للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرد على الزعيم محمد علي الهندي
في موضوع ملك الحجاز وحكومته وقومه والخلافة
(١)

وردت على مؤتمر الصحافة بمصر برقية من مكة المكرمة تنبئ بأنه
(اكتشف في مكة مؤامرة خطيرة ضد حكومة الحجاز أدت إلى القبض على شخص
يدعى الشيخ عبد الله من العسير بتهمة التجسس، وقد ضبطت في حيازته أوراق
من بينها خطابات إلى الإمام يحيى وولي عهده من (شوكت علي) الهندي يحثهما
فيه على النهوض لغزو ابن السعود كما ضبطت خطابات أخرى في حيازة حسن
عطاس وعبد العزيز اليمني تثبت اتصالهما بهذا الزعيم الهندي) .
وقد اتفق أن ألم بمصر في أثناء ورود هذه البرقية الزعيم محمد علي الهندي
شقيق شوكت علي الشهيرين في طريق سفره إلى أوربة فاطلع على هذه البرقية فرد
عليها (بتصريحات) ألقاها إلى جريدة الأخبار الغراء فنشرتها في اليوم ٢٣ من ذي
الحجة الحرام، فألفينا فيها من المواربة وإخفاء الحقيقة التي نعرفها منه ومن أخيه
أيام عقد المؤتمر الإسلامي العام بمكة المكرمة ومن بعض ما خطب به في الهند
ونشره في جرائدها ما دَعَّنَا إلى الرد عليه دعًّا (على إردام الحُمَّى [*] علينا منذ
شهر ونصف ونهي الأطباء إيانا عن الكتابة والقراءة) فكتبنا مقالاً لم يتيسر نشره
في الأخبار حيث نشرت تلك التصريحات بل فُقِدَ فاضطررنا إلى كتابة هذا المقال
الثاني، وكان بعض الكتاب من إخواننا المسلمين نشروا في جرائد أخرى ما
استهجنوا به طعن الزعيم محمد علي في جلالة ملك الحجاز وبث دعايته بمصر في
عداوته له في الوقت التي تظهر الأمة كلها شكر جلالته والثناء عليه لما قام به من
خدمة حجاج بيت الله الحرام بتأمين البلاد المقدسة وتسهيل المواصلات فيها وغير
ذلك، وتحث الحكومة على موالاته وشد أواخي الاتفاق مع حكومته لمصلحة
القطرين؛ ولما يقتضيه دين الحكومتين والأمتين، وإنني أقسم الكلام إلى ثلاثة
فصول:
(١) في دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه.
(٢) في حكومة الحجاز وما وعد به ابن السعود فيها.
(٣) في قوم ابن السعود وقوته والخلافة، وتصدي الزعيمين لإقامتها أو
الاتجار بها.
***
(١)
دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه
احتج على تبرئة أخيه مما جاء في برقية مكة بأمور:
(أحدها) قوله: (وهل مبادئنا وآراؤنا وأفكارنا في حاجة إلى مؤامرات أو
تدبيرات خفية أو أعمال غير مشروعة) ؟
(ثانيها) قوله: (إننا لم نكن ضد ابن السعود شخصه، ولكن لأنه جعل
نفسه ملكًا على الحجاز، ونكون ضد الإمام يحيى إذا حدثته نفسه بأن يكون ملكًا
على الحجاز؛ لأننا نعتقد أن الملوكية هي أول بدعة في الإسلام بخلاف الخلافة
التي لا تعرف الملوكية بحال) وسماها في آخر تصريحاته وثنًا قال: إنه يجب
هدمه والتخلص منه، ذكر أنهم يحاربون مبدأ الملوكية، ويعتقدون أنهم ينتصرون
بالحق ومقارعة الحجة بالحجة، ويعتقدون: (أن غير ذلك من الوسائل التي يلجأ
إليه ذوو الغايات من التدبيرات والمؤامرات أو استخدام وسائل الضعف (كذا)
والقتل والاغتيال من أضر الوسائل المؤدية إلى الفشل) إلى أن قال: (ولا نعمل
كما يعمل غيرنا؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال في سبيل
تقوية دعائم ملكه، ولو علم أنها لا تنفق إلا على الملذات والشهوات لضن بها
وصرفها فيما هو خير من ذلك) اهـ (رمتني بدائها وانسلت) .
ونقول في تفنيد هذا الدفاع: (أولاً) إن مما لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه
أن عداوته وعداوة أخيه لابن السعود عداوة سياسية، والسياسة هي التي تكون دائمًا
ذات مبادئ ظاهرة ودسائس باطنة، فهما ينازعان الرجل في ملكه ويسعون لإسقاطه،
ولا يظن عاقل أن الغرور قد بلغ منهما أن يعتقد أنهما يقلبان ملكًا عن كرسي ملكه
بالحجج، وقد تألب العالم الإسلامي كله (تقريبًا) على الملك حسين وكان هو
وأخوه من أشد الناقمين عليه، وكان كاتب هذا الرد أشد منهما في ذلك وله في ذلك
المقالات السياسية والفتاوى الشرعية، والحجج الدينية الناهضة التي نشرت في
المنار وفي غيره من الجرائد اليومية السياسية، ومنها مقالات (السيد العلوي) التي
نشرت في جريدة الأخبار، ولم يستطع العالم الإسلامي بسخطه ولا بإنكاره وحججه
أن يثل عرش الملك حسين ثم ولده علي من الحجاز، وإنما ثله سيف ابن السعود
فقط فالمبادئ الظاهرة لا تنافي السعي في الدسائس الباطنة، والأعمال الخفية غير
المشروعة.
(ثانيًا) إنه لا معنى لنفي العدواة الشخصية لملك ممن يعترف أنه يسعى
لإسقاط ملكه؛ لأن عداوة الملك الشخصية لا تكون شرًّا من هذا؛ إذ لا يعقل أن
يعادى الملك لطوله أو قصره أو لونه أو سمنه أو هزاله أو دمامة صورته أو غير
ذلك من صفاته الشخصية.
