للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رحلة جلالة ملك الأفغان (أمان الله خان)

تواترت أنباء البرق من أوربا ثم من الهند بعزم صاحب الجلالة أمان الله خان
ملك الأفغان على القيام برحلة طويلة من بلاده إلى الهند فمصر فأوربا فتركية
فروسية ثم تتابعت بشروعه فيها، ثم بوصوله إلى كراجي فبمباي فإبحاره منها إلى
مصر.
وأهم أنبائه في الهند عندنا أنه صلى الجمعة في مسجد بومباي الجامع فاكتظ
بعشرات الألوف من المصلين فيه وفي رحبته وفنائه حتى قال مراسل روتر إنهم
بلغوا خمسين ألفًا , وقد التمسوا منه أن يخطب فيهم فخطب خطبة بليغة بالفارسية
حثهم فيها على التسامح الديني والاتفاق مع الهندوس ووصاهم باحترام دينهم الوثني
ليحترموا هم الإسلام , وقد ترجمت الخطبة باللغة الأوردية في المسجد فكان لها
تأثير عظيم.
ومن أغربها أنه ظهر منه هنالك ما استدل به على جفوته للإنكليز.
ولما وصل إلى هنا سر أهل هذه البلاد جد السرور بزيارته وبدعوة جلالة
ملكهم إياه إلى ضيافته الملكية , وضيافة حكومته السنية لأنه ملك شرقي قد نالت
بلاده استقلالاًّ تامًا مطلقًا من كل قيد بعد الحرب العالمية الكبرى، التي هدم تأثيرها
ممالك , وبنى ممالك أخرى، وأخص من ذلك أنه ملك شعب إسلامي , وهذه البلاد
شرقية إسلامية وقد دخل كل من الشرق والإسلام في طور جديد من تعارف شعوبهما
وتآلفهما.
وثم سبب ثالث لاهتمام شعبنا المصري بالملك الأفغاني , وهو أن لقب
(الأفغاني) مرسوم في القلوب والأدمغة من رجال النهضة العصرية في مصر
وسائر الشرق وفي كتبها العصرية ومجلاتها العلمية والأدبية والدينية وصحفها
السياسية بأحرف من نور إذ كان هو اللقب الوطني لمصلح الشرق وموقظه من
رقاده وحكيم الإسلام الداعي لإصلاحه (السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني) الذي
كان الأستاذ الإمام والزعيم الأكبر للإصلاح الديني والعلمي والاجتماعي أول مريديه
وخليفته من بعده، وكان سعد باشا زغلول الزعيم السياسي الأكبر من أصغر تلاميذه
سنًّا، وأوائل تلاميذ خليفته وأظهرهم نبوغًا، رحمهم الله تعالى.
أجمعت الجرائد المصرية على التنويه بالزائر الكريم، والضيف العظيم،
وعنيت اليومية منها بنشر أخباره، وذكر ما عرفت من أقواله وأحواله، في زيارته
للمعاهد العامة من المساجد ودور الآثار العادية والكتب والبرلمان والمدارس العليا،
كقوله في دار الكتب المصرية الكبرى وقد قدمت له صورة السيد جمال الدين:
(أوه هذا رجلنا) , وكاستعباره عند رؤية سعد زغلول باشا وتمنيه رؤيته حيًّا ,
وكاستقصائه في السؤال عن كل شيء مهم , ولا سيما الآثار المصرية , ومنها
السؤال عن سبب معرفتهم للغتها الهيروغليفية , وتعجبه من سماح حكومتهم لخروج
(حجر رشيد) المشهور الذي عرفوها منه إلى بلاد أجنبية , والسؤال عن طريقة
استخراج الآثار , واستغرابه لكون الأخصائيين من الأجانب يتبرعون بالحفر عنها
واستخراجها والعناية بحفظها بغير أجر خدمة للعلم، وقوله إنه سيراعي ذلك في
استخراج آثار بلاده.
وخير ما أعجب به الجمهور من شمائله وآدابه تواضعه حتى لطبقة الخدمة ,
وذكروا من ذلك أن أحد خدم مسجد السلطان حسن قدم له عند إرادة الدخول ذلك
الجرموق الذي يلبسه السياح فوق أحذيتهم عند دخول المساجد، فلما انحنى ليربطه
له على حذائه كالعادة استكبر ذلك وقال: أستغفر الله، أستغفر الله، وانحنى هو
وربطه بيده.
