ما أشعر به بفؤادي نحو خدمتكم من الشكر الجزيل، والدعاء
لكم بالبقاء والعمر الطويل , فإني أرجو من فضيلتكم أن تعيرونا فترة من وقتكم
النفيس كي تجيبونا على السؤالين التاليين خدمة للعلم ودحضًا للدعاية التي يبثونها
جماعة المبعوثات البروتستانت بهذه البلدة المنكوبة الحظ , مما جعل الناس في حيرة
من القبض على دينهم , وكأنه قد انطبقت عليهم كلمة الرسول (يأتي يوم) الحديث -
ولكم المنة والشكر وعظيم الأجر.
أولاً: أن تفسروا في مناركم المنير: ما معنى أو كنه الآية التي بعد: {اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: ١٢) الآية , وما يقصد
بالمثلية؟ وإن كانت في العدد كما هو المتبادر فكيف يتصور عدهن؟ وإن كانت
طبقات طبقات بعضها فوق بعض (حسب ما أشار إليه ذو الجلالين) وتحيط
بجميعها الكرة الأرضية فلماذا لحد الآن لم يكشف شيئًا من هذا الانفصال العلم
الحديث رغم ما حفروا ونقبوا الأرض تنقيبًا , ولماذا يفرق بينهن إن كانت على
هاته المنوال والحالة هذه؟ , وإن فرضنا أن كل أرض مصورة بكرة أرضية خاصة
والحال أننا في واحدة فقط كما هو المقرر فالباقيات الست أين هي؟ ومن يسكنها؟
وما أقوال الباحثين فيها؟ انتهى.
ثانيًا: ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسم سيدنا عيسى من ورحه؟ وما
قولكم في الآية التي بعد {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: ٥٥) الآية،
وإن كان حيًّا يرزق كما كان في الدنيا فمم يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم
حيواني كما هي سنة الله في خلقه؟ وإن قلنا: إنه في السماء , وأثبتنا من الآية أو
غيرها ما تقدم فعند نزوله في أي مكان ينزل؟ ومن أين يأتي؟ وما أقوال السادة
العلماء فيه؟ وما حكم من ينكر وجود سيدنا عيسى الآن حيًّا ويعتقد [١] في يوم يأتي؟
وما نصيب هذا المفكر من الإيمان؟ أفيدونا عن ذلك ولكم الدعاء بالإعانة
والامتنان.
ويا حبذا لو تسرعون بنشر السؤالين في المجلة حتى ينفصم حبل الإلحاد
والتضليل (وإبادة كل بدعة أو ضلالة أنفع لجميع المسلمين) والله يحق الحق
ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا على لسان من يقيضه من خلقه ويجعله بذلك
خليقًا، والسلام.
... ... ... ... ... ... من محبكم الداعي لكم مشترككم
... ... ... ... ... ... ... فقير ربه عمر خوجة بتونس
تفسير
] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [[٢]
جاء ذكر السموات والأرض معًا في عشرات من الآيات، وجاء ذكر الأرض
وحدها في آيات أخرى كثيرة , ولم تذكر في القرآن إلا مفردة، بل ليس فيه ما
يشير إلى تعدد الأرض إلا هذه الآية في آخر سورة الطلاق على بعض الوجوه
المحتملة في المثلية , وهي مبهمة لا يمكن تعيين المراد منها بالرأي على سبيل
القطع، وقد تغلغلت الإسرائيليات في تفسيرها , ولا سيما أقوال كعب الأحبار ,
ووهب بن منبه التي صرح المحققون بعدم الثقة بشيء منها، وناهيك بهذه
الإسرائيليات في وصف السموات السبع والأرضين السبع وما فيهن، ومن أغربها
أثر ابن جريج الطويل العريض في خرافات طولهن وعرضهن , وما فيهن ,
والمسافات بينهن , وبالصخرة الخضراء المكللة , والثور ذي الثلاث القوائم
والقرنين , وبالحوت الذي ذنبه عند رأسه , وبالخرافة التي أخرجها أبو الشيخ في
العظمة عن كعب الأحبار قال: الأرضون السبع على صخرة , والصخرة في كف
ملك , والملك على جناح الحوت , والحوت في الماء , والماء على الريح , والريح
على الهواء ريح عقيم لا تلقح , وإن قرونها معلقة بالعرش.