ولو كانت عداوة الزعيمين لجلالة عبد العزيز آل سعود لأجل تسميته ملكًا
على الحجاز عداوة لصفة حكمه لا لشخصه، وكان سببها ما زعمه الزعيم محمد
علي من كون الملكية أول البدع في الإسلام - وكانا لشدة تمسكهما بالسنة يعاديان
كل صاحب بدعة- لعاديا جلالة ملك مصر وجلالة ملك الأفغان أيضًا، ولواليا الإمام
يحيى؛ لأنه لم يلقب بلقب الملك، ومراده ومراد قومه بلقب الإمامة عين ما يريده
الزعيمان من لقب الخلافة، وإذًا يصح ما يقال من أنهما يغريانه بالزحف على
الحجاز وإنقاذه من الملك عبد العزيز؛ لتعميم إمامته وتقرير خلافته، فإن كان
يصدهما عن هذا ما ينتحلان من مذهب السنة وعلمهما أنه هو وقومه على مذهب
الزيدية وأصول المعتزلة فيما يسمونه العدل والتوحيد بالمعنى الذين ينكره عليهم
أهل السنة، فلم لا يعاديانه لأجل بدعتي التشييع والاعتزال، وهما المدعيان القيام
بإقامة السنة وهدم الابتداع.
على أن الزعيمين يطعنان في شخص عبد العزيز آل سعود بما لا علاقة له
بملكه ولا بشكل حكمه، وما أظن الأخ محمد علي نسي يوم وجدته في الصباح
جالسًا في الحرم الشريف مع جماعة وأنا منصرف من طوافي فسلمت عليهم
وجلست إليهم فألفيته يغتاب ابن السعود حتى في شكل لحيته، وما يقال من كثرة
زواجه، فأنكرت عليه ذلك أمام بيت الله تعالى حيث تتضاعف السيئات كما
تتضاعف الحسنات، وما اعتذر به من إخلاصه وحسن نيته وما رددت عليه
بالمعروف واللطف من كون الإخلاص وحسن النية لا يحيلان المعصية طاعة ولا
يبدلان السيئة حسنة، وكونهما سريرة بين العبد وربه لا نعلمهما فتقوم بهما علينا
الحجة.
حينئذ استدل على إخلاصه وإخلاص أخيه باضطهاد حكومتهما البريطانية لهما
واعتقالها إياهما ورفع شعبهما لهما إلى مقام الزعامة، فقلت له: أنا لا أطعن في
إخلاصكما فيما قاومتما به حكومتكما ولا في غيره، لا لما احتججت به عليه بل لأنه
سريرة خفية لا يعلمها إلا الله تعالى، وأما هذه الحجة فهي داحضة عند من يعرف
التاريخ الماضي وأحداث العصر الحاضر، فإننا نعرف في بلادنا أناسًا اعتقلتهم
السلطة الأجنبية بجهل وغباوة منها فصارت العامة تعظمهم وتجلهم وتعدهم من
المجاهدين في سبيل الأمة والوطن، ومنهم من نعرفه معرفة الخبر الطويل بأنه
مادّيّ محض يتجر بالوطن والأمة، ويحتقر الدين والملة، ثم يدعي الزعامة بمثل
هذه الشبهة.
(ثالثًا) إن كانا لا يسعيان إلى غرضهما من تحويل حكومة الحجاز الملكية
إلى الجمهورية كما قالا في الحجاز، أو الخلافة كما قال هو في مصر إلا من
الطرق المشروعة كما ادعى فما بالهما قد بثا الدعوة في الهند إلى ترك إقامة فريضة
الحج ما دام ابن السعود ملكًا في الحجاز، فهل شرع الله لهما أن يهدما الركن
الاجتماعي الديني العام من أركان الإسلام (وهو ركن الحج) لأجل نكاية ابن سعود
وإخضاعه لسياستهما الوهمية؟ ماذا يجيبان الله تعالى يوم القيامة إذا سألهما عمن
أضلا من عوام الهنود فتركوا أداء فريضة الحج مع الاستطاعة حتى ماتوا ثم جاءوا
في ذلك اليوم يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} (الأعراف: ٣٨) .
(رابعًا) أغرب ما جاء في تصريحات الزعيم الهندي قوله: (ولا نعمل كما
يعمل غيرنا؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال) إلخ، ما تقدم،
فأول العبارة صريح في أن الذي يجمع النقود هو الملك ابن السعود، وأن غرضه
منها تقوية دعائم ملكه، وهو غرض شريف وآخرها صريح في كونه لا يعلم أين
تنفق، ولوعلم لضن بها وأنفقها فيما هو خير من ذلك (وهذه شهادة صالحة)
(والفضل ما شهدت به الأعداء) ولكن العبارة تنافي ما قبلها فهي تدل على أن الذي
يجمع النقود المشار إليها غيره، ولعل المراد أنه يجمعها له وباسمه ولكنه لا يوصلها
إليه، ولم يبلغنا أن فردًا من الأفراد ولا جماعة من الجماعات تجمع نقودًا من الهند
ولا من غيرها لملك الحجاز أو باسمه، وإن وجد من يعمل ذلك وصح ما قاله
الزعيم فيهم فإن ذلك لا يعيب جلالة الملك الصالح المصلح الذي علم مئات الألوف
من الحجاج بالمشاهدة وعلم الملايين من الناس بالنقل المتواتر أنه ينفق المال فيما لم
يسبقه إليه أحد من ملوك المسلمين ولا خلفائهم من تسهيل أداء فريضة الحج ومنع
الأذى عن مؤديها، ومنه ما رأوه في الموسم الأخير من تبليط المسعى بين الصفا
والمروة ومنع الرواحل والدواب منه وإراحة الحاج من ذلك الغبار الذي كان يملأ
الأفواه والأنوف حتى يصل إلى الصدور، ومنها المظلات العامة في الحرم الشريف
وفي منى وفي طريق عرفات لوقايتهم من ضربة الشمس التي كان يموت بها في
كل عام عدد كثير، دع الأمن العام الشامل من أول يوم والإسعافات الطبية
والسيارات التى كانت تغدو وتروح بين مكة وعرفات لافتقاد من يعجز عن المشي
أو يصاب بأذًى في الطريق فتحمله إلى مواضع الإسعاف.
ولعل الزعيم لم يجرؤ على التصريح بمن عرَّض به أو بهم في مسألة النقود؛
لئلا يسألوه عن مئات الألوف من الجنيهات التي أخذتها جمعيته من بلاد الهند،
وقيل: إن كذا وكذا منها قد ذهب بإفلاس أمين الصندوق، والباقي علمه عند علام
الغيوب ثم يضربوا له ولهم المثل المشهور (رمتني بدائها وانسلت) .
هذا، وإنه قد ورد النبأ الرسمي من حكومة الحجاز على الوكالة العربية في
مصر بأن خبر المؤامرة على الحكومة الذي بلغته نقابة الصحافة المصرية لم يثبت
وإنما ثبت وجود الخطابات من (شوكت علي) مع الجاسوس عبد الله العسيري،
ويؤخذ من فحوى هذه الخطابات أنها اتخذت ذريعة لابتزاز الأموال.
