للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألة السورية بمصر

كتبنا في جزء سابق كلمة وجيزة؛ فيما وقع من الخلاف بين أعضاء اللجنة
التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني وبين رئيسها السابق الذي اقتضى أن تقرر
اللجنة إلغاء الرياسة الشخصية الدائمة لها، وذكرنا أن بعض الفضلاء يسعون
للصلح بين الأعضاء، والرئيس السابق الذي ألف لجنة جديدة تعترف له برياسته
الملغاة، ليس فيها أحد من أعضاء اللجنة القانونية إلا واحد مستخدم عنده براتب
شهري، ونذكر الآن بالإيجاز أن الساعين بالصلح قد فشلوا، وظهر لهم ولغيرهم أن
سبب الخلاف الذي شجر؛ هو ما ثبت من أن الرئيس السابق يسعى مع أخويه
لاستغلال القضية السورية وثورتها لدى فرنسة، بزعمه أنه يمكنه بنفوذ اللجنة
إخضاع البلاد كلها لفرنسة بالشروط التي يتفق هو معها عليها سرًّا، وينفذها باسم
اللجنة جهرًا، وقد صرحت الجرائد الفرنسية حتى الطان منها: بأن أولاد لطف الله
معترفون بالانتداب ويسعون للاتفاق مع فرنسا خلافًا لرشيد رضا وأسعد داغر من
الأعضاء المتطرفين الذين يسعون للاستقلال العربي، وأن لطف الله وجد قوة جديدة
ترجح على هؤلاءالمتطرفين بمشايعة الدكتور عبد الرحمن شاهبندر له، واشتغاله
معه في خدمته السياسة الفرنسية.
كانت حجة طلاب الصلح علينا؛ أن اتفاق ميشيل وشاهبندر يحدث مضار
كثيرة في القضية السورية، يزيد شرها على قبولنا لرياسة ميشيل للجنة مع حفظ
الأكثرية فيها، واشتراط جعل الرياسة صورية بسلب الرئيس حق تمثيل اللجنة في
الخارج والكلام باسمها إلخ، ما قالوا: إنه قد قبله، وقبل أن يوضع في النظام
الداخلي.
وقد حدث بعد العلم بتعذر الاتفاق أن الهيئات السورية في داخل البلاد
وخارجها وفي مقدمتها سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وسائر جماعة
المرابطين في الصحراء، كلها أيدت إلغاء اللجنة للرياسة الذي اقتضى خروج
رئيسها السابق من جماعتها، وأصبح تأليفه للجنة أخرى عبثًا وسدى، ثم إن
الحزب الوطني في الأرجنتين قد ألغى تمثيل الدكتور شهبندر له في اللجنة كما فعل
الحزب الوطني في شيلي، والجمعية السورية الوطنية في الولايات المتحدة بإلغاء
تمثيل توفيق أفندي اليازجي، فلم يبق للجنة الجديدة وجود يصح أن يستند إلى
مؤتمر جنيف، ولا حزب يمكن أن تتوكأ عليه، ولا عصبية في الوطن ولا في
المهاجر يمكن أن يتقرب رئيسها إلى فرنسة بها، والمال وحده لا يفعل ذلك، وقد
راينا منتهى ما عمل، فإذا هو ضعف وعجز وخذلان.
رأينا وعلمنا أن بعض الجرائد السورية الساقطة، تنشر لهم بالأجور الكبيرة
مقالات في إطراء أنفسهم بما يهوون من ألقاب الرياسة والزعامة ‍! والطعن في
خصومهم بألفاظ البذاء والسفاهة حتى لقب الكلاب. وتنزهت الجرائد المصرية
المحترمة عن نشر شيء من ذلك لهم، وعهد التضليل لا يطول في هذه المسالة،
فسيعلم من لم يعلم من الشعب السوري من يخدمه ويخدم وطنه، ومن يستغلهما
ويتجر بهما.
ولكن الذي بدا لنا من حيث لم نحتسب، أن يخيب الأمير ميشيل وشقيقه آمالنا
في آدابهما الشخصية برضاهما من مستخدميهما أن يكتبوا تلك المقالات الحمقاء
المشتملة على التبجح الدنيء؛ بذكر موائد سراي لطف الله وإهانة ضويفهم الآكلين
عليها وضيوف القوم أمثالهم أو أكبر؛ ومن أحقر ذلك وأمسه بكرامتهم زعمهم أن
فلانًا وفلانًا بايعا جورج لطف الله بإمارة لبنان عقب غداء ثقيل.
ألا يفهم هؤلاء أن هذه مسألة لا تذكر إلا مداعبة ومزاحًا أو سخرية واستهزاء؛
لأن الإمارة في مثل سورية ولبنان لا تكون بمبايعة أحد من أهلهما ولا سيما في
خارجهما وهما تحت سلطة أجنبية، فلا يكون الحديث فيها من الجد في شيء.
إننا عاشرنا ميشيل وجورج بضع سنين، لم نر فيها منهما إلا الأدب العالي
في القول والعمل؛ ولذلك كنا مغتبطين بمعاشرتها، وقد قال لي الأمير ميشيل عقب
قرار ١٩ أكتوبر: إن اختلافنا في السياسة لا يمنع الصداقة الشخصية بيننا، فإن
مثل هذا معهود بين الأصدقاء في أوربة وغيرها، وقلت له أخيرًا عندما اجتمعنا
باقتراحه؛ لبحث في مسألة الصلح إنه لا يليق بآدابكم الشخصية استئجار السفهاء
البذاء، والطعن واستئجار الجرائد لنشرها ثم توزيعها من مكتب لجنتكم، ولا تظنوا
أن معرته لا تلحقكم فقد قال الشاعر:
ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل أذاة الناس من رابط الكلب
فأطرق ولم يعتذر، وقد ذكرت له أنني أحتقر الشتامين وجرائدهم فلا أقرأها؛
ولذلك أرد لمكتبه السياسي بشارع عابدين جميع الجرائد التي يرسلها بغلافها وطابع
البريد عليها كما هو، ولولا أنه كان مما نشروه في منشوراتهم وجرائدهم المأجورة
للكذب؛ أننا قبلنا أن يكون من قواعد الصلح إعادة رياسة الجنة كما كانت، وسكتوا
عن القيود التي جعلنا الرياسة معها سدى لما نشرت هذه الكلمة هنا، وقد كان أخسر
الناس بما حصل عاشق الرياسة وعاشق الزعامة؛ إذ خسراهما وخسرا ما كان من
حسن ظن الأمة بهما (والعاقبة للمتقين) .