وروي عن ابن عباس في تفسير الآية أنه قال: (لو حدثتكم بها لكفرتم ,
وكفركم تكذيبكم بها) , وروي عنه أنه قال: (سبع أرضين في كل أرض نبي
كنبيكم , وآدم كآدمكم , ونوح كنوحكم , وإبراهيم كإبراهيمكم , وعيسى كعيساكم) .
قال البيهقي: إسناده صحيح ولكنه شاذ بمرة , لا أعلم لأبي الضحى عليه
متابعًا , وقال الذهبي مثل ذلك , وزعم أبو حيان أنه موضوع من رواية الواقدي ,
وهو رأي في المثلية معناه: وخلق من الأرض مثلهن في الصفة , وهو كونها
كأرضنا حتى في حياة أمثالنا من العقلاء المكلفين فيها , وهذا المعنى يقتضي أن في
السموات السبع , ولو في جملتهن ومجموعهن أحياءً كبني آدم بعث فيهم رسل
كرسلهم , وهو ليس بشاذ لا يعرف له أصل كما زعموا , بل له أصل في القرآن
نفسه وهو {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى
جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى: ٢٩) .
وقال جمهور المفسرين: إن المراد بالمثلية العدد وهو كونها سبعًا وحاول
بعضهم وصفهن بكل ما وصفت به السموات السبع من كونهن طباقًا بعضها فوق
بعض إلى غير ذلك، ومن وجود السكان فيهن قيل من الملائكة وقيل من الجن -
ولكن الملائكة والجن لم يطلق عليهما اسم الدواب، ولا أدري لماذا يهرب هؤلاء من
إثبات أنواع الحيوان فيهن والله تعالى يقول: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} (الشورى:
٢٩) أي السموات والأرض ولو في جملتهما.
وقال بعضهم تبعًا للضحاك: إنهن سبع طبقات متصل بعضها ببعض , لا
متفرقة , وفصله بعضهم بما يقرب من قول علماء الجيولوجيا في طبقات الأرض.
وقال آخرون: ومن الأرض مثلهن في العدد فقط مع الإمساك عن الاتصال
والانفصال.
والسائل مطلع على هذه الأقوال , والآية ليست نصًّا في شيء مما قيل ,
والمتبادر منها بحسب العبارة وصرف النظر عن الروايات والأقوال أن الله خلق
سبع سموات , وخلق الأرض مماثلة لهن , أو خلق من الأرض مثلاً ونظيرًا لهن ,
أي أن خلق الأرض كخلق السموات، والمثلية تصدق في الأمور المشتركة بين
المثلين , ولا يجب أن تكون من كل وجه في المادة والصفات، كيف وقد ضرب الله
المثل لنوره المصباح في المشكاة، وإنما تعرف الصفات المشتركة بين الأشياء
بالحس يقينًا أو بالقياس ظنًّا أو بالوحي إيمانًا، وليس عندنا نص من الوحي في
وجه المماثلة، وأما الحس فإننا نرى الأرض على قرب , ونعرف من صفاتها شيئًا
كثيرًا إن لم نقل كل شيء ولو بالإجمال، وأما السموات السبع فإذا كان المراد بها
الدراري التابعة لنظام شمسنا هذه كما كان يفهم العرب مثل أمية بن أبي الصلت
الذي ذكر السبع في شعره , وكما يقول الكثيرون من العلماء بالتفسير وبعلم الهيئة
الفلكية فوجه الشبه ظاهر عندهم وهو أن هذه الأرض نفسها كوكب من كواكب
النظام الشمسي كالمريخ والمشترِي التي تستمد النور من الشمس , وترتبط معها
بسنة الجاذبية العامة، إلا أن بينها فروقًا , وأقربها إلى صفة الأرض في أحيائها
النباتية والحيوانية المريخ.