وذكروا أيضًا أنه كان يصافح عامة الناس كخاصتهم في حديقة
الإسكندرية التي دعاه إليه مجلسها البلدي , ثم يضع يده على صدره ورأسه , ولم
يخل وجوده في القاهرة والإسكندرية من أمور تدل على كراهته للإنكليز كما ظهر
في إلمامه بالهند، ومثل هذا غير معهود في المعاملات الدولية بين الملوك
ورجال الدول الرسميين في الأحوال الودية العادية، وهو مع هذا يريد زيارتهم
في عاصمتهم زيارة رسمية، ويقال: إنه يرغب في التأليف بين دولتهم ودولة
الجمهورية التركية، ويسعى لعقد اتفاق ودي ثلاثي هو الركن الثالث فيه! !
وقد زرناه مع إخواننا من هيئة مجلس إدارة جمعية الرابطة الشرقية في دار
الضيافة فاستقبلنا فيها واقفًا إذ دخل علينا وألقى السلام , فصافحنا وصافحناه واحدًا
بعد واحد، وكان يعرفه بنا أحدنا ميرزا مهدي بك رفيع مشكي , ثم قرأ الرئيس
خطابَ ترحيبٍ به مُوَقَّعًا عليه من الأعضاء تلاه بالعربية , وتلا مهدي بك ترجمته
بالفارسية، فأجاب جلالته بخطاب وجيز رحب به بالجمعية , وأثنى عليها ونصح لها
بمثل ما نصح لمسلمي الهند بالتساهل الديني وعدم التعصب بين الملل والطوائف،
وقد علم أن هذا من مقاصد الجمعية وأنه ليس في مصر مثل ما في الهند من
التعصب.
ثم قدم له الخطابان مع صندوق لهما من الفضة منقوش نقشًا صناعيًّا دقيقًا
جميلاً من صناعة مصر لهذا العهد , وقدمت له من ذلك بعض كتبي وكتب شيخنا
الأستاذ الإمام المختصرة مجلدة بالسندس الأخضر، وقدم له توفيق بك من أعضاء
الجمعية الحاضرين كتابًا شعريًّا خطيًّا وجيزًا أيضًا فقبل الجميع بالشكر، ولما انفتل
راجعًا أراد حمل هذه الكتب بيديه فأخذها منه بعض بطانته فكان هذا مما عد من
تواضعه المطبوع غير المتكلف، ولكن لم يكن منه استقباله للجماعة وقوفًا , وإن
كان هو واقفًا أيضًا.
وأما الكتب التي قدمتها لجلالته فهي رسالة التوحيد للأستاذ الإمام , وكتاب
الوحدة الإسلامية وفيه محاورات المصلح والمقلد , وخلاصة السيرة المحمدية،
والدعوة الإسلامية , وكتاب الخلافة أو الإمامة العظمى.
هذا وإنه لولا لبس هذا الملك البرنيطة , وكذلك جلالة الملكة زوجه مع
سفورها الذي لم يجد له في مصر مجالاً واسعًا مع محافظة جلالة ملكة مصر على
الحجاب لما كان لأحد من أهل مصر أدنى انتقاد عليه، ولكان السرور به عامًّا ,
والثناء عليه غير مشوب بشيء إلا ما يقال همسًا من عدم تبرعه بشيء من المال
لشيء من الأعمال الخيرية كما هي عادة الملوك والأمراء في أمثال هذه الزيارات،
وأخبار تبرعات جلالة ملك مصر في ممالك أوربة لا تزال ترن في الآذان، وتلوح
في آفاق الأذهان.
كانت مخيلات المفكرين عندنا تصور ملك البلاد التي أنبتت السيد جمال الدين
بصور شتى، فبعضهم يتصور أنه متوج بتاج قد كورت عليه عمامة عجراء كعمامة
هارون الرشيد، وبعضهم يخيل إليه أنه يزين مفرقه خوذة عليها عمامة مخصرة
كخوذة صلاح الدين، وأنه يلبس قباء خسروانيًّا، ومعطفًا مزركشًا هنديًّا، وأكثر
الواقفين على حال العصر كانوا يعتقدون أنه يلبس الزي الإفرنجي كملوك أوربا
وسلاطين آل عثمان إلا أنه يمتاز بعمارة [١] شرقية غير الطربوش العثماني المصري
كالقلبق الإيراني أو غيره، ولم يكن يلوح في خيال أحد أنه يضع على رأسه
برنيطة عادية حتى رأوا ذلك بأعينهم حتى في زيارته لبعض المساجد الأثرية
والمعاهد العامة.