لو شئت لأحصيت كل دعاوى الزعيم الكبير محمد علي في تصريحه وفندتها
وجنيت على قراء مقالي بتكليفهم قراءتها، وهي لا تعنيهم ولا يعنيهم أمر صاحبها،
وإن كان زعيمًا لبعض الهنود على أنه فَقَدَ جُلَّ زعامته، والباقي منها على شفا جرف
هار، لهذا أكتفي بالمسألتين اللتين تعنيان جماهير المسلمين ومحبي التاريخ الصحيح
من غيرهم، وهما وعد ابن سعود للعالم الإسلامي بعقد مؤتمر يستنير برأيه في أمور
الحجاز، وكتابته لملوك المسلمين ورؤساء حكوماتهم وأشهر جماعاتهم وبعض
علمائهم بذلك، ومسألة رجال قوم ابن السعود وشعبه ومسألة الخلافة وخطل الزعيمين
فيها فأقول:
***
(٢)
حكومة الحجاز وما وعد ابن السعود فيها
قد صرَّح الإمام عبد العزيز آل سعود بقصده وغرضه من الزحف على
الحجاز تصريحات أذاعت بعضها الصحف المصرية وغيرها، أولها ما فاه به في
نجد قبل خروجه منها إلى الحجاز، وخلاصتها أنه يريد تطهيره من إلحاد الظلم
والاستبداد ويؤمنه ويقيم فيه الشرع والعدل مسترشدًا بآراء أهل العلم والرأي في
العالم الإسلامي، وبعد أن التقى في مكة المكرمة بفضيلة الأستاذ المراغي مندوب
جلالة ملك مصر وبسعادة سفير إيران في مصر (اللذين ألما بالحجاز على إثر ما
أذاعه الشريف علي وهو محصور في جدة من هدم الوهابيين لقبة الحجرة النبوية
وهدمهم للمساجد والمشاهد) وما كان من تحاوره مع هذين المندوبين الذكيين اقتنع
بأن ينجز وعده المجمل المشار إليه بصفة تفصيلية رسمية هي أن يدعو أشهر
رؤساء الحكومات الإسلامية المستقلة، وشبه المستقلة وأشهر الجماعات الإسلامية
في الهند وسورية إلى إرسال مندوبين من قبلهن لعقد المؤتمر الإسلامي الموعود به
ثم يدعو بعض أفراد العلماء في البلاد التي ليست فيها حكومات إسلامية ولا جمعيات
مشهورة لذلك.
كتب بذلك إلى أصحاب الجلالة ملك مصر، وإمام اليمن وشاه إيران، وملك
الأفغان، ورئيس جمهورية الترك، وسمو باي تونس، وإلى جماعة علماء الحديث،
وجمعية العلماء، وجمعية الخلافة بالهند، والمجلس الإسلامي الأعلى في القدس
الشريف، وإلى الأستاذ المحدث الشيخ بدر الدين الحسني وإخوانه العلماء في الشام،
كتب لهؤلاء كتابًا بنص واحد نشر في أشهر الجرائد، وكان تاريخه ٨ ربيع
الآخر سنة ١٣٤٤ وأهم ما جاء فيه قوله بعد قصده من جهاده: (إنني والذي نفسي
بيده لم أُرِدْ التسلط على الحجاز ولا تملكه، وإنما الحجاز وديعة في يدي إلى الوقت
الذي يختار الحجازيون واليًا منهم يكون خاضعًا للعالم الإسلامي وتحت إشراف الأمم
الإسلامية والشعوب التي أبدت غِيرة تذكر كالهنود) .
(إن الخطة التي عاهدنا عليها العالم الإسلامي التي لا نزال نحارب من
أجلها مجملة فيما يلي:
١- إن الحجاز للحجازيين من جهة الحكم، وللعالم الإسلامي من جهة الحقوق
التي لهم في هذه البلاد.
٢- سنجري الاستفتاء التام لاختيار حاكم للحجاز تحت إشراف مندوبي العالم
الإسلامي، وسنسلم الوديعة لهذا الحاكم على الأسس الآتية، وذكر خمسة أسس:
(أولها) : كون الحكم بالشريعة المطهرة ومرجع الناس إليها.
(ثانيها) : حكومة الحجاز يجب أن تكون مستقلة في داخليتها، ولكن لا
يصح أن تعلن الحرب على أحد، إلخ.
(ثالثها) : لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات سياسية مع أي دولة كانت.
(رابعها) : لا تعقد اتفاقات اقتصادية مع دولة غير إسلامية.
(خامسها) : تحديد الحدود الحجازية ووضع النظم للحكومة (موكول
للمندوبين المختارين من الأمم الإسلامية وسيحدد عددهم باعتبار المركز الذي تشغله
كل دولة في العالم الإسلامي والعربي، وسيضم لهؤلاء ثلاثة مندوبين من جمعية
الخلافة وجمعية أهل الحديث وجمعية العلماء في الهند، ثم قال: إن هذا ما نواه
وطلب من كل مخاطَب الإسراع بإرسال مندوبيه وإخباره عن الوقت الذي يناسب
عقد المؤتمر فيه، هذا ملخص المهم من الكتاب ومن شاء أن يطلع على نصه كله
فعليه بالمجلد ٢٦ من المنار ص ٥٤.
فالقارئ يرى أن ابن السعود إنما وعد بأن يمنح الحجاز استقلالاً إداريًّا في
داخليته ويقيم فيه واليًا منتخبًا، وقيد فيه هذا الوالي في التصرف الاقتصادي ولم
يجعل له حقًّا في الأمور السياسية ولا العسكرية بل احتفظ بهما لنفسه بالطبع، ولكن
رؤساء الحكومات الإسلامية التي أراد أن تكون مشرفة على اختيار الوالي الإداري
للحجاز وتحد حدوده وتضع للبلاد النظم الداخلية كلها في حدود الشريعة لم يجب
دعوته العاجلة منهم أحد فسقط ما أعطاهم من الحق في ذلك.