وقد نقل الراغب عن بعض العلماء عبارة بديعة في هذا المعنى وهي: كل
سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض، إلا السماء العليا
فإنها سماء بلا أرض , قال: وحمل على هذا قوله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ
وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: ١٢) .
وأقول: إن هذه الدراري إنما كانت تعد سبعًا في عرف المتقدمين بعد الشمس
والقمر منها دون الأرض، وهي تعد الآن ثماني منها الأرض وكوكبان عرفا
بمراصد هذا العصر , وهما أورانوس ونبتون , ومكانهما وراء زحل أي فوقه
ودونه المشتري فالمريخ فالزهرة فعطارد , وهي سبع سموات بالنسبة إلينا كما تقدم ,
فبقيت عبارة القرآن صحيحة في نفسها , وإن كانت السموات السبع مجهولة لنا
كأن تكون من عالم الغيب فالواجب أن يحمل معنى المثلية على أعم الوجوه ككونها
من خلق الله الدال على قدرته وعلمه , كما يدل عليه آخر الآية وسيأتي، ولكن هذا
القول مردود بالآيات القرآنية المتعددة.
وقد ورد في الأحاديث والآثار روايات كثيرة في ذكر السموات السبع
والأرض , وفي بعضها ذكر لتعدد الأرض , وقد عقد البخاري في كتاب بدء الخلق
من صحيحه بابًا سماه (باب ما جاء في سبع أرضين) , وقول الله تعالى: {اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: ١٢) إلخ الآية , وذكر
فيه حديث عائشة مرفوعًا (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ,
وحديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع
أرضين) , وظاهره يوافق قول من قال: إن المراد بالسبع الطبقات , وإنهن
متصلات كطبقات الجيولوجية قال الحافظ في شرح الحديث من كتاب المظالم من
الفتح: وفيه أن الأرضين السبع متراكمة لم يفتق بعضها عن بعض لأنها لو فتقت
لاكتفي في حق هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها عما تحتها، أشار إلى
ذلك الداودي , وفيه أن الأرضين السبع طبقات كالسموات , وهو ظاهر قوله تعالى:
{وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: ١٢) خلافًا لمن قال: إن المراد بقوله سبع
أرضين سبعة أقاليم إلخ.
وأنت ترى أن هذين القولين مختلفان , فإن كانت السبع الطبقات من السموات
منفصلاً بعضها عن بعض لا يظهر معنى التطويق منهن في الحديث الصحيح،
وهو الحديث الصحيح في التعدد دون غيره , ولا ندري أكان هذا الجمع مستعملاً
بالسبع عند العرب كالسموات أم لا.
وروى أحمد والترمذي عن الحسن عن أبي هريرة حديثًا مرفوعًا فيه عد سبع
أرضين بين كل منها خمسمائة عام، وهو حديث غريب منقطع , والحسن لم يسمع
عن أبي هريرة , ورواه البزار والبيهقي من حديث أبي ذر مرفوعًا بنحوه , وهو
مرسل قال في البداية: ولا يصح إسناده.
وقد علم مما تقدم أن أصح ما ورد في تعدد الأرض حديثا عائشة وزيد بن
سعيد رضي الله عنه في مغتصب شيء من الأرض أنه يطوقه من سبع أرضين ,
وهذا لا يدل على تعدد الأرض بوجود سبع مستقلة منفصل بعضها عن بعض
كالسموات , وهو لم يرد تفسيرًا للآية.
ويليه حديث ابن عباس في كون كل أرض منها منفصلة عن غيرها مستقلة
يسكنها عقلاء مكلفون فيهم رسل منهم كأشهر الرسل منا.
وقد ضعفوه بشذوذ متنه عندهم لاستغراب وجود رسل في عالم آخر غير
أرضهم.