***
تأثير لبس ملك الأفغان البرنيطة:
إنما يسيح صاحب الجلالة الأفغانية في الأرض بقصد الاختبار والاعتبار ,
فمهما يجب أن يعلمه ويتلقاه بصدر واسع أن السواد الأعظم من علماء الإسلام وأهل
الدين من سائر الطبقات قد امتعضوا من رؤية البرنيطة على هامته، بل خشوا أن
تكون أثرت في نفسه دعاية الترك الكماليين , وأن يتلو تلوهم في حكومتهم اللادينية،
ويحذو مثالهم في مدنيتهم التقليدية، أعاذه الله وشعبه من ذلك.
قد شرع الترك في تقليد الإفرنج منذ قرن أو أكثر بتدريج بطيء ليكونوا مثلهم
مع اتقاء خطر الطفرة في التحول والانقلاب , فلم يزدهم التقليد إلا وهنًا على وهن،
ولذلك يقدر أهل الرأي والبصيرة من علماء الاجتماع أن وثبة مصطفى كمال
ستكون أشد خطرًا على قومه , وإن أوهم ظاهرها أنها دخلت في حياة جديدة، فإن
الدولة المهرمة يظهر فيها مثل هذا الانتعاش قبل موتها فيكون كإيماض الذبالة
(الفتيلة) في السراج قبل الخمود والانطفاء , كما قال مؤسس علم الاجتماع حكيمنا
العربي عبد الرحمن بن خلدون، وإننا نرى حكماء أوربة يسخرون من التقليد
التركي الجديد الجهلي، والأفغان أجدر بالحياة من الترك إذا راعوا في تجديد دولتهم
جميع مقومات ملتهم.
وأما دعاة الغلو الإلحادية في التفرنج من زنادقة المسلمين والملاحدة منهم ومن
سائر الطوائف المقيمة في هذا القطر فقد ابتهجوا وانشرحت نفوسهم برؤية الملك
الشرقي المسلم قد آثر البرنيطة الإفرنجية على كل عمارة إسلامية أو شرقية ,
وجددوا دعوتهم إلى إلقاء الطربوش واستبدال البرنيطة به اقتداء بالملك الشرقي
العظيم الذي صرح بأنه يعني بذلك أن لا يدخل في عموم حديث عبد الله بن عمر
رضي الله عنه عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم
فهو منهم) ورواه الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه أيضًا.
أول ما رأيناه في تجديد الدعوة إلى لبس البرنيطة اقتداءً بالملك أمان الله خان
بعد أن خفت أصوات دعاتها زمانًا ليس بقصير مقالة نشرت في المقطم , وأول ما
نقوله في ذلك: إننا نعلم أن دعاة البرنيطة لا يقصدون بالدعوة إليها إلا جذب الناس
إلى التفريج بترك مشخصات أمتهم وقوميتهم كما يدعونهم إلى ترك مقومات الأمة
الملية من تشريع وآداب ولغة ودين بحجة أنها عتيقة بالية , وأن لذة الحياة بالجديد،
وما التعلق بالجديد لأنه جديد إلا شأن الأطفال: يسرع إليهم الملل مما ألفوا،
فيؤثرون ما يعرفون كل يوم على ما كانوا عرفوا، وأما من بلغ أشده واستوى،
وكملت فيه جميع القوى، فإنه مهما يألف من المنازل فحنينه أبدًا للمنزل الأول،
ومهما ينقل فؤاده من الهوا فلا يزال حبه الصادق للحبيب الأول، ولذلك يعدون
الرابطة الوطنية من أقوى روابط الحضارة للإنسان، حتى أسندوا إلى حكم النبوة
قول بعضهم: (حب الوطن من الإيمان) وعلماء الاجتماع يقولون: إن الأمة سليلة
التاريخ القديم، لا وليدة العهد الجديد، فإن ملكات العلوم والفنون فيها لا تحصل لها
إلا بتعدد الأجيال جيل الاقتباس وجيل الحضرمة وجيل الاستقلال.
