للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أسئلة عن أحاديث الصحيحين وما قيل من أغلاطها
ورواية أبي هريرة، والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها
س ١-٩ من صاحب الإمضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله هادي الأنام، والصلاة والسلام على البشير النذير خاتم الرسل الكرام
وعلى آله هداة الأمم ومنار الإسلام.
أما بعد: من أحمد محمد شهاب إلى حضرة من بعثه الله مجددًا لما اندرس من
معالم الدين، ناصر السنة، وقامع البدعة، حامي بيضة الإسلام، إمام الأئمة
الأعلام [*] صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا.
السلام عليكم ورحمة الله، اطلعت على كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام
الذي صححه وعلق عليه حضرة الأستاذ النابه الشيخ محمد عبد العزيز الخولي
المدرس بقسم التخصص في القضاء الشرعي، فَإذَا الكتاب طبع في مطبعتين
إحداهما المطبعة المنيرية لصاحبها حضرة الشيخ محمد منير أغا، والأخرى للشيخ
محمد علي صبيح، وقد جاء في نسخة المطبعة الأولى صحيفة ٩ جزء ١ تعليق
لحضرة المصحح على شرح الحديث الشريف ١٢ عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في
أحد جناحي داء وفي الآخر شفاء) نقلاً عما كتبه حضرة الطبيب محمد توفيق
صدقي العالم المتدين في كتابه سنن الكائنات صحيفة ١٦٢ جزء١٠ ومما جاء فيه:
إن من عادة الذباب أن يجتمع على القاذورات والنجاسات، ثم ينتقل منها على طعام
الإنسان أو يسقط في شرابه أو يقف فوق عينيه، وبذلك تنتقل جراثيم الأمراض إلى
الإنسان وتنتشر بين أفراد هذا النوع، واستشهد على ذلك بما قرره أطباء الإنكليز
في حرب الترنسفال من انتقال العدوى في أفراد الجيش بواسطة الذباب، إلى أن
قال: إذا وقف الذباب على الأعين وجب طرده في الحال وإذا وقف على الطعام أو
سقط في الشراب فالأسلم تطهيرهما بالنار. أما ما رواه البخاري عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث مشكل وإن كان سنده صحيحًا، فكم في
الصحيحين من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها، كحديث (خلق الله
التربة يوم السبت) مثلاً وغيره مما ذكره المحققون، وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ
بها الأئمة في مذاهبهم، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلاً قاطعًا على أن
النبي صلى الله عليه وسلم قاله بلفظه؛ مع منافاته للعلم وعدم إمكان تأويله، مع أن
مضمونه يناقض حديث أبي هريرة وميمونة؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن الفأرة تقع في السمن، فقال: (إن كان جامدًا فاطرحوها وما حولها وكلوا
الباقي، وإن كان ذائبًا فأريقوه أو لا تقربوه) فالذي يقول ذلك لا يبيح أكل الشيء
إذا وقع فيه الذباب؛ فإن ضرر كل من الذباب والفئران عظيم، على أن حديث
الذباب هذا رواه أبو هريرة، وفي حديثه وتحديثه مقال بين الصحابة أنفسهم!
خصوصًا فيما انفرد به كما يُعلم ذلك من سيرته، وهَبْ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ذلك حقيقة، فمن المعلوم أن المسلم لا يجب عليه الأخذ بكلام الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم في المسائل الدنيوية المحضة التي ليست من التشريع،
بل الواجب عليه أن يمحصها ويعرضها على العلم والتجربة، فإن اتضح له صحتها
أخذ بها وإن علم أنها مما قاله الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) بحسب رأيهم،
وهو يجوز عليهم الخطأ في مثل ذلك! وقد حقق هذه المسألة القاضي عياض في كتابه
الشفاء، فليراجعه من شاء. ومما رواه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
(إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قِبَل نفسي فإنما أنا بشر
أخطئ وأصيب) انتهى.
والذي نريد أن نعرفه من فضيلتكم:
١- ما هي أحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها؟
٢- ما في حديث وتحديث أبي هريرة رضي الله عنه من المقال؟ وما الذي
قيل في سيرته؟
٣-إذا كان لا يجب الأخذ بكلام الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) في
المسائل الدنيوية المحضة، أفلا يكون الأخذ بها سنة أو مندوبًا؟
٤- هل يوجد ضابط لا يتطرق إليه القيل والقال في التمييز بين ما قيل من
النبي صلى الله عليه وسلم في المسائل الدنيوية، وما قاله من قبل نفسه، وما قاله
على سبيل التشريع؟
٥- جواز خطأ الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) ، فما قالوه من أنفسهم
ودليله وحكمه؟ وهل ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من هذا القيل محصور وما
هو؟
٦- التوفيق بين حديثي الذباب والفأرة؟
٧- هل حديث الذباب مع ما يشتمل عليه من الأخبار، يقال من قبل الرأي أو
التشريع.