فهذه هي الوثيقة الرسمية التي يدندن حولها الزعيمان شوكت علي ومحمد علي
وكذا سفير إيران بمصر كما نشر عنه في الجرائد من قبل قد بلغ الغرور من
الزعيمين الهنديين مبلغًا لا تتطاول إلى مثله أعناق الملوك أولي الجيوش الجرارة
فتوسعا في تفسير هذا الوعد وأباحا لأنفسهما الإسراف في الطعن والزراية على
الملك المصلح العادل التقي الذي عرضت عليه البيعة بالخلافة العظمى فلم يقبلها
تواضعًا وتنصلاً من أعبائها، وما يترتب عليها من الفتن فوصفه الزعيم محمد علي
في تصريحه الأخير بمصر ببعض ما نبذه في خطبه بالهند من ألقاب الكذب
وإخلاف الوعد والحنث بالأيمان.
قال في تصريحه: (لقد رأينا سوء الإدارة الملكية طول مدة حكم الشريف
حسين فقرَّرْنَا تطهير بيت الله الحرام، وكعبة الإسلام، بل وجزيرة العرب من
رجس الاستبداد الملكي بحيث لا نسمح ولا نرضى بوجود ملك أو سلطان هناك،
وقد كان ابن سعود من رأينا وأقرنا على هذه الفكرة ووافقنا على مبدئنا وأعطانا
عهدًا صريحًا ووثيقة كتابية بذلك لا تحتمل التأويل، وكنا نودّ وهو يقول بأنه من
أشد الناس محافظة على سنة الرسول أن يتذكر أنه عليه الصلاة والسلام هو
(الصادق الوعد الأمين وأن يتذكر بأن من أخلاق الإسلام أن المؤمن إذا قال صدق،
وإذا وعد لا يخلف، وإذ حلف لا يحنث) إلخ، فما قيمة هذين الرجلين، وما قيمة
جمعيتهما التي فشلت فيما أنشئت لأجله حتى يدعيان هذا التصرف في جزيرة
العرب.
إن ابن سعود لم يخص محمد علي وشوكت علي بوعد غير ما وعد به العالم
الإسلامي عامة، ومن ذكرنا من رؤساء حكوماته وأشهر جماعاته وهو ما يفهم من
كلام محمد علي هنا بأن لا يكون في جزيرة العرب ملك ولا سلطان، وإنما وعدهم
كما وعد العالم الإسلامي كله بتطهير الحجاز من الظلم والاستبداد وقد وفى بوعده
هذا خير الوفاء، وأما وعده المتعلق بشكل الحكومة الداخلية في الحجاز الذي ذكرنا
نصه الرسمي فلا يصح أن يقال: إنه أخلفه إخلافًا يستحق عليه أمثال هذه المطاعن
وإنما حال دون إنجازه أمران ليسا من سعيه ولا من عمله:
(أحدهما) : ما أشرنا إليه من عدم إجابة رؤساء الحكومات الإسلامية إياه
إلى إرسال مندوبين من قبلهم للتمهيد لذلك الإنجاز بعقد المؤتمر الإسلامي وغيره،
فاضطر إلى عقده بدون تدبير أحد منهم لتقصيرهم لا لتقصيره، وسنذكر ما كان من
أمر من أرسلوا وفودهم إلى المؤتمر وأهمه تهنئتهم لابن السعود بنصبه ملكًا على
الحجاز.
(ثانيهما) : رأي أهل الحجاز أنفسهم، فهم لم يرضوا أن يكون عليهم
مسيطرون من دول أجنبية عنهم المستقل منها مخالف لهم في المذهب كاليمن وإيران
أو في الجنس كالترك والأفغان، وناهيكم بحال الترك بعد انسلاخ دولتهم من دين
الإسلام، وغير المستقل في أموره تحت سيطرة دول الاستعمار الأوربية ولا سيما
الخارجية، وإذا لم يرضوا بسيطرة ولا تدخل من الدول الإسلامية في شؤونهم فعدم
رضاهم بتدخل الشعوب الإسلامية المستذلة لدول الاستعمار كالهند والجاويين
والمغاربة أحق وأولى، وهم - أي أهل الحجاز - معترف لهم من الدول العظمى
بالاستقلال المطلق لذلك بادروا بعد استيلاء الإمام عبد العزيز بن السعود على جميع
الحجاز وتسليم الشريف علي له رسميًّا على مبايعته بشروط تتضمن: التفصي من
كل سيطرة ونص البيعة يدل على ما بيناه من رأيهم آنفًا فلم يسعه إلا قبول بيعتهم،
وإلا كان مستبدًّا فيهم بتحكيم غيرهم في أمورهم، وإنما غرضه الأول إزالة
الاستبداد من الحجاز، فلو أجاب أولئك الملوك والرؤساء دعوته التي سبق
بيانها ورفض ذلك أهل الحجاز لما ساغ له إجبارهم على قبول تلك السيطرة فكيف
وهم لم يجيبوا الدعوة؟ فهل يقال مع هذا: إن ابن السعود وعد بأن يجعل الحجاز
تحت مراقبة العالم الإسلامي ثم أخلف الوعد مختارًا، وكذب متعمدًا؟ كلا إنما تعذر
ذلك عليه من الجانبين جانب الحجاز وجانب الدول والجماعات الإسلامية، وكان
ذلك هو الخير ولله الحمد.
وهذا نص بيعة علماء الحجاز وشرفائهم وممثلي جماعاتهم لابن السعود بعد
البسملة والحمدلة والتصلية (نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن
الفيصل آل السعود على أن تكون ملكًا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وما عليه الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح والأئمة
الأربعة رحمهم الله تعالى، وأن يكون الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين
يقومون بإدارة شؤونه، وأن تكون مكة المكرمة عاصمة الحجاز، والحجاز جميعه
تحت رعاية الله ثم رعايتكم) .
كتب هذا النص أهل الحل والعقد في العاصمة ثم بايعوه به وتلاهم أمثلهم من
سائر الأمصار وتلاهم مشايخ الأعراب ورؤساؤهم، وأنت ترى أنهم بايعوه على ما
كان يبايع به الخلفاء الراشدون، واشترطوا عليه إقامة مذهب أهل السنة ومنهم أئمة
الفقه الأربعة، وأن يكون الحجاز لأهله لما ذكرناه من ملاحظتهم آنفًا.
وإنما سموه ملكًا؛ لأن هذا اللقب له شأن عند الدول الأجنبية التي اعترفت
باستقلالهم المطلق، وهو لقب لا يقتضي الاستبداد والظلم، ولا هو ممقوت عند الله
ولا عند رسوله والمؤمنين فقد كان نبي الله داود، ونبيه سليمان عليهما السلام ملكين،
وقد امتن الله عليهما بذلك بل امتن على قومهما بني إسرائيل بقوله: {اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} (المائدة: ٢٠) الآية، وبهذه
احتججت على محمد علي بمكة المكرمة.
