للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اقتراح إبطال الأوقاف الأهلية
ومكان الدين من الدولة المصرية
في قسميها التشريعي والتنفيذي

اضطربت هذه البلاد اضطرابًا عظيمًا؛ لاقتراح أحد أعضاء مجلس النواب
وضع قانون تلغى به الأوقاف الأهلية، ويحرم إنشاء شيء منها في المستقبل؛ لما
فيها من المفاسد الاقتصادية وغيرها، فكان الناس في هذا الاقتراح فريقين: فريقًا
يود ذلك لأن في أيديهم أعيانًا من هذه الأوقاف، يريدون أن يتصرفوا فيها تصرف
المالكين، فتكون لهم دون من بعدهم، ويؤيد هذا الفريق زنادقة المسلمين دعاة
الإلحاد في هذه البلاد، وكل ما يحب من غير المسلمين إبطال حكومتها لكل ما بقي
من التشريع الإسلامي فيها، وفريقًا لهم منافع في بقاء هذه الأوقاف على حالها،
ويؤيدهم جمهور علماء الشرع، ومن يؤلمهم التعدي على التشريع الإسلامي أن
يكون مباحًا للبرلمان، فيتصرف فيه برأي أكثرية أعضائه، فيكون تشريعه فوق
الشرع المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو اجتهاد أئمته،
وهذه الأكثرية قد تحصل بمن لا يدينون بالإسلام من ملاحدة وكتابيين، فإن من
هؤلاء الملاحدة من صرحوا - حتى في بعض جلسات النواب الرسمية - بردتهم عن
الإسلام وطعنهم في القرآن؛ لأنه يخالف مدنية أوربة في إباحة تعدد الزوجات
ولغير ذلك.
كتب كل من الفريقين مقالات كثيرة في الجرائد، يؤيد فيها رأيه بأدلة من
الشرع والقوانين والمصلحة العامة، ولا يعدم الفريق الأول شيئًا منها، فإن في هذه
الأوقاف من المفاسد ما لا يجيزه شرع الله بنص صريح، ولا باجتهاد صحيح على
ما فيه من المفاسد الاقتصادية، وكثر إلحاح أناس من الفريقين عليّ أن أكتب في
تحقيق الحق في المسألة؛ ما يعهدون أو يعتقدون من فصل الخطاب في أمثال هذه
المشكلات كمسألة الخلافة وغيرها، فكنت أقول لكل مقترح: إن لدى كل فريق
صوابًا وخطأ وحقًّا وباطلاً، وضارًّا ونافعًا، وإن الأوقاف الخيرية المسكوت عنها
الآن كذلك، فيها أوقاف باطلة مخالفة لأصول الشرع وفروعه، وفي التصرف فيها
مثل ما في التصرف في الأوقاف الأهلية من المفاسد والمضار، وتمحيص القول في
هذا الباب كله، وتحقيق الحق فيه من كل وجه لا يمكن إلا بتأليف كتاب ككتاب
(الخلافة أو الإمامة العظمى) ، ولو كان البرلمان المصري والحكومة يأخذان بما يقوم
عليه الدليل الأقوم، وتظهر فيه المصلحة العامة، لتركت جل أعمالي وتفرغت لذلك.
ولكن لا سبيل إلى هذا ولا سبيل إلى إقناع أهل الشأن به.
على أنه قد وضح من مجموع ما كتب الكاتبون أن للوقف أصلاً في الشرع
الإسلامي ثابت بالنص والعمل المتواتر من العصر الأول إلى اليوم، فلا يمكن
إبطاله باجتهاد مجتهد متقدم ولا متأخر، وإن سوء التصرف فيه وكون بعضه مخالفًا
لمقاصد الشرع، أو ما يعبر عنه بروحه وهو مناط التشريع، وبعضه مخالفًا
للنصوص أيضًا بحيلة شرعية أو بآراء فقهية؛ فهو واقع لا مراء فيه، فقلما يوجد
وقف أهلي أريد به القربة ومرضاة الله تعالى التي هي الأصل فيه، وما عساه يحلي
به مما صورته الخير، فمنه ما هو شر ومنه ما يحول بسوء التصرف إلى شر
وفساد، ومن ذلك ما يوقف على تشييد القبور وتجصيصها أو تزيينها، ووضع
المصابيح عليها وحمل الأطعمة إليها في الأعياد والمواسم المبتدعة أو المبتدع فيها
وغير ذلك، قلما يوجد في شيء من ذلك شيء مشروع يرضاه الله تعالى، فالوقف
عليها باطل كالوقف على بعض الوارثين لحرمان الآخرين.