٨- كيف يكون القول الصادر عن الطبيب محمد توفيق صدقي كفرًا مع قول
المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما
قلت فيه من قبل نفسي) .. إلخ، وما درجة هذا الحديث ومن خرجه؟
٩- جاء في تعليق النسخة طبعة صبيح، طعن مر على ما كتبه الدكتور محمد
صدقي وأنه كفر، فهل يجوز هذا الطعن، وما حكم قائله؟
نرجو الإفادة عن كل ما تقدم بتوسع، حتى تكون الأمة على بينة منه، وإنا
منتظرون فيما تكتبون الشفاء، والمعهود في سماحتكم الوفاء، ودمتم محفوظين،
وبعناية المولى القدير ملحوظين، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ٢٨/١١/١٩٢٧
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شهاب
... ... ... ... ... رئيس نقطة الحبابية مركز منوف منوفية
(المنار)
نحيي السائل بخير من تحيته، من السلام ورحمة الله وبركاته ونعمته،
ونسأله تعالى أن يجعلنا أهلاً لحسن ظنه وإخلاص نيته، ونخبره بأن أسئلته المهمة
قد سبق لنا تحقيقها في المنار؛ لذلك نجيب عنها بالاختصار، فنقول:
(أجوبة المنار بالترتيب)
١- أحاديث الصحيحين التي ظهر غلط الرواة فيها
لم أقف على إحصاء لأحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث أن
الرواة غلطوا فيها، وعلماء الحديث قلما يعنون بغلط المتون فيما يخص معانيها
وأحكامها الذي هو مراد السائل، وإنما كانت عنايتهم التامة بالأسانيد وسياق المتون
وعباراتها والاختلاف والاتفاق فيها والمرفوع والموقف منها، وما عساه أن يكون
مدرجًا
فيها من كلام بعض الرواة ليس من النص المرفوع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ،
وإنما يظهر معاني غلط المتون للعلماء الباحثين في شروحها وما فيها من أصول
الدين وفروعه وغير ذلك، ولو لم يكونوا من المحدّثين في الاصطلاح على أنهم
يرجعون في ذلك إلى أصول المحدثين؛ كقولهم: إن صحة السند لا تقتضي صحة
المتن في الواقع ونفس الأمر حتمًا، وعدم صحة السند لا تقتضي وضعه في الواقع
ونفس الأمر حتمًا، وقولهم: إن من علامات وضع الحديث - وإن صح سنده - أن
يكون مخالفًا لنص القرآن القطعي، وفي معناه كل قطعي شرعي كبعض أصول
العقائد أو الأعمال المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، بحيث يتعذر الجمع
بينهما، ولهذا جزموا بغلط حديث أبي هريرة عند مسلم في خلق السموات والأرض
في سبعة أيام الذي أوله: (خلق الله التربة يوم السبت) ؛ لأنه مخالف لآيات
القرآن الصريحة في خلق السموات والأرض وما فيها في ستة أيام، بل حكموا
بغلط حديث شُريك بن أبي نمر في الإسراء والمعراج من أحاديث الصحيحين في السند
والمتن وهو الحديث الذي فيه أن الإسراء والمعراج كانا في رؤيا منامية، وذكروا له
عللاً أشار إليها مسلم مقرونة بسياقه على أن بعض العلماء والحفاظ انتصروا له فيه.
وإذا كانت مخالفة القطعي سببًا للحكم؛ إما بعدم صحة الحديث لعدم الثقة
برواته، وإما لغلطهم في سياق متنه. فمن الضروري أن تختلف الأفهام في ذلك
باختلاف مدارك أصحابها ومعارفهم، فالذين لا يعلمون أن الشمس لا تغيب عن
الأرض ولا تحتجب عن جميع سكانها من البشر ساعة ولا دقيقة، لا يرون شيئًا من
الإشكال في حديث أبي ذر في بيان أين تكون بعد غروبها؛ لأنهم يظنون أن
غروبها عنهم غروب عن جميع العالم.