قال القسطلاني: ففيه - أي في تضعيف البيهقي والذهبي له بالشذوذ - أنه لا
يلزم من صحة الإسناد صحة المتن كما هو معروف عند أهل هذا الشأن , فقد يصح
الإسناد ويكون في المتن شذوذ وعلة تقدح في صحته , ومثل هذا لا يثبت بالحديث
الضعيف.
وقال في البداية: وهذا محمول إن صح نقله على أن ابن عباس أخذه من
الإسرائيليات. اهـ.
وأقول: إن هذه القاعدة صحيحة عند المحدثين والأصوليين جميعًا , ولكن قل
من عني بتحكيمها في الأحاديث الشاذة المتون بمخالفة القطعيات حتى الحسية منها
كحديث أبي ذر رضي الله عنه في غروب الشمس , وكونها تكون مدة غيابها عن
الأرض ساجدة تحت العرش تستأذن ربها في العودة إلى الطلوع إلخ , وهو متن
مخالف للحس , فإن الشمس لا تغيب عن الأرض كلها طرفة عين , وإنما تغرب
عن قوم وتطلع على آخرين، وهذا مشاهد معلوم بالقطع.
ولما أوردنا رد طعن الطاعنين على الإسلام به , وبينا الرد على ذلك من عدة
وجوه طعن في ديننا دجال بيروت يوسف النبهاني الشاعر بجهله وتعصبه لأنه
مروي في الصحيح.
ومما سبق لنا بيانه في هذا المقام من وقوع مثل هذا الشذوذ في الصحيحين
على قلة أن حديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم في خلق السموات والأرض في
سبعة أيام وأوله (خلق الله التربة يوم السبت) , وصرح فيه أبو هريرة بالسماع
منه صلى الله عليه وسلم , قال القسطلاني كغيره: لكن اختلف فيه على ابن جريج
وقد تكلم فيه فقال البخاري في تاريخه: وقال بعضهم عن كعب الأحبار وهو أصح.
يعني أنه أصح مما سمعه أبو هريرة , وتلقاه عن كعب فوهم بعض الرواة
فجعله مرفوعًا , وفي متنه غرابة شديدة إلخ.
أقول: وقد حققنا من قبل أن كعب الأحبار من زنادقة اليهود الذين أظهروا
الإسلام والعبادة لتقبل أقوالهم في الدين وتحمل على الرواية عن أنبياء بني إسرائيل ,
وقد راجت دسيسته حتى انخدع به بعض الصحابة ورووا عنه , وصاروا يتناقلون
قوله بدون إسناده إليه حتى ظن بعض التابعين ومن بعدهم أنها مما سمعوه من النبي
صلى الله عليه وسلم , وأدخلها بعض المؤلفين في الموقوفات التي لها حكم المرفوع
كما قال الحافظ ابن كثير في مواضع من تفسيره من أوضحها كلامه في تفسير هذه
الآية، ونحن كما بينا ذلك مرارًا في التفسير وغير التفسير من مباحث المنار.
وجملة القول أنه ليس لدنيا حديث صحيح مرفوع ولا قطعي ولا ظني في
بيان المراد من قوله تعالى {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: ١٢) والمتبادر منه
أنه خلق لنا من هذه الأرض أو هذه نفسها مثلهن خلقًا وتكوينًا , ويدخل في هذه
المثلية تنقل خلق كل من هذه الأرض وتلك الأجرام المماثلة لها في الأطوار المبينة
في آيات حم السجدة , وليس الغرض من ذكر ذلك بيان حقيقة السموات والأرض
وصفاتها، بل دلالة ذلك على قدرة الله تعالى وعلمه بما خلقه فإنه قال في آخر الآية:
{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق: ١٢) .