ولقب الخليفة لم يكن بأمر من الله تعالى، ولم يطلقه الصحابة إلا على أبي
بكر وحده لأنه خلف الرسول صلى الله عليه وسلم ولقبوا سائر الراشدين بأمير
المؤمنين، ثم صار المؤرخون يطلقونه على الراشدين من بعدهم وعلى خلفاء
الأمويين والعباسيين.
ومن استقرأ أقوال ابن السعود في شكل حكمه، سواء منها ما نشره في
بلاغاته وخطبه الرسمية وغير الرسمية، وما دار بينه وبين الجماعات أو الأفراد
من أهل الحجاز وغيرهم يراها صريحة في التبرؤ من عظمة الملك وحب العلو في
الأرض، أو تفضيل نفسه على أحد من الخلق، بل هو يتنصل كثيرًا من لقب ملك
وقول: أنا رجل بدوي أو من عامة الناس، ويرى أعماله وأحكامه وشمائله مصدقة
بذلك فهو أبعد من الطبقات الوسطى في الثروة والترف والتنعم في مأكله ومشربه،
والتطرس والتطرز في ملبسه، والإفناق والتورُّن في سائر أحوال معيشته، اللهم
إلا الطيب فإنه يتطيب دائمًا ويفضل عطر الورد على غيره، ويحب النساء
ويكرمهن متأسيًا بالرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في قوله: (حُبِّبَ
إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) رواه الإمام أحمد
والنسائي من حديث أنس، وهو كثير الصلاة، ولا سيما في الليل.
وجملة القول أنه ليس في عبد العزيز بن السعود شيء مما يشكو منه محمد
علي الهندي وبعده من غطرسة الملك وكبريائه - من قول ولا عمل ولا خلق ولا
تحكم ولا تحجب ولا تكبر- بل هو يتحرى سيرة الخلفاء الراشدين بقدر طاقته،
فهل يعذر هو وأخوه وجمعيتهما على عداوته لأجل لقب يزعمون أنه منبع الضلال
والشرور، وإن تحلى به بعض الصالحين والأنبياء المرسلين؟
كلا إن الرجلين ليسا من البلادة والجهل بحيث يعتقدان أن للألقاب هذا الشأن
والتأثير بل يغالطان ويسفسطان كما هو شأن أمثالهما من أهل النزعات السياسة،
وإنما كانا يسعيان لأمر لهما فيه هوًى شخصي، وهو جعل الحجاز جمهورية يدير
أمرها مجلس إسلامي مؤلف من جميع الشعوب الإسلامية لكل شعب فيه من
الأعضاء بنسبة عدده، فإذا كل لكل مليونيين فما دونهما من كل شعب مندوب أو
عضو في هذا المجلس كما نقل لي عنهما، وليكن مثلا يكون لنجد عضو واحد
وللحجاز عضو واحد، ولمصر سبعة أعضاء؛ لأن أهلها ١٤ مليونا؛ وأما الهند
فيكون لمسلميها ٣٥ عضوًا؛ لأنهم يبلغون ٧٠ مليونا؛ وعلى هذا يكون لهم الرأي
الغالب في أنفسهم، فكيف إذا أمكنهم استمالة بعض الأعضاء من الشعوب الأخرى
والاتفاق معهم؟
وقد بينا في هذا المقال ضعف هذا الرأي وأفن العقل الذي يتخيله، وما لأهل
الحجاز من العذر في عدم قبوله، وإن ابن السعود لم يَعِدْ بهذا وإنما أشار في خطابه
لرؤساء الحكومات الإسلامية بأن المندوبين في المجلس الإسلامي الذي يحدد الحدود
الحجازية ويضع النظم المالية والإدارية للحجاز (سيحدد عددهم باعتبار المركز
الذي تشغله كل دولة في العالم الإسلامي والعربي) إلخ، ما تقدم آنفًا، ومنه أنه لم
يعط الهند إلا ثلاثة أعضاء لجمعية الخلافة واحد منهم.
وقلنا فيه أيضًا: إن رؤساء هذه الدول لم يقبلوا الدعوة لإنجاز هذا الوعد
ونزيد عليه أنه لما عقد ملك الحجاز المؤتمر الإسلامي العام حضر مندوبون من قبل
إمام اليمن ورئيس جمهورية الترك وملك الأفغان دون غيرهم، وقد جاءت هذه
الهنود مهنئة لجلالة الملك عبد العزيز وراغبة في شد أواخي المودة والصداقة معه،
ولم يتعرض أحد منهم للاعتراض على ملكيته.
وإنني لما اقترحت في المؤتمر الاحتجاج على إلحاق منطقة عقبة ومعان
بحكومة شرق الأردن التي جعلتها الدولة البريطاني تحت سيطرتها، وهي منطقة
حجازية وتقرير طلب إعادتها إلى الحجاز كان مندوبا الحكومة المصرية قد حضرا
المؤتمر متأخرين فانسلا من الجلسة بحجة أنهما غير مفوضين بالتدخل في أمور
الحجاز السياسية تبعهما مندوب اليمن ومندوب الأفغان لهذه الحجة، ومعلوم أن هذه
المسألة تتعلق بحدود الحجاز التي وعد ابن السعود بجعلها من خصائص مندوبي
الدول الإسلامية.
ثم إن جلالة ملك الحجاز قد أرسل إلى المؤتمر بيانًا بخطته في حكومة الحجاز
ليبدي رأيه فيه فقرأه الرئيس وطلب من الأعضاء إبداء رأيهم فيه فقلت: إنني لا
أرى حاجة للمناقشة فيه، فهذه الخطة صارت معلومة لنا إلخ، فلم ألق معارضة
تذكر في هذا الرأي، بل كان مقبولاً من المؤتمر وتقرر عدم المناقشة فيه.
هذا وإن تفصيل هذه المسائل سيجده محبو الاطلاع عليه في رحلتي الحجازية
الأخيرة إذا يسر الله طبعها، وخلاصة القول: أن الزعيمين الهنديين كانا شاذين في
مكة المكرمة وكان شذوذهما وتهورهما مدعاة الاستغراب من مندوبي جميع الشعوب
وتعجب العقلاء كيف صار هذان الرجلان زعيمين سياسيين في الهند ولا عجب فإن
التهور في الجرأة والشذوذ في القول والعمل أعظم مجلبة للعوام.