ولكن حفاظ الحديث ورجال الجرح والتعديل، قد انتقدوا بعض أحاديث
الصحيحين، وجرحوا بعض رجالهما بحسب أفهامهم ودرجات معرفتهم، وجاء
آخرون فانتصروا للشيخين في أكثر ما انتقد عليهما، وأشهر هؤلاء المنتقدين
وأوسعهم تتبعًا وإحصاء الحافظ أبو الحسن الدارقطني صاحب السنن المشهورة،
وإذا أردت معرفة ذلك مع ما فيه وما يرد عليه، فراجع الفصلين الثامن والتاسع من
مقدمة الحافظ ابن حجر لشرح البخاري. فأما الأحاديث المنتقدة في البخاري فهي
١١٠ أحاديث، منها ما انفرد به ومنها ما أخرجه مسلم أيضًا - وما انتقدوا من إفراد
مسلم أكثر من إفراد البخاري - وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها، رأيتها كلها في
صناعة الفن التي أشرنا إلى المهم منها عندهم. ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه (فتح
الباري) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها،
مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل المشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض،
فهذا النوع ينبغي جمعه وتحقيق الحق فيه بقدر الإمكان، كما حاول الطحاوي في
كتابه مشكل الآثار، وترى نموذجًا منه في كلامنا على أشراط الساعة ومشكلاتها في
الروايات الصحيحة وغيرها، على أن من أطال البحث فيه وفيما قبله يدهش لدقة
الشيخين ولا سيما البخاري في انتقاء أحاديث الصحيحين وتحريهما فيها.
وأما موضوع الفصل التاسع؛ وهو تضعيف كثير من رجال الجامع الصحيح
فقد سردها فيه الحافظ سردًا وأحصاها عدًا، وترى أن الطعن في أكثرهم مبني على
الاختلاف في أسباب الطعن والجرح، فيبني هذا جرحه على ما يخالف اصطلاح
الآخر، وترى أن المطعون فيهم قلما يخرج لهم حديث في الجامع الصحيح إلا في
المتابعات؛ للتقوية لا لأصل الاستدلال به، فإن جعله أصلاً كان له من الشواهد
والمتابعات ما يقويه، مثال ذلك حديث كثير بن شِنظير (بكسر الشين) البصري
عن عطاء: في الأمر بتغطية الأواني في الليل وربط الأسقية وإقفال الأبواب ومنع
الصغار من الخروج مساء خشية الجن أو الشياطين، كثير هذا قال فيها ابن معين
ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الساجي: صدوق فيه بعض الضعف
ولكن احتج به الجمهور، وقال البخاري عقب تخريج حديثه من كتاب بدء الخلق:
قال ابن جريج وحبيب عن عطاء (فإن للشياطين يعني أن ابن جريج وحبيبًا المعلم
رويا هذا الحيث أيضًا إلا أنهما قالا: (فإن للشياطين انتشارًا وخطفة) بدل قول
كثير بن شنظير (فإن للجن) إلخ، أقول: ويختلف في غير هذه الكلمة أيضًا، ولم
يذكر البخاري المتابعة إلا لعلمه بأن كثير هذا قد قيل فيه ما قيل، وهو لم يخرج له
غيره إلا حديثًا آخر في السلام على المصلي، له متابع عند مسلم.
فأنت ترى أن هذا من دقائق التحري في الروايات، وإنما اخترت التمثيل
بحديث كثير هذا على كثرة نظائره؛ للإشارة إلى شيء يتعلق بالمتن لم يكن مما
يلتفتون إليه ويبحثون فيه، وهو ما فيه من الخبر عن انتشار الجن والشياطين في
أول الليل والخوف على الأولاد منهم، في هذا من الإشكال أن أكثر أهل الأرض لا
يمنعون أولادهم من الخروج في هذا الوقت، وتمر الأعصار ولا يعرف أحد أن
الشياطين فعلت بأحد منهم شيئًا - هذا إشكال يخطر في بال كل متعلم في الأمصار
التي انتشرت فيها العلوم والفنون التي يسمونها العصرية، وكل متعلم على طريقتهم
في القرى والمزارع، فيقولون: إنه مخالف للواقع في تعليل منع الصغار من
الخروج في المساء أي في أول الليل، وقد يزيد على هذا بعض المشتغلين بالعلوم
الدينية؛ أن هذا خبر عن أمر يتعلق بعالم الغيب، فلا يقبل فيه انفراد راوٍ واحد فيه
من هذه الطرق الثلاث التي لا تخلو واحدة منها من علة، فكثير ضعفه بعضهم،
وكذلك حبيب المعلم قال فيه النسائي: إنه ليس بالقوي، وقال أحمد: ما احتج
بحديثه، وفي رواية عنه وعن ابن معين ثقة. وأما ابن جريج فهو على فضله وسعة
علمه وكثرة روايته مدلس، روى عن كثيرين لم يسمع منهم، وكان يدلس على
المجروحين كما قاله الحافظ الدارقطني، والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه إذا قال
حدثني فهو ثقة وإلا فلا. قال يحيى بن سعيد: كان ابن جريح صدوقًا، فإذا قال
حدثني فهو سماع، وإذا قال أخبرني فهو قراءة، وإذا قال (قال) فهو شبه الريح
(لا قيمة له) ، وقال الأثرم: قال أحمد: إذا قال ابن جريح: (قال) و (أخبرت)
جاء بمناكير، وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به، واختلفوا في روايته عن عطاء،
قال علي بن المديني (من كبار شيوخ البخاري ورجال الجرح والتعديل) في كتابه
سألت يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف.