ولكن سوء التصرف والاستعمال ليس مقتضى للشرع في ذلك، ولا لازمًا من
لوازمه، حتى يقال: إنه يجب إبطاله بإبطال مقتضيه وملزومه، فإن المبطلين
والأشرار يسيئون التصرف بجميع النعم الفطرية والكسبية: يسيئون التصرف
بمداركهم العقلية وبحواسهم وقواهم كلها، ويسيئون التصرف بأموالهم وبمعاملة
أزواجهم وأولادهم، وبالقوانين والعلوم والفنون والصناعات، فالواجب على أنصار
الحق وأهل الخير من أولي الأمر والحكم أن يمنعوا سوء التصرف بالشرائع والقوانين
وبالقوى والمشاعر وبالنعم؛ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، كما يجب على العلماء أن
يبينوه للناس.
***
الدين في الدولة المصرية
فأول ما أنكره ويوافقني على إنكاره كل مسلم يعرف دينه ويغار عليه؛ أن هذا
البرلمان المصري لا يجوز أن يعطى من حق التشريع ما ينسخ شيئًا من شرع الله
الثابت بنص الكتاب أو السنة الصحيحة؛ التي جرى عليها عمل سلف الأمة أو
بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وأعني ليس للقانون الأساسي أن يعطى هذا الحق؛
وهو يعترف بأن دين الحكومة الرسمي هو الإسلام.
وأما ما دون ذلك من مسائل الفقه الاجتهادية: فلأولي الأمر أن يتركوا منها ما
ضعف دليله، أو ضر فعله، أو كان منافيًا لمصلحة الأمة العامة، فإن مخالفة مثل
هذا من اجتهاد الفقهاء لا ينافي الإسلام.
وقد آن لهذه الحكومة الدستورية أن تفرق بين نصوص الإسلام القطعية من
الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح؛ وبين اجتهادات أئمة الفقه الظنية، فتعلم أن
الأول لا بد من الاعتراف به لمن يدين الإسلام، وأن الثاني تحكم فيه الأدلة ومنها
مراعاة مصلحة الأمة، وإلا كان نص القانون الأساسي في كون دين الدولة هو
الإسلام لغوًا، كما كان في قانون الجمهورية التركية.
وقد ظهر بهذه المسألة مسألة ما اقترحته الحكومة من إصدار قوانين ببعض
أحكام الزوجية من: نكاح وطلاق ونفقة وفسخ عقد وتطليق حاكم؛ أن بعض علماء
مصر لا يرضيه من الحكومة إلا أن تتقيد بتقليد ما قرر اعتماده في كتب الفقه
المشهورة في الأزهر على مذاهب الفقهاء الأربعة المشهورة، بل يوجب عليها بعض
الحنفية منهم التقيد بمذهبهم وحده، وإن كان بعض المذاهب الأخرى أقوى منه دليلا ً،
وأقوم مصلحة وأيسر في التعامل، وأن بعضهم يقول بوجوب النظر في أدلة الأحكام
واتباع الأقوى والأصلح منها، فعلى الحكومة أن تؤلف مجلسًا شرعيًّا من الفريقين
يكون من أعضائه شيخ الأزهر، والمفتي الأكبر، ورئيسا المحكمة الشرعية الكبرى
والعليا، وبعض المشتغلين بالتفسير والحديث وآثار السلف وتطرح على هذا المجلس
ما تحتاج إلى معرفة حكم الشرع فيه، وتعتمد ما تقوم الحجة على أنه الحق الموافق لما
ثبت بنصوص الكتاب والسنة القطعية من يسر الشرع، وتقرر في نظام هذا المجلس
أنها مقيدة من الإسلام بالمُجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة الذي أجمعوا على
تكفير جاحده، ولا تقيد بغير ذلك من المسائل الخلافية بل تتبع فيها الأصح والأصلح.