فعلم مما تقدم كله أن نص الآية المسئول عنها لا يرد عليه اعتراض علمي
فلكي مما ثبت في علم الهيئة بالقطع , بل هي موافقة لهذا العلم في الجملة , ولا
سيما على القول الذي نقلنا ما ذكره الراغب في بيانه، وهو أن كل كوكب من
الدراري أرض بالنسبة إلى من فيه من المخلوقات وسماء بالنسبة إلى من يراه فوقه
من سكان سائر الكواكب - وهذا التعبير أصح مما نقله هو لموافقته للهيئة الجديدة -
وإذا ضممنا إليه سائر الآيات في هذه المسائل ظهرت معجزة أو معجزات جديدة
للقرآن بإثباته لحقائق أخرى لم يكن يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قومه
من قبله بل منها ما لم يكن يعلمه أحد , وقد بينا الشواهد على هذا في الكلام على
إعجاز القرآن من جزء التفسير الأول وغيره وفي مواضع أخرى من المنار، وآخر
ما أثبته بعض كبار الفلكيين الغربيين من ذلك إثبات حركة للشمس تجري فيها إلى
غاية مجهولة , وجميع دراريها تابعة لها , وهو صريح قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: ٣٨) ولكن ما ورد في كتب
اليهود والنصارى في الخلق والتكوين للسماوات والأرض وغيرهما هو المعترض
الذي لا يمكن الجواب المعقول عنه، وسبب ذلك أنه لم ينقل عن الوحي نقلاً
صحيحًا متواترًا.
***
حالة سيدنا عيسى الآن وآية وفاته ورفعه
الذي نعلمه قطعًا أن سيدنا عيسى عليه السلام في عالم الغيب كغيره من إخوانه
النبيين، وأن حالته فيه حسنة لأنه من أولي العزم والرسل , وقد وعد الله أمه بأن
يجعله وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين.
ولا نعلم شيئًا تفصيليًّا عن حالته كما هو شأننا في سائر ما في عالم الغيب لأنه
لا مجال للعقل والرأي فيه , وإنما الواجب فيه اتباع النصوص القطعية من القرآن
ومن أخبار المعصوم القطعية الرواية والدلالة , فليس عندنا نص من ذلك في علاقة
جسده بروحه ولا في صفة رزقه , ولو وجد نص في ذلك لما كان إلا مثل ما ورد
في صحيح مسلم عن حياة الشهداء , وكون أرواحهم في الآخرة تكون (في جوف
طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك
القناديل) فهل يمكننا أن نفهم من هذا الحديث شيئًا نعرفه معرفة تفصيلية؟
وأما قوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران:
٥٥) الآية فهو على ظاهره كما رواه مخرجو المأثور عن علي بن طلحة عن ابن
عباس قال: (إني متوفيك) : مميتك. ونقله الحافظ ابن كثير ومحيي السنة البغوي
في تفسيريهما [٣] وذكرا بعده أن وهب بن منبه قال: (توفاه الله ثلاث ساعات من
أول النهار حين رفعه إليه) . وقال مطر الوراق: إني متوفيك من الدنيا وليس
بوفاة موت وكذا قال ابن جرير رضي الله عنهما أن معناه: إني مميتك - يدل عليه
{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ} (السجدة: ١١) , فعلى هذا له تأويلان أحدهما ما قاله
وهب - وذكره وقَفَّى عليه بقول الضحاك.
فعلى هذا يكون قول ابن عباس هو الظاهر المتبادر , وقول وهب والضحاك
تأويل مخالف للظاهر , فيكون كل منهما ضعيفًا في نفسه , على انحطاط رتبة قائله
في علمه وفهمه، ولا سيما وهب بن منبه الذي هو صنو كعب الأحبار في بث
الخرافات الإسرائيلية في تفسير أمثال هذه الآيات من القرآن بدهاء غريب ألبس
بعضها ثوبي زور من المرفوعات والموقوفات.
وذكر المفسرون عند تفسير هذه الآية من سورة آل عمران ما في موضوعها
من آية سورة النساء وهي قوله تعالى في اليهود: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء: ١٥٧-١٥٨) وهي لا تختلف مع الآية الأولى في
شيء.