ولم نسمع من الزعيمين المكرمين في مكة كلمة في طلب إحياء الخلافة
الإسلامية في الحجاز ولا في غيره، وإنما هذه نبأة جديدة صاح بها محمد علي في
مصر، ويرى القراء في آخر هذا المقال ما يهمهم من أمرها مختصرًا مفيدًا.
***
(٣)
رجال ابن السعود وشعبه
لخص الزعيم المذكور ما بسطه من أسباب عداوتهم لابن السعود بقول:
(ومما تقدم تبين أننا نخالف ابن السعود لسببين: (الأول) تمسكه بالملك وعدم وفائه
بالعهد الذي تعهده لنا (الثاني) أن تمسكه بالملك يجعله في حاجة إلى من يعتز به
في ملكه، فهو يعتز برجاله ورجاله جهلاء، ونشهد أنهم مخلصون للدين إخلاصًا
أعمى، وعيبهم جهلهم، أما ابن السعود، فنشهد أنه لم يكن جاهلاً، ويعرف أن
الحق معنا، وأن الدعوة إلى الخير لا تكون إلا بالتي هي أحسن، ولكنه لم يستطع
مقاومة جهل رجاله، وإلا خرجوا من يده ولم يبق له من يستعين به على الاحتفاظ
بالملك غيرهم، فلهذا تراه يغمض العين على القذى) اهـ.
يعني الزعيم برجال ابن السعود شعبه من أهل نجد، وغير نجد من البلاد
التي تدين لسلطانه، وهم الذين اشتهروا بلقب الوهابية، ويعني بجهلهم عدم
وقوفهم على أمر السياسة وآداب الحضارة والعمران، وشدتهم في الدعوة والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، هو يشهد لهم بالإخلاص للدين وسمى إخلاصهم
أعمى؛ لأنهم لا يراعون فيه أساليب الدعاية وآداب الحضارة وعلومها العصرية فيها
ويشهد لسلطانهم ابن السعود بأنه ليس بجاهل مثلهم، ولكنه مضطر إلى الإغضاء
عن جهلهم وعدم التصدي لمقاومة هذه الجهل؛ لئلا يخرجوا عليه فلا يبقى له قوة
يحافظ بها على ملكه، وجناب الزعيم السياسي اللائم المليم يصرح بأن محافظة ابن
السعود على رجاله هؤلاء وإغماض عينه على قذى جهلهم هو السبب الثاني
لعداوتهم له ومقاومتهم إياه، وقد تلطف هنا فسمى ذلك مخالفة ونتيجة هذه المقدمات
أن عداوتهم أو مخالفتهم له لا تزول إلا إذا ترك ملك الحجاز أولا وقاوم قومه حتى
يلجئهم إلى الخروج عليه ترك طاعته وإسقاط حكمه ثانيًا.
فأي عادل أو عاقل بريء من الهوى يوافق جناب الزعيم ويخطئ ابن السعود؛
لأنه لا يوافقه ويوافق أخاه شوكت علي في الأمرين كليهما، والسعي معهما لإقامة
جمهورية في مكة تكون تحت سيطرة جميع الشعوب الإسلامية على فرض أن هذا
صواب في نفسه، وما هو إلا خطأ لا يحتمل الصواب؟ بل أي عاقل يتوقف في
الحكم بالهوس والجنون على رجلين يطالبان ملكًا من الملوك بخلع نفسه من الملك
والانسلاخ من إمامة شعب قوي يطيعه طاعة دينية مكنته من تأسيس سلطنة عظيمة
أقام فيها العدل ونشر الإصلاح والتعليم والتحضير للبدو وحفظ الأمن في بدوها
وحضرها حفظًا لا يوجد له نظير في مملكة من الممالك حتى الأوربية والأمريكانية،
ويتوقع لها جميع العارفين بحالها في الشرق والغرب مستقبلاً عظيمًا إذا أطال الله في
عمره حتى يتمكن من تنفيذ مقاصده، ويعللان طلبهما بأنهما على حق فيما يقترحان
عليه ترك ملكه وقومه لأجله واتباعهما فيه؟ وأي عاقل يصدق هذا الزعيم اللائم المليم
أن ابن السعود يعتقد أنهما على حق فيما ذكر ويوافقه على أن جريمته الموبقة هي
الحرص على ملكه الباطل والمحافظة على شبعه الجاهل: وإيثارهما على خيال محمد
علي العالم الفاضل؛ لأن متخرج في مدرسة إكسفورد البريطانية؛ ولأن له جمعية
سياسية خيالية جعلته هو وأخاه زعيمين لها؟ صدق الله العظيم في قوله: {وَلاَ
تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: ٢٦) وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: ٢٣) .
أما والله لولا اتباع الهوى والغرور بالزعامة لما صدر مثل هذه الكلام عن مثل
(مولاي محمد علي الزعيم الكبير) فالرجل لوذعي الذكاء متخرج من أعلى
المدارس الإنكليزية ولكنه عصبي المزاج حديده إذا غضب وغلب عليه الهوى لا
يدري ما يقول، في طلاقة لسان، وجرأة جنان، وزهو بالزعامة، وتعود على
تصفيق عوام الهنود له في كل ما يقول، ومنه كما نقل إلينا أنه قال في جماعة منهم
(إنه لا تأتي سنة ١٩٢٧ أو ١٩٢٨ (الشك مني) إلا وقد خرج الإنكليز من الهند)
فصفقوا له تصفيقا.
لو كان الرجل مخلصًا للإسلام والمسلمين في مساعيه السياسية لعد وجود
الشعب النجدي على الحال التي يعرفها ونعرفها من أعظم نعم الله على هذه الملة في
هذا العصر، وأعظم أسباب الرجاء في تجديد مجد الإسلام، وإقامة شرعه الذي
هدمته حكومات الحضارة الإسلامية الناقصة في كل مكان، كان شرهم في ذلك
الترك الذين لم يشتهر محمد علي وشوكت علي في الهند وغيرها إلا بتصديهما
لتعزيز خلافتهم الوهمية الباطلة، وإن كان لهما عذر سياسي في هذا لأن الدولة
العثمانية كانت سياجًا للمسلمين في الجملة كما كان يقول الأستاذ الإمام.
الشعب النجدي أو الوهابيون هم أصح الشعوب الإسلامية عقيدة وأقواها إيمانًا
فإن آية الإيمان الكبرى هي بذل المال والنفس في سبيل الله وهم كذلك، ويظهر أثر
إيمانهم في أعمالهم فكلهم يؤدون جميع الفرائض من صلاة وزكاة وصيام وحج
وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن منكر، حتى إنه ليقل فيهم من تفوته صلاة
الجماعة حيث تقام بغير عذر شرعي، وهم أصدق الناس حديثًا وأشهم أمانة قد تمر
السنين، ولا يتهم أحد منهم بخيانة أو عدوان على غيره، وأما شدتهم في الدعوة
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي موجهة في الغالب إلى البدو وهي لائقة
بهم لخشونتهم.