قلت: إنه يقول أخبرني، قال: لا شيء كله ضعيف إنما هو كتاب دفعه إليه. أقول:
فعلى هذا لا ينفعنا في تصحيح هذا الحديث قوله أخبرني كما رواه البخاري عنه،
ولولا مسألة الشياطين لم يكن في متن الحديث إشكال؛ فإن الأوامر فيه كلها نافعة لا
تتعلق بحفظ الطعام والشراب مما يدخل فيها من الحشرات الضارة، وكذلك إغلاق
الباب عند النوم وإطفاء السراج، على أنه يمكن أن يراد بالشياطين فيه شياطين الإنس
الذين يؤذون الأطفال، وفي مصر خطفة منهم يأخذونهم فيستخدمونهم لأنفسهم أو
لغيرهم، ويكرهون البنات على البغاء عند استعداد سنهن لذلك أو قبله، فيزول إشكال
المتن فيه.
***
٢- الجواب عن حديث أبي هريرة وتحديثه
أقول: إن أبا هريرة (رضي الله عنه) كان من أحفظ الصحابة، وهو
صادق في تحديثه. ولكن إسلامه كان في سنة سبع من الهجرة، فصحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ونيفًا، فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي صلى الله
عليه وسلم وإنما سمعها من الصحابة والتابعين، فإن كان جميع الصحابة عدولاً في
الرواية كما يقول جمهور المحدثين، فالتابعون ليسوا كذلك، وقد ثبت أنه كان
يسمع من كعب الأحبار، وأكثر أحاديثه عنعنة. على أنه صرح بالسماع من النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث (خلق الله التربة يوم السبت) .. إلخ، وقد جزموا بأن هذا الحديث غلط من أصله، وفي تفسير الحافظ ابن كثير أن أبا هريرة أخذه
عن كعب الأحبار.
وأما نهي عمر له عن التحديث؛ فلأن عمر (رضي الله عنه) كان يرى
التشديد في رواية الحديث وكتابته، وهذه مسألة كبيرة سبق للمنار سبْح طويل فيها.
وقد كتب بعض المبشرين بالنصرانية مقالاً طويلاً بالطعن في حديثه، وجاءوا
بشبهات على ذلك من بعض الكتب؛ وغرضهم من الطعن فيه الطعن في رواية السنة
وصحتها، وقد فندنا كلامهم في مقال مفصل نشرناه في الجزئين الأول والثاني من
مجلد المنار التاسع عشر فليراجعه السائل، فما نظن أنه يبقى مقالاً لقائل، وهو
يتضمن التفصيل في الرد على الدكتور محمد توفيق صدقي - رحمه الله - الذي
أجملناه في المجلد الثامن عشر.
***
٣- حكم كلام الرسل - عليهم السلام - في الأمور الدنيوية
إن ما يرد في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي
والآراء الدنيوية المحضة يسميه علماء الأصول إرشادًا، كما قالوا في حديث جابر
الذي تكلمنا عليه في الجواب عن السؤال الأول وهذا لفظه (خمّروا الآنية وأوكئوا
الأسقية وأجيفوا الأبواب، وأكفتوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارًا وخطفة،
وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة (أي: الفأرة) ربما اجترت الفتيلة
فأحرقت أهل البيت) ومثله (كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه طيب مبارك) رواه
الحاكم وابن ماجه من حديث أبي هريرة بسند صحيح، وفي الأمر به روايات
أخرى ضعيفة، ومثله (كلوا البلح بالتمر) .. إلخ رواه النسائي وابن ماجه والحاكم
من حديث عائشة بسند صحيح، وكذا رأيه صلى الله عليه وسلم في تلقيح النخل
وسيذكر والعمل بأمر الإرشاد لا يسمى واجبًا ولا مندوبًا؛ لأنه لا يقصد به القربة
فليس فيه معنى التعبد، قال القرطبي: جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد
إلى المصلحة، ويحتمل أن تكون للندب ولا سيما في حق من يفعل ذلك بنية
امتثال الأمر , اهـ. من الفتح وهو مأخوذ من قول بعض العلماء قبله: إن كل مباح
يفعل في الإسلام بنية القربة يصير عبادة يثاب عليها.
أقول: ولكنه لا يسمى سنة ولا مندوبًا بذاته؛ فإن القربة هنا هي النية.
