للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خرافات عباد القبور في الصومال

جاءنا من الموحد السني صاحب الإمضاء الرمزي في (مركة - بنادر)
بالصومال الرسالة الآتية:
ظهرت بهذا القطر الصومالي الإسلامي البحت فئة تشبه الأَرَضَة التي تأكل
خشب السفينة، تلك الفئة الضالة المضلة التي تجردت من كل عاطفة بعد أن خلت
من كل مزية وفضيلة، تلك الفئة التي تظهر في كل زمان ومكان يفتنون المسلمين
بزيارة المشاهد والقبور والذبح والنذور ويزينون لهم الخرافات بزخرف أقوالهم
وبظاهر كبر عمائمهم وطول ذقونهم حتى ليخيل للناظر لأول مرة أنهم من أفاضل
العلماء أو من الرجال والوجهاء على حين لو اطلعت على ما في قلوبهم أو تيسر لك
الوقوف على أسرارهم وما يفعلونه في الخفاء لوليت منهم فرارًا ولملئت منهم رعبًا.
فياللأسف وايم الله لقد فشت بهذا القطر الإسلامي البحت المنكرات والخرافات
بزيارات المشاهد والقبور والذبح لها والطواف بها كطواف الكعبة المشرفة
وخصوصًا عند مشهد عويس (أويس القرني) بمقدشوه إذ تجتمع بهذه الزيارة الألوف
المؤلفة وعند الطواف كل طائفة تأمر الأخرى بآية الاستغفار هكذا {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} (نوح: ١٠-١١) ثم يتوجهون
نحو البلاد يطوفون طولاً وعرضًا صائحين بأعلى أصواتهم بآية الاستغفار على ما
تقدم إلى أن تصل كل قبيلة حارتها فينتهي الاحتفال، وبعد غروب الشمس يتوجه نساء
البلاد نحو المشهد للزيارة ومعهن طبول وعيدان خشب مثقوب يصفقن بها بأيديهن
حاملات للبخور ويمكثن هناك قدر ساعتين يغنين ويمدحن سيدتنا فاطمة الزهراء،
وعند القيام يتبركن بصاحب المشهد بأخذ شىء قليل من تراب المحل يأكلن منه لأجل
الحبل أو للجاه والقبول عند الرجال وغير ذلك.
وكذلك تأسست من مدة قريبة زيارات جديدة للسيد أحمد الرفاعي بمقدشوه
وغيرها وهي من أكبر المنكرات، وليلة زيارة السيد المذكور ترخص الدولة جميع
اللعوبات والملاهي، كاليوم يعمل بها الطبول والمزامير والرقص والطنبرة السودانية
ولعب الزار ورقص في الخدم وغيرها من أصناف لعب الأرض حول المسجد الذي
تقام فيه بدع الطريقة الرفاعية مدة أربع ليال، وشيخ الطريقة ومريدوه وأنصاره
الناشرون للخرافات داخل المسجد يتلون مناقب السيد أحمد الرفاعي، والغوغاء
والطبول والمزامير حولهم ولا ينكرون عليهم شيئًا سوى أنهم يهنئ بعضهم بعضًا
بأن هذه السنة للزيارة تحسنت جدًّا، يكثر أصناف الرقص والملاهي أمام المسجد
والغرض من قولهم: تحسنت الزيارة لديهم، نعم تحسنت جدًّا بحصول الدراهم
والمال من عامة الجهال، عباد القبور والخيال، حتى إن أحد السادة ادعى أنه رأى
سيدتنا الزهراء فبنى لها مشهدًا يُزَار كل سنة وتجتمع عنده ناس كثيرون لتلاوة
المولد النبوي الشريف، وإن المنكبين على هذه الزيارة النساء فقط؛ لأن منهم
يحصل المقصود.
وكذلك زيارة الشيخ صوفي المشهور بعلمه وورعه المدفون بمقدشوه له زيارة
عظيمة تجتمع إليها الخلائق من جميع أنحاء القطر، ويكون بها رخصة لجميع
الملاهي والرقص مثل ما تقدم ذكره، ولكن قبة الشيخ المذكور خارج المدينة بعيدة
من محل الراقصات والطبول والمزامير، وعشية ليلة الزيارة تروح إلى القبة جميع
الطرائق بزفات كمثل زفة الرفاعي والقادري وزفة الصالحية والأحمدية، ويذكرون
هناك أذكارًا مبدلة وأسماء محرَّفة إلى غروب الشمس فإذا غربت توجهت زفات
الطرائق نحو المدينة إلى بيت أولاد الشيخ المذكور وهناك يتلون الفاتحة وينتهي
عملهم، وتلك الليلة تروح نساء المدينة ويمكثن هناك طول الليل إلى قرب الفجر
وتذبح البقر وبعض الغنم ويستمر الطبخ هناك طول الليل، والبعض إلى ثاني يوم
إلى وقت الرجوع يدخلن لتقبيل التابوت وأخذ قليل من تراب القبر.
ومن هذا النوع زيارة الشيخ عثمان بمركة يطوفون بقبته مثل زيارة عويس
(أويس) القرني المتقدم ذكره، وتلك الزيارة لها فسحة لجميع اللعوبات أصحاب
الطبول والمزامير وغيرها وتجتمع خلائق من أنحاء القطر الصومالي رجالاً ونساء
وأغلبية هذه الخلائق تجتمع لأجل الفحشاء والمنكرات، وثاني ليلة تكون زيارة
النساء الناشئات على الخرافات وسيء العادات فيغتسلن من ماء بركة المسجد
عاريات؛ لأن الشيخ المدفون كان يغتسل عند هذه البركة في أيام حياته، ومن
اعتقاداتهم أن من اغتسل من تلك البركة فقد محا الله ما تقدم من ذنوبه، ويقضي الله
مراده ولا يصيبه داء طول السنة ولا يخلو من اختلاط بعض الشبان معهن، وثالث
ليلة تجتمع جميع الطرائق، وكل طريقة تأخذ راية من الرايات التي على المسجد
ويدخلون في البلاد بزفات وحامل الراية أمامهم وعند مرورهم بالأزقة يقرب حامل
الراية حول شبابيك البيوت قصد التبرك بمسح الراية على وجوه النساء ويربطن
بالراية بعض نقود لحامل الراية الولي المذكور إلى أن يصل الجميع إلى دار القائم
بخدمة الولي المذكور فتنتهي الزيارة هكذا.