وكلهم طائعون لإمامهم وسلطانهم في المنشط والمكره فإذا دعاهم إلى النفير
العالم أو الخاص نفروا خفافًا وثقالاً لا يكلفونه مالاً ولا وسلاحًا إلا من حاجة فهم على
سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم بقدر علمهم
ومعرفتهم، وهم من جراء ذلك يقبلون كل علم وعمل يوافق الشرع ويردون كل ما
خالفه، فإذا تيسر تعليمهم كل ما ترتقي به الأمم في الحضارة من طريق الشرع
قبلوه (ومنه أساليب الدعوة والإرشاد في الأمصار) وإمامهم ابن السعود يعلم هذا
وينوي تنفيذه، وكل ذلك يتوقف على كثرة المال ومساعدة الزمن، والزعيم اللائم
المليم يعلم كل هذا، ولكنه يريد أن يكون ابن السعود تابعًا لهواه؛ لأنه كان ناصرا
له بجمعيته على الشريف حسين.
***
(٤)
مسألة الخلافة
إذا أطلق المسلمون كلمة الخلافة فإنما يعنون بها الحكم الإسلامي الصحيح
الذي كان الخلفاء الراشدون أكمل مثال له، وحكم الخلفاء الراشدين قد اشتهر في
العالم الإنساني لا الإسلامي وحده بأنه أكمل حكم أقام العدل المطلق بلا أدنى محاباة
لأحد من البشر لأجل دينه أو نسبه أو قوته أو غناه أو فقره أو قرابته أو عداوته أو
صداقته كما أمر الله تعالى في كتابه العزيز بالنصر الصريح، وأنه أكمل مثال لما
يسمونه في هذا العصر (بالديمقراطية) أي حكم الشعب، وقد شهد بذلك العارفون
المنصفون من غير المسلمين، وإن تخبط في فهمها ومعرفة قيمتها علي أفندي عبد
الرازق وأمثاله من الهادمين لمجد الإسلام الذين يلقبون أنفسهم بالمجددين.
كل مسلم صادق الإيمان بما جاء به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم
يتمنى لو يعود للمسلمين حكم الخلافة هذا، وكل من وقف حق الوقوف على حكم
عبد العزيز بن السعود في بلاده ثم في الحجاز، وإن لم يتم له فيه ما تم له في نجد
يعلم - وإن منعه الهوى أن يشهد بما يعلم- أنه هو النواة الوحيدة لإعادة حكم
الراشدين ومجد الإسلام الذي أسسوه إذا أتيحت له الأسباب والمساعدة من المسلمين،
ومحمد علي وشوكت علي من أعلم الناس بهذا الأمر ولكنهما يدعيان أنهما
سيقيمان حكم الخلافة بإقناع جميع الشعوب الإسلامية به، وإن من المقدمات لإقامتها
هدم قوة ابن السعود التي هي القوة الإسلامية الوحيدة القائمة على أساس الدين.
لا أستثني من هذا العموم حكومة الإمام يحيى في اليمن فإن قومه الزيدية الذين
هم دعامة حكمه وأصل عصبيته لا يقاتلون إلا في مقابلة جُعْل مالي يتقاضونه منه،
وقد كان كثير منهم يقاتلون جيشه تحت لواء عدوه السيد الإدريسي؛ لأنه يعطيهم
من الدراهم ما لا يعطيهم الإمام يحيى، وأما غير الزيدية وهم الشافعية الذين يؤلفون
السواد الأعظم في اليمن فهم لا يقاتلون معه لإمامته بل كثيرًا ما يقاتلونه، وسبب
خضوع أولي القوة والعصبية منهم له وجود رهائن من أبناء سادتهم وزعمائهم عنده
يهدد من عصاه بالفتك بهم، ولعله لا يوجد في بلاد نجد وملحقاتها رجل واحد لا
يطيع الإمام عبد العزيز بوازع العقيدة الدينية.
أفيعقل مع هذا أحد من البشر أن الوسيلة الوحيدة لإحياء حكم الخلافة هدم
سلطان هذا الإمام بحجة أن أهل الحجاز سموه ملكًا وإن اشترطوا عليه مع هذا
اللقب أن يكون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلخ، ما تقدم في
نص بيعته.
وأما سائر الشعوب الإسلامية فأمر حكوماتها من حيث القرب أو البعد من حكم
الخلافة معلوم: الترك نبذوا الخلافة والشرع الإسلامي برمته من حكومتهم،
وشرعت جمهوريتهم التي يقدس نوع حكمها (أي الجمهورية) محمد علي وشوكت
علي في تغيير دين الشعب نفسه، فبدأت بإباحة الردة عن الإسلام وكثير من
المحرمات التي يعد الإسلام استحلالها كفرًا، ثم ألغوا من قانونهم المادة القائلة: إن
دين الدولة هو الإسلام فتركوا مخادعة الشعب باسمه بعد ما خضع صاغرًا لترك
شرعه، ولبس البرنيطة كارهًا؛ لأنها شعار غير أهله، والآن نسمع نبأة جديدة
عنهم في تغيير الصلاة بجعلها كصلاة البروتستانت وغيرهم من النصارى بأن
يجلس المصلون على كراسي يسمعون المعازف وآلات الطرب في المساجد إلخ [١]
وملك الأفغان قد شرع في الاقتداء بهم في التفرنج والاستعانة برجالهم على إدارة
جيشه وملكه وبالإفرنج أيضًا، ومصر التي هي أجدر بلاد الحضارة الإسلامية
بالحكم الإسلامي وإعادة الخلافة قد اقتبست القوانين الإفرنجية للأمور المدنية
والعقوبات وأحلتها محل الشريعة ثم وضعت أساس حكومتها على قوانين أوربة
النيابية، ولما قام كبار علماء الأزهر ومَنْ وافقهم من سائر طبقات الشعب منذ سنتين
بالدعوة إلى عقد مؤتمر للبحث في شئون الخلافة وإقامة خليفة للمسلمين كانت
الحكومة المصرية ومعظم نوابها المنوط بهم أمر التشريع ضدًّا على جمعية الخلافة،
وكانت أكثر الجرائد التي تسمى إسلامية تهزأ بهم وتسخر منهم وتصد عنهم، ثم قامت
قيامتها وقيامة مجلس النواب على وزارة الأوقاف؛ لأنها أجابت دعوة الأستاذ الأكبر
شيخ الجامع الأزهر إلى صرف مبلغ حقير من الأوقاف الخيرية باسم المعاهد الدينية
صرفه على السعي لعقد مؤتمر الخلافة، ثم عقد المؤتمر، ولم ينته إلا بالخيبة
والفشل، وأما حكومة إيران فهي أبعد حكومات الشعوب الإسلامية عن إحياء حكومة
الخلافة التي يدّعي الزعيمان الدعوة إليها؛ لأنها حكومة شعب شيعي يدين الله تعالى
ببطلان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ... ويعتقد أن الحكم الإسلامي الحق لن يقوم في
الأرض إلا بظهور الإمام المهدي المنتظر الذي هو محمد بن الحسن العسكري الذي
دخل السرداب في (سُر من رأى) التي تسمى الآن (سامرا) منذ أحد عشر قرنًا،
وينتظرون خروجه منه كل يوم.