***
٤- الضابط القطعي بين ما قاله الرسول رأيًا وإرشادًا وما قاله تشريعًا
ظاهر حديث رافع بن خديج في صحيح مسلم (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء
من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وحديث
عائشة وأنس عن مسلم أيضًا من تعليله صلى الله عليه وسلم تلك المسألة: مسألة
تلقيح النخل بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) ظاهره أن جميع
أمور الدنيا متروكة إلى الناس، يتصرفون فيها باجتهادهم لا يتعلق بها تشريع، ذلك
بأنه (صلى الله عليه وسلم) لما جاء المدينة ورآهم يؤبرون النخل ارتأى أنه ليس
له تأثير، وسمع بعضهم منه ما يدل على ذلك، فترك تأبير نخله فلم يثمر التمر
الجيد المعتاد بل خرج شيصًا رديئًا، فذكروا له ذلك فقاله كما سبق لنا بيانه، وذكر
لهم أنه قال: ظن أي لا عن وحي، وأنهم أعلم بدنياهم.
وليس هذا على إطلاقه؛ فإن من أمور الدنيا ما فعْلُه أو تركه ضار قطعًا
بشخص العامل أو بالناس، فيتعلق به تشريع التحريم، وما كان مظنة النفع
والضرر فيتعلق به تشريع الندب والكراهة، وكل ما يفعل بنية القربة ورجاء
الثواب من الله تعالى فهو عباده إذا كان مشروعًا، وبدعة إذا لم يكن مشروعًا، وكل
ما رتب على فعله ثواب أو عقاب فهو ما يتعلق به التشريع، والضابط العام أن
التشريع ما ثبت بنص يدل على طلب الشارع لفعل شيء على سبيل القطع وهو
الوجوب، أو غير القطع وهو الندب، أو طلبه لترك شيء بالنهي عنه أو الوعيد
عليه على سبيل القطع وهو المحرم، أو غير القطع وهو المكروه أو بالإباحة
الرافعة للحظر. فأفعال الرسل الدنيوية العادية تدل على أن ما يفعلونه مباح لا
حظر فيه على الناس، ولا وجوب ولا ندب إلا بدليل خاص يدل على ذلك.
فالتشريع لهم ولغيرهم عام إلا إذا قام الدليل على التفرقة بين الرسول وأمته؛
كالخصائص المختصة بنبينا (صلى الله عليه وسلم) دون الأمة وهي معروفة.
وقد بينت كتب أصول الفقه هذه المسألة في شرح الأحكام الخمسة. ولكنني لم
أر لأحد ضابطًا عامًا لا يمكن فيه القيل والقال، فهنالك الأصل الذي تشير إليه
أحاديث تأبير النخل، فلفظ (أمور دنياكم) عام تدخل فيه جميع أمور الزراعة
والصناعة، وكل ما يصل إليه البشر باختيارهم وبحثهم، ولا يحتاجون فيه إلى
وحي إلهي، وتدخل فيه أمور الطعام والشراب واللباس إلا ما استثنى نص القرآن
من تحريم الميتة والدم المسفوح؛ وما أهل به لغير الله وشرب الخمر، أو نص
الحديث كلبس الحرير (الخالص أو الغالب) للرجال، والأكل والشرب في أواني
الذهب والفضة؛ لما في ذلك من الإسراف والنهي عنه في القرآن، فهذه أمثال لما
استثني بعينه. وآيات حظر التحريم بغير وحي من الله تعالى وتسميته افتراء على
الله؛ كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: ٥٩) ,وقوله: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: ٣٢)
وغيرهما.
وفوق هذا أصل الإباحة بنص قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) ولكن لا يدخل في عموم الحديث والآيات إباحة ما فيه ضرر ولا
ما يتعلق به حقوق الناس، أو يقال: إنه من المستثنى بنصوص وقواعد أخرى؛
لأن التنازع في الحقوق والمصالح وإن كان مما يدخل في استطاعة البشر الاهتداء
إلى الأحكام الفاصلة فيه، يحتاج في قواعده إلى تشريع إلهي تخضع له النفوس
باطنًا بوازع الدين والعقيدة؛ كما تخضع له ظاهرًا بوازع السلطان والقوة.
