للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تفسير:] هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [[*]

كتب إلي الشيخ عبد الظاهر الإمام في المسجد الحرام يقول: إن بعض
الإخوان أنكر علي تفسيري (الْهَمّ) في سورة يوسف عليه السلام بما خالف إجماع
المفسرين وخاصة شيخهم ابن جرير وأنه هو أي الكاتب وافقهم على ذلك.
وجوابه أن المفسرين اختلفوا في تفسير الآية فلم يجمعوا على قول، وأن
إجماعهم ليس بحجة ولا يمكن العلم به إن أمكن وقوعه ووقع، والإمام أحمد يحتج
بإجماع الصحابة إن علم وينفي ما سواه.
وإن الذي قلته أنا منقول عن بعض المفسرين في يوسف عليه السلام وهو أنه
هم بضرب امرأة العزيز.
وظاهر أنها هي أولى بإرادة هذا لأن الإنسان إنما يهم بفعل ما يقدر عليه وهي
تقدر على ضربه والضرب معتاد من السيدة لفتاها , ولا سيما إذا أهانها بمثل الإهانة
التي أهان بها يوسف مولاته إذ راودته عن نفسها فاستعصم , وهذا معهود في كل
زمن , وأما الفاحشة فهي لا تَقْدِر عليها وَحْدَها , وهو قد استعصم منها عقب
المراودة , ولم يجنح إلى القبول , وإنما تكون المرأة في حال التراضي مواتية لا
مُبْتَدِئَة , واستعمال هم بفلان في معنى هم بقتله أو ضربه وارد وله شواهد في الآثار
الصحيحة لأن الهم يتعلق بفعل لا بجثة , ويفسر الفعل بالقرائن فإذا قيل: إن فلانًا
فعل كذا من المنكر فهم به عمر مثلاً , فالمعنى الذي تقتضيه القرينة أنه هم بتأديبه
بالقتل أو ما دونه كالضرب ولو بالدرة.
وقد رأى جمهور المفسرين أن القرينة في قصة يوسف تقتضي أن يكون متعلق
الهم المشترك بينه وبين سيدته هو الفحشاء , وهذا إنما كان يترجح على إغماض في
تسمية قبولها همًّا لو كانت الداعية عندهما واحدة , ولكن الأمر لم يكن كذلك بدليل
عدة آيات من السورة , فتعين ترجيح تفسير الهم بالضرب والإيذاء منها كما هو
المعهود من الطباع في مثل هذه الحال في كل زمان: همت بضربه وهم بالدفاع عن
نفسه أولاً كما هو حق من صال عليه غيره، فرأى من برهان ربه ما حمله على
الفرار فاستبقا الباب إلخ.
والدليل على هذا من القصة المنزلة أمور:
(١) أنهما لما ألفيا العزيز لدى الباب شكت إليه فتاها بقولها: {مَا جَزَاءُ
مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} (يوسف: ٢٥) إلخ , واللائق بمعنى السوء هنا التعدي
والإهانة بالضرب ونحوه لأن معناه في اللغة ما يسوء فعله أو الموجه إليه من قول
أو عمل , فهو يطلق حتى على المكروه وصغائر المعاصي.
(٢) أنها لم تكن تتهم يوسف بإرادة الفحشاء بدليل قوله تعالى حكاية عنها:
{وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} (يوسف: ٣٢) , ثم قوله تعالى في آخر
قصتها حكاية عنها: {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} (يوسف: ٥١) إلخ فترجح أنها لم
ترد بكلمة السوء لزوجها إلا التعدي.
(٣) أنه عليه السلام كان عرضة لأمرين الفحشاء التي دعته إليها بالقول
الصريح، والسوء الذي كادت تلجئه إليه بالهمِّ بضربه وقد صرفهما الله عنه كما قال
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} (يوسف: ٢٤) ومثل هذا قوله تعالى
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} (البقرة: ١٦٩) .
ويؤيد ذلك من المعقول أن المرأة يبعد أن تفتح باب التهمة لزوجها على نفسها
فلما اتهمته بإرادة السوء بها دافع عن نفسه وصرح بأنها راودته عن نفسه، أي
فامتنع حتى همت بالانتقام منه، فأنكرت بالطبع، فشهد الشاهد من أهلها، بما دل
على صدقه وكذبها، ثم اعترفت بمراودتها هي له مرتين: مرة للنساء وشهدت له
فيها بأنه استمسك بعروة العصمة ومرة للرجال لما أرسل الملك من سأل النساء عن
سبب مراودتهن له عليه السلام هل كانت عن إظهاره الميل إليهن {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ
مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} (يوسف: ٥١) أي أدنى ميل سيئ بدليل النكرة المنفية
المؤكد عمومها بكلمة (من) {قالت امرأة العزيز} (يوسف: ٥١) حينئذ: {الآنَ
حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: ٥١) .
وأما مخالفة ابن جرير فلا يستنكرها على أحد من الناس مسلم يعرف أصول
هذا الدين فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن فهم ابن جرير ليس أصلاً من أصول
الدين , ولا حجة من حججه , ولم يوجد عالم من علماء المسلمين قال بوجوب
اتباعه أو التزم اتباعه بالفعل تدينًا، وما من مفسر إلا وقد خالفه في بعض آرائه ,
وهو نفسه قد خالف في التفسير بعض ما رواه عن الصحابة , وهم أعلم منه ,
وصرح بأنه لا يحتج بقول أحد بعينه في تفسير آية إلا رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وانتقد الشيخ عبد الظاهر أيضًا إيراد المثنى المجرور بالألف في ص٤٦٩ ج٦
م٢٨ من المنار , وسأل عن إعرابه , وجوابه أنه كتب أو جمعه عمال المطبعة هكذا
سهوًا في الغالب , وهو مع هذا ليس خطأ فإن لغة استعمال المثنى بالألف في أحوال
إعرابه الثلاثة مشهورة , وهي لغة فصيحة حملوا عليها قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ
لَسَاحِرَانِ} (طه: ٦٣) من سورة طه على قراءة تشديد إنَّ , فليراجع المنتقد
تفسيرها في كتب التفسير التي تعنى بالإعراب أو في المغني لابن هشام أو ما شاء
من كتب النحو.
وينبغي لمن ينتقد الإعراب أن يكون عارفًا بضروريات النحو على الأقل.