للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شرومف بييرون


مضار المشروبات الروحية في البلدان الحارة
بقلم الأستاذ الدكتور شرومف بييرون

يظهر أن العادة التي جرى عليها كثيرون من الأوربيين المتوطنين في البلدان
الحارة من شرب المشروبات الروحية آخذة في التناقص لحسن الحظ، وقد نشأت
هذه العادة السيئة التى سأبين مضارها هنا من مبدأ باطل، ولكنه شائع وهو أن
المشروبات الروحية خير ذريعة لمكافحة تأثيرات الحرارة المضعفة للدم والمنهكة
للجسم من جهة؛ ولتوقي أمراض البلدان الحارة من جهة أخرى.
ولقد كان أطباء جيوش المستعمرات أول من انبرى لبيان ما للمشروبات
الروحية من المضار الوبيلة في البلدان الحارة بقوة ما اكتسبوه من الخبرة ثم جاهدوا
حتى وصلوا شيئًا فشيئًا في معظم البلدان إلى إبطال عادة إعطاء الجنود في
المستعمرات جراية يومية من تلك المشروبات كالكونياك والوسكي والروم.
وهنا نقتبس بعض أقوال الخبيرين في هذا الشأن قال هنت وكني في سنة
١٨٨٢: (لقد اتفق جميع الثقات على أنه كلما قلل الأشخاص الذين يقطنون في
الأقاليم الحارة من شرب المشروبات الروحية سهل عليهم احتمال جوها. وكتب
السير ل. روجرس - وهو أعظم الأطباء الذين يُعَوَّل على رأيهم في الهند في سنة
١٩١٥ يقول: كان معظم الأطباء من عشرين سنة يعدون شرب المشروبات الروحية
ضروريًّا للذين يقطنون في البلدان الحارة، وأما اليوم فلا يوجد طبيب ذو مقام يجسر
على إعلان هذا الرأي) .
ومن المعلوم أن حبوط المشروع الأول لقنال بناما يرجع إلى كثرة عدد الذين
كانوا يموتون من العمال سواء من الإصابة بحمى الملاريا أو من المشروبات
الروحية فلما أبيد البعوض وحرم تعاطي المشروبات الروحية في منطقة العمل
تحريمًا قاطعًا تيسر نجاح المشروع الثاني، وفي ذلك الحين كتب الدكتور غورغاس
كبير أطباء منطقة القنال يقول: كان الأوربيون في الماضي يصابون بالأمراض
ويموتون في جهاتنا هذه؛ وأما اليوم فإنهم يعيشون فيها ويشتغلون كما يعيشون
ويشتغلون في جهات العالم الأخرى.
ولنذكر الآن أهم الأمراض التى يصاب بها الأوربيون العائشون في البلدان
الحارة ويرجع سببها إلى المشروبات الروحية.
أولاً: يؤخذ من جميع الإحصاءات الطبية في المستعمرات أن إصابات الرعن
التى حدثت في جيوش الميدان لم تكد تصب [١] إلا الجنود الذين شربوا مشروبات
روحية، ولو بمقادير يسيرة بدعوى أنهم يريدون الحصول على القوة، وقد كتب
السر فكتور هورسلي في هذا الصدد يقول: (إن المرء لترتعد فرائصه حين يذكر
أن ألوفًا من النفوس أزهقت وحل بها الفناء بسبب فكرة باطلة، وهي أنه يجب أن
يتناول الجنود المشروبات الروحية قبل الزحف في البلدان الحارة) .
ثانيًا: من الحقائق المُسَلَّم بها أن حوادث النزيف المخي تحدث بنوع خاص
على أثر تعاطي جرعات ولو صغيرة من المشروبات الروحية؛ وذلك لأن هذه
المشروبات تحدث تمددًا في الشرايين وتصعد الدم إلى الرأس.
ثالثًا: لوحظ دائمًا أن إصابات الأوربيين القاطنين في الأقاليم الحارة بأمراض
الكبد والكلى كثيرة، وكانوا إلى بضع سنوات مضت ينسبون ذلك إلى تأثير الجو،
أما اليوم فقد اقتنعوا بأن الأوربيين الذين يعيشون في أشد الأجواء حرارة ولا
يذوقون المشروبات الروحية لا تظهر فيهم أمراض الكبد والكلى التى كانوا قبلاً
ينسبونها إلى الحرارة، وهي ليست ناشئة على ما يظهر إلا من تأثير المشروبات
الروحية، بل إنهم أثبتوا علاوة على ذلك أن بعض أمراض الكبد الطفيلية
كالخراجات الديسنطارية مثلا تشاهد خصوصًا عند الأشخاص الذين يشربون
المشروبات الروحية، وقد كتب روجرس يقول: (إن ٧٠ في المئة على الأقل من
المصابين بخراجات الكبد في الهند هم من شريبي المشروبات الروحية والجانب
الأكبر من هؤلاء المرضى أوروبيون، أما الوطنيون فإن هذا المرض يكاد يكون
غير معروف عند نسائهم اللائي لا يشربن المشروبات الروحية؛ ولهذا السبب عينه
ترى الإصابات بخراجات الكبد تزداد مع ازدياد تعاطي المشروبات الروحية ومع
ذلك فإنك تجد الأوربيين والوطنيين يصابون على السواء بالديسنطاريا) .