وهنالك أمور مشتبهات لها جهات مختلفة؛ كإطلاق اللحية وقص الشارب أو
إعفائه وفرق الشعر وخضب الشيب. هذه أمور صح أمر النبي (صلى الله عليه
وسلم) بها، وهي من أمور العادات والزينة المباحة في الأصل، ولكن علل بعضها
بمخالفة أهل الملل الأخرى؛ ليكون المسلمون أمة مستقلة في جميع مشخصاتها
ممتازة عن غيرها، يقتدى بها ولا يقتدى بغيرها فهذه الأمور الدنيوية العادية، قد
نظر فيها إلى مصلحة اجتماعية للأمة. ولما لم تكن من الأمور التعبدية التي يقصد
الامتثال فيها لذاته، يصح أن يقال فيها: إنها تتبع علتها وجودًا وعدمًا، وقد ترك
المسلمون فرق الشعر خلافًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، وصار من
يفرق شعره يعد متشبهًا بغير المسلمين من الإفرنج وغيرهم، والنبي صلى الله عليه
وسلم كان يسدل شعره أولاً، فلما رأى أهل الكتاب بعد الهجرة يسدلون شعورهم
صار يفرقه مخالفة لهم، وقد اختلفت الحال اليوم، وقد سبق لنا بيان لها في مواضع
من التفسير والمنار، منها المطول والمختصر، وآخر المختصر ما ذكرناه في
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: ٢٤) هو في الجزء العاشر من المنار م ٢٨ الذي صدر في
شعبان بتاريخ ٣٠ رجب الماضي، أعني الذي صدر قبل هذا الجزء.
***
٥- جواز خطأ الأنبياء في آرائهم ودليله وحكمه وحصره
قال الله تعالى لخاتم رسله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف:
١١٠) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر
دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواه مسلم والنسائي
من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال أيضًا: (إنما أنا بشر مثلكم
وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله) رواه
الإمام أحمد وابن ماجه من حديث طلحة رضي الله عنه بسند صحيح، وقال أيضًا:
(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض،
فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها) رواه
الجماعة من حديث أم سلمة رضي الله عنها، والجماعة هنا الإمامان مالك وأحمد
والشيخان البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، وموضوع الحديث الخطأ
في الحكم؛ بسبب خلابة المخطئ من الخصمين وقوة حجته.
ومن أصول العقائد الإسلامية المأخوذة من هذه النصوص وأمثالها؛ أن الرسل
عليهم السلام بشر، يجوز عليهم كل ما يجوز على البشر من الأمور البشرية التي
لا تخل بمنصبهم من الصدق والأمانة في تبليغ الرسالة، والعصمة عن مخالفة ما
جاءوا به من أمر الدين.. إلخ، وقد اتفق المسلمون على جواز وقوع الخطأ من
الرسل عليهم السلام في الرأي والاجتهاد. ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطأ يتعلق
بالتشريع كمصالح الأمة، بل يبينه لهم كما حصل في اجتهاد نبينا صلى الله عليه
وسلم في مسألة الأسرى ببدر مع المشاورة، إذ رجح رأي الصديق في أخذ الفداء
منهم، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال: ٦٧) الآية، وفي اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الإذن لبعض
المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، فأنزل الله تعالى عليه {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ
لَهُمْ} (التوبة: ٤٣) ، وفي اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه قبل ذلك في
الإعراض عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى الفقير عندما جاءه؛ وهو يكلم كبراء
قريش راجيا هدايتهم؛ لئلا ينفروا منه لكبريائهم، فأنزل الله عليه {عَبَسَ وَتَوَلَّى *
أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: ١-٢) إلى قوله: {كَلاَّ} (عبس: ١١) ردعًا
عن مثل هذه السياسة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجع عن رأيه لرأي أي من
أصحابه كما فعل عند ما اختار النزول في مكان يوم بدر، فأشاروا عليه بما هو
خير منها، وأولى من ذلك رجوعه إلى رأي الأكثرين بعد المشاورة كما فعل يوم
أحد، ولكني لم أقف لأحد من العلماء على إحصاء لحصر هذه المسائل في موضع
واحد يُرجع إليه، وهذا أشهر ما ورد في هذا الباب، وهو الذي يتبادر إلى الذهن
وقت الكتابة من غير مراجعة كتاب.
***
٦-٧ - الجمع بين حديثي الذباب والفأرة
وهل الأول رأي أو تشريع؟
الفقهاء يفرقون بين الحديثين؛ بأن الفأرة مما له دم سائل، فلا يعفى عن
تنجيسه لما ينجسه إذا كان ميتًا والذبابة ليست كذلك، فيعفى عن تنجيسها لما تقع
فيه أو يقال: إنها لا تنجسه. وأما الحكم الطبي فيهما فواحد فكلاهما ضار في
الطعام والشراب باتفاق الأطباء، فإن كان ضرر الذبابة الواحدة لا يبلغ ضرر الفأرة
الواحدة، فللكبر والصغر دخل في ذلك، ويجوز أن يكون مقدار ثقل الفأرة من
الذباب أضر منها، والمعول في مثل هذا على خبرة الأطباء.