وقد كتبت في تفسيرها (من جزء التفسير ٦ ص ٢٠) ما نصه:
وأما قوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: ١٥٨) فقد سبق نظيره
في سورة آل عمران وذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران: ٥٥) روي عن ابن عباس تفسير
التوفي هنا بالإماتة كما هو الظاهر المتبادر، وعن ابن جريج تفسيرها بأصل معناها
وهو الأخذ والقبض , وأن المراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من
الله الذي اصطفاه وقربه إليه قال ابن جرير بسنده عن ابن جريج: فرفعه إياه توفيه
إياه وتطهيره من الذين كفروا. اهـ.
أي ليس المراد به الرفع إلى السماء لا بالروح والجسد ولا بالروح فقط ,
وعلى القول بأن التوفي الإماتة لا يظهر للرفع معنى إلا رفع الروح , والمشهور بين
المفسرين وغيرهم أن الله تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء.ا. هـ
وذكرت هنالك استدلالهم على هذا بحديث المعراج وكونه يقتضي حياة كل
الأنبياء الذين ذكر صلى الله عليه وسلم أنه رآهم في بيت المقدس وفي السموات
كحياته بالروح والجسد، ولم يقل بهذا أحد.
وورد في إدريس عليه السلام من سورة مريم {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم:
٥٧) , وقال تعالى في الرسل: {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: ٢٥٣) , وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: ١١) .

نزول المسيح من السماء:
وأما نزوله عليه السلام في آخر الزمان؛ فقد استدلوا عليه بآية] وَإِن مِّنْ
أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [ (النساء: ١٥٩) بناءً على وجه من ثلاثة
أوجه قالوها في تفسيرها: (الأول) وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى
قبل موته الذي سيكون بعد نزوله - وهو أبعد الوجوه عن المتبادر من لفظها إذ ليس
فيها إشارة ما إلى نزوله , وأن هذا الموت يكون بعده.
(الوجه الثاني) الضمير في موته إلى الكتابي، والمعنى أنه يؤمن بعيسى
عند موته وقبيل خروج روحه بإطلاع الله إياه على حقيقة أمره عند الغرغرة،
وعلى غير ذلك من أمر الآخرة، وهو الوقت الذي لا ينفع فيه أحدًا إيمانه لأنه
يصير اضطراريًّا.
(الوجه الثالث) أن الضمير في قوله (ليؤمنن) به لمحمد صلى الله عليه
وسلم.
وجملة القول أنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه
وجسده إلى السماء حيًّا حياة دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى
غذاء فيتوجه سؤال السائل عن غذائه، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء ,
وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى , وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام إلى
الآن بثها في المسلمين , وممن حاولوا ذك بإدخالها في التفسير وهب بن منبه الركن
الثاني بعد كعب الأحبار؛ لتشويه تفسير القرآن بما بثه فيه من الخرافات كما تقدم
آنفًا.
والأحاديث الواردة في نزوله عليه السلام كثيرة في الصحيحين والسنن
وغيرها، وأكثرها ورادة في أشراط الساعة , وممزوجة بأحاديث الدجال وفي تلك
الأشراط , ولا سيما أحاديث الدجال والمهدي اضطراب واختلاف وتعارض كثير
بيناه في أواخر تفسير سورة الأعراف.
والظاهر من مجموعها أنه يظهر في اليهود دجال , بل أكبر دجال عرف في
تاريخ الأمم فيدعي أنه هو المسيح الذي تنتظره اليهود فيفتتن به خلق كثير لما
يظهره من الغرائب والعجائب التي هي أغرب من جميع معجزات الأنبياء أو مثل
أعظمها، وفي آخر مدته يظهر المسيح الذي هو عيسى ابن مريم , ويكون نزوله في
(المنارة البيضاء) شرقي دمشق ويلتقي بالمسيح الدجال بباب لد - وفي فلسطين
بلد يسمى باللد - فهنالك يقتل المسيحُ الصادقُ عيسى ابنُ مريم عدَّو الله المسيحَ
الدجال بعد حرب طويلة تكون بين المسلمين واليهود والله أعلم.

حكم من ينكر وجود المسيح حيًّا:
وأما من ينكر الآن وجود المسيح حيًّا بروحه وجسده وما نصيبه من الإيمان؟
فقد علم حكمه مما تقدم.