هذا حال الشعوب الإسلامية المستقلة، على ما في استقلال مصر من قيود
وسيطرة احتلال أجنبي، ومن المعلوم أن سائر المسلمين خاضعون لدول أوربة.
فاسمع بعد تذكر هذا ما صرح به الزعيم محمد علي الهندي لجريدة الأخبار
عن خطة جمعيته في إعادة الخلافة:
قال: (واعتقادنا الراسخ أننا سنعمل إن شاء الله إلى اليوم الذي تجتمع فيه
كلمة الأمم الإسلامية ملوكية كانت أو غير ملوكية فتنفرد كل أمة بشئونها الداخلية
حسبما يتفق مع عوائدها وطباعها وما يتفق مع مصالحها وإدارة شئونها.
(وأما الشئون الخارجية فيجب على المسلمين جميعًا أن يكون (أمرهم
شورى بينهم) وبذلك ترى المسلمين جميعًا في المستوى اللائق بهم) يعني وإن هذا
لا يتم إلا بإعادة حكم الخلافة أي الرجوع إلى أحكام كتاب الله كما قال: والمراد إذًا
أن تكون السياسة الخارجية لجميع الأمم الإسلامية وحكوماتها على اختلاف أنواعها
تحت إدارة الخليفة الأعظم القائمة على أساس الشورى في مجلس مؤلف من جميع
تلك الأمم ليتفق سابق كلامه مع لاحقه.
على أنه ذكر بعد هذا أن أهل الهند ساخطون على ابن السعود لتدمير رجاله
الجاهلين لآثار النبي صلى الله عليه وسلم والعِترة والصحابة رضي الله عنهم، ثم
قال: (وكل مهمتنا أننا نواجه تيار هذا السخط والغضب إلى تحقيق غايتنا السامية
التي نعتقد بحق أنها لخير الإسلام والمسلمين، فما علينا إلا إحياء الهمم وتوجيه
القلوب وتحويل الأنظار إلى وجوب إعادة عهد أبي بكر وعمر) اهـ بنصه.
أما قوله: إن رجال ابن السعود ذمروا آثار النبي صلى الله عليه وسلم وآثار
عِترته وأصحابه فهو كذب وبهتان دليله أن هؤلاء ليس لهم آثار مبنية تدمر وإنما
دمر القوم بعض مشاهد القبور المشيدة المزينة على خلاف ما ثبت في الأحاديث
الصحيحة من النهي عن ذلك ولعن فاعليه، والأمر بهدمه وتسويته بالتراب كما بيناه
مرارًا.
وقوله: إن مسلمي الهند ساخطون على ابن السعود باطل على إطلاقه فخيار
مسلمي الهند من علماء الحديث وأنصار السنة ومن العقلاء والسياسيين راضون
عن ابن السعود ومؤيدون له، وإنما الساخط عليه الشيعة وخرافيو أهل الطرق
المبتدعة.
وهب أن قوله صحيح فهل يتجرأ عاقل على القول بأن سخط الهنود على ابن
السعود هو الوسيلة الوحيدة لإعادة حكم أبي بكر وعمر؟
فخلاصة ما قاله الزعيم محمد علي أنه يعتقد أن سعيه وسعي جمعيته سينتهي
بإقناع جميع الأمم والدول الإسلامية بأن تكون كل دولة من دولها مستقلة في إدارتها
الداخلية، وأن تكون سياستها العامة وعلاقاتها الخارجية مع الدول تابعة لخليفة واحد
يكون في الحجاز، وأن الوسيلة الموصلة إلى هذا الإقناع هي سخط بعض عوام
الهنود أو كلهم على ابن السعود؟ وهل يروج هذا الهوس إلا عند عوام الهنود؟
فالمعقول الذي لا يُعْقَل غيره أن تكون خطة محمد علي جمع أموال عظيمة من
الهند تقبضها جمعية الخلافة؛ لتزيل بها حكم ابن السعود من الحجاز وتضع بدله
حكم خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم يكون مآل هذه الأموال كمآل الأموال
التي جمعت من قبل لإحياء خلافة الترك.
وقد وجدت جمعية في ألمانية لمثل هذه الغاية أحسن نظامًا من جمعية الخلافة
الهندية، وهي تدعو الناس إلى دفع زكاة أموالهم إلى فروعها لأجل هذه الغاية.
ومن المسلمين من يرون في الخلافة آراء أخرى بعيدة عن الشرع والعقل.
ونحن قد سبقنا إلى وضع أصول النظام لإعادة الخلافة في كتابنا الذي أفردناه
لهذه المسألة (كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى) .
والحق المعقول أن العالم الإسلامي غير مستعد الآن إلى تمحيص هذه المسألة
وتنفيذ الواجب، وأن خير الوسائل لها ما اقترحناه كتابة على المؤتمر الذي أقيم
بمصر فلم يعرضه السكرتير العام عليه، وقد نشرناه في المنار، وفي بعض
الصحف المصرية {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: ٩) اهـ الرد.
(المنار)
كتبنا هذا المقال في ثلاثة فصول أرسلناها إلى جريدة الأخبار الغراء التي
نشرت تصريحات الزعيم محمد علي الهندي فنشرتها وكنا نرسل المسودة قبل أن
نقرأها لالتياث صحتها، وبعد إتمام نشرها فيها أودعناها في المنار بعد شيء من
التنقيح والتصحيح؛ لأننا قرأناها بعد ذلك مجتمعة وكان كل فصل ينشر قبل كتابة
ما بعده.