والحق الحقيق بالقبول أن كل إنسان مركب من قديم موروث، وجديد مخلوق
ومكسوب، وإنما يطلب المكسوب لحفظ الموروث وتكميله فهو تابع للمصلحة
والمنفعة، وإننا نرى أقوى الأمم وأعزها هي الشديدة المحافظة على القديم والتروي
في الجديد كالإسرائيليين والسكسونيين، فما لهؤلاء الأحداث المتفرنجين يبثون في
هذه الأمة الدعاية إلى تحقير كل قديم، والترغيب في كل جديد، حتى ما ينكره كل
عقل سليم، كتهتك النساء , والإسراف في الزينة والشهوات , وتقطيع ما لأممهم من
روابط وصلات، حتى المقومات والمشخصات.
يريد ناشر الدعوة إلى البرنيطة اليوم أن يخدع الشعب المصري بالاقتداء بهذا
الملك العظيم ملك الأفغان، فإن كان هذا الشعب ينتظر ملكًا شرقيًّا يقتدي به في مثل
هذا , فأقرب الملوك إليه ملكه , وممثل حكومته فهو أحق من غيره بالاتباع في هذه
الحالة التي عدوها من أحوال التنازع بين القديم والجديد، فجلالته شديد المحافظة
على زي قومه وحكومته الرسمي، وجلالة ملك الأفغان قد اعتذر عن لبس البرنيطة
بعذر إن صدق عليه فإنه لا يصدق علينا في مصر وأمثالها من الأقطار كسورية التي
سرى سم التفرنج التقليدي إلى بعض شبانها المغرورين , وقد قلت في مطلع قصيدة
نظمتها في عهد طلب العلم بينت فيها مضار هذه التقاليد الصورية وأهمها تفريق
وحدة الأمة:
ليس التمدن تقليد الأربي ... فيما انتحاه من العادات والزي
إن المقلد لا ينفك مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي
بل التمدن ملزوم التقدم مد ... عاة الرفاهة منفاة الألاقي
روح شريف به تحيا الشعوب بما ... يبث فيها من العلم الحقيقي
حتى ترى كثرة الأفراد راجعة ... لوحدة والفرادى كالأتابي.
بل جلالة ملك مصر وجلالة ملكتها حجة على كل هؤلاء الجناة على روابط
ملتهم ووحدة أمتهم , وخير قدوة في موضوع القديم والجديد التي ألمحنا بها.
ذلك أنهما على كونهما في أعلى درجات الحضارة والرفاهة العصرية يحافظان كل
المحافظة على شرف الملة والأمة وآدابها ومشخصاتها , فجلالة الملك يتنزه عن
شرب المسكرات في المآدب الملكية والمواقف الرسمية كما يتنزه عنها في قصره،
وبينه وبين ربه، حتى إنه لم يبح لنفسه أن يحسو منها حسوة بالتبادل مع أعظم
ملوك العالم فيما يسمونه شرب الأنخاب الودية.
بل نقل إلينا من أخبار رحلته الأوربية في الصيف الماضي أنه اشترط فيما
دعي إليه من مآدب الملوك ورؤساء الحكومات ووزرائها أن لا يكون على الموائد
شيء من لحم الخنزير , وقد كان نقل إلينا مثل هذا عن المرحوم الأمير حبيب الله
خان والد جلالة الملك أمان الله خان، عندما زار لندن عاصمة الإنكليز، بل قيل:
إنه اشترط في حضور مائدة الملكة فيكتوريا أن لا يكون عليها خمر , ولا شيء من
صحاف الذهب والفضة وكؤوسها.
وأما جلالة ملكتنا فأبت عليها وعلى جلالة الملك الآداب الإسلامية والتقاليد
القومية أن تظهر في أوربة سافرة الوجه , أو أن تحضر الاحتفالات والمآدب
الرسمية أو غير الرسمية التي يجتمع فيها النساء والرجال بالأزياء الرسمية المعهودة
في هذا العصر وهي مما لا يبيحه الإسلام.
فشكرًا لملكنا ولملكتنا على هذا منا ومن العالم الإسلامي كله.