وهو أن هذه المسألة ليست من أصول عقائد الإسلام التي تلقن لمن يدخل فيه
ولأهله - ولا من الأحكام التي تذكر في كتب الردة بناء على أن جاحدها يرتد عن
الإسلام لدخولها في قاعدة كفر من يجحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة -
بل هي من المسائل الخلافية حتى بين المنقول عنهم رفع المسيح بروحه وجسده إلى
السماء ممن لا قيمة لأقوالهم كوهب بن منبه , وكذا الضحاك ابن مزاحم على أنه
وإن اختلف في توثيقه وتضعيفه خير من وهب بن منبه الذي وثقه الجمهور انخداعًا
منهم وغفلة عن كون دسائسه الإسرائيلية من وضعه لا منقولة من كتب بني إسرائيل
المقدسة.
ولم يرو الضحاك عن أحد من الصحابة سماعًا , وكان يأخذ التفسير عن ذا
وذا كما اعترف به.
وأما من اطلع على الأحاديث الواردة في نزوله وقتله الدجال واعتقد صحتها؛
فلا يسعه إلا أن يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها بإعلام من الله تعالى لأنها
ليست من الآراء الدنيوية التي يتكلم فيها الأنبياء كغيرهم بحسب الظن الذي يخطئ
ويصيب وهم غير معصومين فيه , كما ورد في أحاديث تأبير النخل في صحيح
مسلم وما في معناه , وحينئذ يجب عليه الإيمان بصدقه فيها، فإن أنكره ورده عالمًا
بصحته غير متأول لمدلوله يكفر والعياذ بالله تعالى.
والأولى والأسلم له أن يقول: إن قول الرسول حق , وسيقع على الوجه الذي أراده
من قوله، والله أعلم بمراده منه في جملته وتفصيله , وصحته لا تتوقف على القول
بعدم موت عيسى , فقد قال حبر القرآن وأعلم المفسرين في تفسير آية آل عمران
بدلالتها على موته عليه السلام والله تعالى قادر على بعثه، وعلى إرساله بصفة
خارقة للعادة.
وقد ذكر الأستاذ الإمام أن بعضهم تأولها بأن روح المسيح ومقاصده التي جاء
بها لإصلاح جمود اليهود على ظواهر الألفاظ وتركهم لمقاصد الدين إلخ كما تراه في
تفسير آية آل عمران من تفسيرنا.
وهذا التأويل بعيد عن ظواهر الألفاظ في تلك الأحاديث , ولكن المتأول يقول:
إنها وأمثالها من أشراط الساعة وأمور الغيب قد نقلت بالمعنى فعبر الرواة عما سمعوا
بما فهموا، وقد تقدم هذا البحث في أشراط الساعة من تفسير سورة الأعراف المشار
إليه آنفًا.
وأما العهد الجديد عند النصارى من الأناجيل وغيرها فهي صريحة في أن
المسيح يظهر في الملكوت قبل انقضاء الجيل الذي كان فيه , وتقوم الساعة ويدين
العالم.
وقد ظهر عدم صحة تلك النصوص فاضطروا إلى تأويلها بما لا يعقل , ومع
ذلك ينتقدون علينا بما لا إشكال فيه , ينظرون القذى في أعين غيرهم وينسون
الجذع الذي في أعينهم.
والخلاصة أنه لا يجب على مسلم أن يقف على تلك الأحاديث وأمثالها لأنها
ليست من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام كما تقدم - ولا يضره في إيمانه
وإسلامه الاشتباه في صحتها , وعدم القطع بروايتها ودلالتها على ما قال الجمهور -
وإنما الذي يضره هو أن يكذبها أو يردها بعد العلم بصحتها واعتقاده إرادته صلى
الله عليه وسلم لظاهرها لأنه حينئذ يكون مكذبًا للصادق المصدوق المعصوم من
الكذب , وكذا من الخطأ فيما يبلغه عن الله تعالى والله أعلم.