وحديث الذباب المذكور غريب عن الرأي وعن التشريع جميعًا، أما التشريع
في مثل هذا فإن تعلق بالنفع والضرر فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعًا
فهو محرم قطعًا، وكل ضار ظنًا فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل
إن كان الظن ضعيفًا، فغمس الذباب في المائع الذي يقع فيه لا يتفق مع قاعدة
تحريم الضار، ولا مع قاعدة اجتناب النجاسة. وأما الرأي فلا يمكن أن يصل إلى
التفرقة بين جناحي الذبابة في أن أحدهما سام ضار والآخر ترياق واق من ذلك السم
فإن صح الحديث بلفظه، ولم يكن فيه غلط من الرواة، ولم يكن معناه معروفًا
مسلمًا في ذلك الزمان، فالمعقول فيه أن يكون عن وحي من الله تعالى، وحينئذ
يمكن أن يعرف ببحث الأطباء المبني على القواعد الحديثة؛ كالتحليل الكيميائي
والفحص الميكروسكوبي، بأن يجمع كثير من أجنحة الذباب اليمنى واليسرى كل
على حدته، وينظر في أكبر منظار مكبر، ثم يحلل فينظر هل يختلف تركيبه ثم
تأثيره في بعض الأحياء كشأنهم في هذه النظائر، فإن ثبت بالتجربة القطعية أن
الجناحين سواء في الضرر كما هو الغالب في النظر، ثبتت معارضة الواقع
القطعي لمتنه وهو ظني؛ لأنه خبر واحد، فيحكم بعدم صحته إن لم يكن تأويله كما
هو الظاهر، ولا خلاف في ترجيح القطعي على الظني من منقول ومعقول
ومختلف، كما بينه شيخ الإسلام في كتاب النقل والعقل.
هذا، وإننا لم نر أحدًا من المسلمين، ولم نقرأ عن أحد منهم العمل بهذا
الحديث، فالظاهر أنهم عدوه مما لا دخل له في التشريع كغيره من الأحاديث
المتعلقة بالمعالجات الطبية والأدوية، وقد تكلم علماؤنا في معناه، وذكروا اعتراضًا
عليه لبعض الناس جهلوه به، وهو قوله كيف يجمع جناحاه بين الداء والشفاء؟
وردوا عليه بأن كثيرًا من المخلوقات تجتمع فيها المتضادات؛ كالحية فيها السم
ولحمها يجعل في الترياق منه، والنحلة يخرج من فمها العسل النافع ومن أسفلها
القذر الضار. ونقلوا عن بعض الأطباء أن في الذبابة سمًا، فإذا وقعت في طعام أو
شراب أو غيرهما تلقى بسمها على ما تخشى أن يضرها: أي كما تفعل كل
الحشرات السامة، وذكروا أن من المجربات شفاء لسعة الزنبور بدلكها بالذباب أو
بالزنبور نفسه. وفي الطب الحديث أن نَسَم الجِنَّةِ الخفية التي يسمونها الميكروبات
منها الضار والنافع، وإنهما يتدافعان ويتقاتلان في دم الإنسان حتى يغلب أحدهما
الآخر، فعلى هذا لا يمكن القطع بأن متن الحديث مخالف للواقع ونفس الأمر، وأن
كل ذباب يغمس في الطعام أو الشراب فهو ضار إلا بتجارب خاصة بهذا الأمر.
هذا، وإن إخراج البخاري لهذا الحديث في جامعه لا يعصمه من التماس علة
في رجاله تمس مناعة صحته، فإن مداره عنده على عبيد بن حنين مولى بني
زريق، انفرد به وليس له غيره، فهو ليس من أئمة الرواة المشهورين الذين تخضع
الرقاب لعدالتهم وعلمهم وضبطهم كمالك عن نافع عن ابن عمر مثلاً، ومن الغريب
أنه لم يذكر في تهذيب التهذيب أن له رواية عن أبي هريرة، فإن كان بينهما
واسطة يكون منقطعًا. ولكن لم يذكر الحافظ ذلك على تحريه لمثل هذه العلل. وفيه
أن أبا حاتم قال فيه: كان صالح الحديث، وهي من أدنى مراتب التوثيق، حتى قدم
الحافظ الذهبي وغيره عليها كلمة (لا بأس به) فإذا غلب على قلب مسلم أن رواية
ابن حنين هذا غير صحيحة وارتاب بغرابة موضوع حديث الذباب لا يكون قد ضيع
من دينه شيئًا، ولا يقتضي ارتيابه هذا أو جزمه بعدم صدق ابن حنين فيه الطعن في
البخاري؛ لأنه قبل روايته لأنه لم يعلم جارحًا يجرحه فيه إلا هذا الشذوذ الذي يجبره
حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه بمعناه وإن كان على غير شرط البخاري في
الصحيح. ولكن يرد على المرتاب تصحيح لابن حبان لحديث أبي سعيد، وقد يقول:
إذا وجدت علة في رواية البخاري تمنعني من القول بصحة الحديث مع كونه أشد
الحفاظ تحريًا فيما يخرجه في صحيحه مسندًا، فهل يمنعني منه تصحيح ابن حبان
المعروف بالتساهل في التصحيح؟ وكل من ظهر له علة في رواية حديث، فلم يصدق
رفعه لأجلها فهو معذور شرعًا، ولا يصح أن يقال في حقه: إنه مكذب لحديث كذا،
كما أن من اعتقد أن حديث كذا صحيح، وكذبه يصدق عليه أنه مكذب، ويترتب عليه
حكم التكذيب.