اقترح بعض النواب في مجلسهم إلغاء منصب المفتي الرسمي؛ لأجل الاقتصاد
المالي، وليس راتب المفتي وكاتبه ونفقة مكتبه بالشيء الذي يعد كثيرًا
على الحكومة المصرية الغنية المسرفة؛ التي يمكن إدارة جميع أعمال وزاراتها
ومصالحها بنصف ما تنفقه عليها أو أقل من نصفه، وإنما الذي صار يثقل على
كثير من النواب أن يكون لهذه الحكومة مظهر للشرع الإسلامي مثل مظهر المفتي
الأكبر، ما أشد جهل هؤلاء المسلمين الجغرافيين بطبائع المال ونظام الاجتماع،
كنا ألفنا لجنة في حزب الاتحاد السوري؛ لتضع مشروع قانون أساسي لسورية،
واخترنا لرياستها إسكندر بك عمون المحامي الشهير؛ لأنه أعلم الأعضاء بالحقوق
والقوانين، فقال: أنا لا أقبل رياسة لجنة كهذه وفيها السيد رشيد؛ وهو أعلمنا
بالشريعة الإسلامية التي يجب علينا الاستمداد منها في هذا القانون؛ لأن أكثر أهالي
البلاد من المسلمين.
إننا نرى كثيرًا من المسلمين، ينشرون في بعض الصحف مقالات، يقيمون
بها الحجة على الحكومة المصرية بمخالفة نصوص الدين الإسلامي القطعية في
أحكام وأعمال بعض وزاراتها ومصالحها ولا سيما وزارتي المعارف والحقانية،
وهو الدين الرسمي لها بنص القانون الأساسي، ومن أفظع هذه المخالفة بل الجناية
على الأمة فيها إباحة الطعن في الإسلام في الجامعة المصرية، وإفساد عقائد النابتة
ووجدانها وآدابها النفسية بالإلحاد والإباحة، فيجب على الحكومة أن تتنصل من هذه
المطاعن بما ذكرنا؛ ليعلم رجالها وجمهور الأمة بما هو دين لا مندوحة عن الإيمان
به واحترامه، وما هو محل نزاع واجتهاد لا يكلفه إلا من ثبت عنده.
إني أوافق الذين يعتقدون من رجال الحكومة وغيرهم أنه ليس من الميسور لها
أن تدير نظام حكومة مدنية في هذا العصر، مع التزام مذهب الحنفية أو الشافعية
مثلاً، ولا سيما المذهب التقليدي الذي يوجبه المقلدون من أهل الأزهر وغيرهم من
كتبهم، وأقول مع هذا: إن الله لم يوجب على فرد ولا حكومة التزام تقليد كتب
مذهب من المذاهب، بل أبطل ذلك في محكم كتابه، ومن يدعي وجوب هذا التقليد
لتحقيق الأخذ بالإسلام، فهو أجنى على الإسلام ممن يرده وينكره، فقد كان الإسلام
على أكمله في الزمن الذي لم يكن فيه من هذه الكتب شيء، على أن في هذه الكتب
شيئًا كثيرًا تحتاج إليه الأمة، ولكن يكفي في ثبوت الإسلام ما أجمع عليه أهل
الصدر الأول من الدين؛ ومنه نصوص الكتاب والسنة القطعية الرواية والدلالة،
وما عداه فهو محل للاجتهاد، ومن أصول الإسلام فيه مراعاة مصلحة الأمة العامة
في جميع المعاملات السياسية والقضائية والإدارية، وإنه لا يكلف أحد أن يدين الله
باتباع أحد من الفقهاء فيه إلا ما صدر به حكم حاكم شرعي، فيجب اتباعه إقامة
للنظام العام.