ومثله زيارة رجل عالم من علماء مركة وشيخ الطريقة الأحمدية تجتمع لها
جميع البوادي البرية وأهل بلدان أخرى رجالاً ونساء ويختلط الحابل بالنابل فهي
أعظم زيارة من نوعها لجمع المال من الجهال العامة ويجري بها حسب ما تقدم من
الكلام، وأحيانًا يقف أحد أولاد الميت ويخطب في القوم بأن من فاته هذه الزيارة
كمن فاته الحج بمكة والوقوف بعرفات.
وكذلك زيارة أحد علماء مقدشوه ورئيس القضاة سابقًا توفي إلى رحمة الله من
مدة قريبة فبنت الدولة على قبره أحسن قبة وأنشأت له زيارة بكل سنة مثل هذه
الأمور المتقدمة من عباد القبور الخرافيين، وإنها لخطة طيبة لجمع المال من عامة
الجهال بدون تعب، ومن هذا القبيل كل من مات له والد أو ولد أو أخ بنى على
قبره وبعد حلول سنة رتب الزيارة على القبر ونادى في البلاد بحضور زيارة الشيخ
فلان اليوم فتجتمع خلائق كثيرة: فبعض لأجل الأكل، وبعض للزيارة والتبرك من
الشيخ المدفون، وبعد تلاوة المولد النبوي الشريف يقف عند الباب أحد أقرباء
الميت يسأل الناس الخارجين من القبة واحد بعد آخر إيش جبت للشيخ حق الزيارة
فيتلجلج الزائر فيدفع الذي يتيسر له بجيبه خوف أن يبطش به الشيخ المدفون في
الليل عند المنام.
فإذا نصح لهم ناصح كفَّروه وأخرجوه من الدين بسبب أنه أهان معبودهم
المشهور أو المقبور فلقبوه بعدئذ بالوهابي أو الإرشادي وعندهم أصحاب هذه
الألقاب أهل بدعة وزندقة وخارجون عن المذاهب الأربعة:
فهل يجوز لهم أن يتجروا بالأموات؟ وهل يجوز أكل تراب المشهد؟ أو
تقبيل التابوت أو يحلفوا بهم؟ وهل يجوز الطواف على الصفة المتقدمة؟ وما حكم
هذه الأمة وهذه حالتها وهذه الزيارات المذكورة وخلافها أغلبها بدعية وشركية؟
ربنا اهدنا إلى الصراط المستقيم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... غيور
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
أحيي فضيلتكم، وبعد فإن دفاعكم عن الدين الإسلامي يشجعني على سؤالي هذا،
وأن أرفع طرفي إلى السماء وأبسط أكف الضراعة إلى الله تعالى راجيًَا رد هذا
الجواب وإفادتي وأهل هذا القطر بنشره في مجلة المنار، نفعنا الله بكم وبالمسلمين
آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء الحقيقي
(المنار)
إن خرافات أهل الطرائق المنسوبة إلى الصوفية قد أفسدت عوام المسلمين في
المشرق والمغرب، وإن فتنتها في إفريقية أعظم مما في غيرها، ويظهر أن
إفسادها لدين أهل الصومال أشد من إفسادها لغيرهم؛ لعدم وجود العلماء العارفين
بالكتاب والسنة ومذاهب الأئمة، وإن هذا الفساد عندكم لم يُبق للتوحيد الإسلامي بقية
تعصم أصحابها من دعاء غير الله ورجاء النفع وخوف الضرر من الموتى بدون
الأسباب العادية التي يتساوى فيها البشر.
فما سألتم عنه من المتاجرة بالأموات وأكل تراب المشهد والقبر وتقبيل
التوابيت لو لم يكن ناشئًا عن عقيدة وثنية وخرافية شركية لكانت من المعاصي
العادية، ولكن كل هذه أعمال وثنية صرفة وأصحابها ممن وصفهم الله في كتابه
بأنهم {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: ٧٠) وبقوله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: ١٦٥)
وبقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: ٣) الآية، وبقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: ٢١) نعم، إن كل هذه الجموع التي وصفتم أعمالها عند هذه
المشاهد والمقابر يتقربون إلى الله تعالى بما يعملون، وكل ما يتقرب به إلى الله فهو
عبادة.
وأجمع المسلمون على أن الله تعالى لا يُعْبَدُ إلا بما شرعه من الدين وبيَّنه عنه
خاتم رسله صلى الله عليه وسلم، فإن عُبِدَ بما لم يشرعه كانت العباده معصية كما
قال الفقهاء في صلاة الرغائب وصلاة شعبان قال النووي في المنهاج: (وصلاة
رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان) فكيف القول ببدع القبور الوثنية وهي
عبادة لغير الله، نسأله تعالى أن ينصر إمام السنة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز
ونجد وقومه ليجعل الحرمين الشريفين مثابة لإعادة دين التوحيد بالعمل كما كان،
فإن نشره بالعلم وحده صار متعذرًا؛ لعموم الجهل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.