(تنبيه) إن ابن حنين رواي حديث الذباب من مسلمة الأعاجم، والظاهر
أنه من النصارى. وراوي حديث الشياطين المتقدم وهو ابن شنظير منهم أيضًا،
وكل منهما غير مشهور بالعلم والرواية، فالظاهر أن البخاري اكتفى بعدم الطعن
فيهما.
***
٨-٩ - تكفير محمد توفيق صدقي لعدم تسليمه حديث الذباب
إن الذي كفّر الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى؛ لاعتقاده أن
حديث الذباب مخالف للواقع لا يصح رفعه إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه
وسلم جاهلٌ كما عُلم من الجواب الذي قبل هذا، وقد يصدق عليه حديث (إذا قال
الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) رواه البخاري من حديث أبي هريرة وابن
عمر مرفوعًا، وله روايات أخرى عند غيره أيضًا، وأنا وإن لم أعرفه ولا رأيت
تكفيره، أتمنى لو يكون مثل المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي فيما اختبرت من
قوة إيمانه وقدرته على إقامة البراهين العلمية على عقائد الإسلام كلها، وفي قدرته
على رد الشبهات عنها، وفي غيرته على الإسلام التي حملته على درس الكتب
الكثيرة؛ لأجل الدعوة إليه والدفاع عنه جدلاً باللسان وتأليفًا للكتب، وإنني أعلم علم
اختبار واسع دقيق لا علم غيب أن هذا الرجل كان من أقوى المسلمين دينًا في
اعتقاده وفي عبادته واجتنابه لما حرم الله تعالى. فإذا كان مثل هذا الرجل يعد كافرًا؛
لأنه لم يصدق رفع حديث كحديث الذباب ليس من أصول الإسلام ولا من فروعه،
وهو يجل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قول مثله، فأين نجد المسلمين
الصادقين؟ !
هذا، وإنني أعلم بالاختبار أيضًا أن ذلك المسلم الغيور لم يطعن في صحة
هذا الحديث كتابة؛ إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التي تنفر الناس عن
الإسلام، وتكون سببًا لردة بعض ضعفاء الإيمان وقليلي العلم الذين لا يجدون
مخرجًا من مثل هذا المطعن إلا بأن فيه علة في المتن تمنع صحته، وكان هو يعتقد
هذا. وما كلف الله مسلمًا أن يقرأ صحيح البخاري ويؤمن بكل ما فيه وإن لم يصح
عنده أو اعتقد أنه ينافي أصول الإسلام.
سبحان الله! أيقول ملايين المسلمين من الحنفية أن رفع اليدين عند الركوع
والقيام منه مكروه شرعًا، وقد رواه البخاري في صحيحه وغير صحيحه عن
عشرات من الصحابة بأسانيد كثيرة جدًّا، ولا إثم عليهم ولا حرج لأن إمامهم لم
يصح عنده؛ لأنه لم يطلع على أسانيد البخاري فيه، وكل من اطلع من علماء مذهبه
عليها يوقن بصحتها؛ ثم يكفر مسلم من خيار المسلمين علمًا وعملاً ودفاعًا عن
الإسلام ودعوة إليه؛ بدليل أو شبهة على صحة حديث رواه البخاري عن رجل يكاد
يكون مجهولاً، واسمه يدل على أنه لم يكن أصيلاً في الإسلام وهو عبد بن حنين،
وموضوع متنه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته ولا من شرائعه ولا التزم
المسلمون العمل به، بل ما من مذهب من المذاهب المقلدة إلا وأهله يتركون العمل
ببعض ما صح عند البخاري وعند مسلم أيضًا من أحاديث التشريع المروية عن
كبار أئمة الرواة؛ لعلل اجتهادية أو لمحض التقليد، وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر
من مائة شاهد على ذلك في كتابه إعلام الموقعين، وهذا المكفر للدكتور منهم،
فنسأله بالله تعالى أن يصدقنا: هل قرأ صحيح البخاري كله واعتقد كل ما فيه
والتزم العمل بكل ما صححه؟ ثم إن كان يدعي هذا فنحن مستعدون لدحض دعواه
مع هذا كله نقول بحق: إن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله. ولكنه
ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ، وليس كل مرتاب في شيء من روايته كافرًا!
ما أسهل التكفير على مقلدة ظواهر أقوال المتأخرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.