رابعًا: إن المشروبات الروحية ولو تُعُوطِيَتْ بانتظام بمقادير صغيرة تضعف
في الجسم قوة المقاومة لجميع الأمراض المعدية وخصوصًا في البلدان الحارة؛
سواء كانت هذه الأمراض هي ذات الرئة أو حمى التفوئيد أو الديسنطاريا أو
الملاريا أو السل الرئوي أو الزهري أو الكوليرا أو غير ذلك، وفي كل هذه
الأمراض نجد أن الذي يمتنع امتناعًا تامًّا عن شرب المشروبات الروحية هو الذي
يقاوم العدوى أكثر من غيره، ويشفى في أسرع وقت وتقل عنده المضاعفات
والتعرض للموت، وهذه حقيقة أيدتها تمام التأييد جميع الإحصاءات العسكرية
والمدنية.
وموجز القول أن الرأي الذي انعقد عليه إجماع الثقات الطيبين الذين أقاموا في
البلدان الحارة هو أن الأوربي الذي يروم أن يتحمل جو تلك البلدان يتعين عليه أن
يمتنع عن شرب كل نوع من أنواع المشروبات الروحية أو أن لا يشرب منها إلا
مقادير يسيرة جدًّا في أحوال استثنائية.
فلننظر الآن في مبلغ تأثير المشروبات الروحية في الشرقيين عامة وفي
المصريين خاصة: إن جميع الأطباء الذين مارسوا صناعتهم في البلدان الحارة
يدهشهم ما يرونه في العربي المسلم وفي المسلم عامة أيًّا كان الجنس الذي ينتمي
إليه من قوة المقاومة لأكثر الأمراض التي تصيبه ففي مصر تجد عند الفلاح قوة
مقاومة مدهشة إذا قيست بمثلها عند الأوربيين لجميع الأمراض المعدية ولا سيما
للسل الرئوي والسرطان ولما ينشئه الزهري من المضاعفات العصبية والقلبية
وللحميات المختلفة التى تحدث في البلدان الحارة وللالتهابات التى تحصل بسبب
النفاس والعلميات الجراحية إلى غير ذلك.
وقد لبث معظم المؤلفين طويلاً يحاولون تفسير قوة المقاومة هذه فعزَوْهَا إلى
خصائص قالوا: إنها اختصت بها بعض الأجناس أو إلى فعل الجو أو غير ذلك من
الأسباب، ولكن علماء هذا العصر الذين درسوا تحول الأمراض في الشرق بوجه
عام في البلدان التى أكثرية سكانها من المسلمين مجمعون رأيًا على أن سببها
الرئيسي هو نهي الدين الإسلامي للمسلمين عن شرب المشروبات الروحية، وإذا
وجد في البلدان المسيحية من يخامره شك في خطر النتائج التى تنشأ من تعاطي
المشروبات الروحية فما عليه إلا أن يذهب بنفسه إلى البلدان الإسلامية ليقتنع بذلك؛
لأنه حالما يبدأ المسلم الشرقي بشرب المشروبات الروحية تأخذ قوة مقاومته
للأمراض تنقص تدريجيًّا، فلذلك يسهل فهم الضربة التى جاءت مع الحضارة التي
يسمونها (الحضارة الأوربية) .
ولا نزاع في أن الشرق أقل احتمالاً لنتائج المشروبات الروحية من الأوربي،
فإن تاثير هذه المشروبات في البلدان الحارة أبلغ ضررًا منه في البلدان الباردة
للأسباب التى قدمناها، والرياضة البدنية تضعف ولو إلى حد ما تأثير شرب
المشروبات الروحية، وهذا يفسر استطاعة العمال في الأعمال اليدوية والذين
يلعبون الألعاب الرياضية تعاطي المشروبات الروحية وفي أحوال كثيرة لمدة طويلة
من غير أن يظهر عليهم آثار مضارها، وهذا الرياضة قليلة في الشرق ولا سيما
في المدن بسبب أحوال المعيشة والحر، ويجب أن لا يغيب عن البال أيضا أن
الأوربيين يشربون المشروبات الروحية من قرون، والراجح أن ذلك أنشأ فيهم على
مر الأجيال نوعًا من العادة أو من المناعة النسبية بإزائها، وهذه الظاهرة قد توضح
علة ما يرى في بعض بلدان أوربا كنورمنديا وبافاريا واسكتلندا وغيرها من أن
سكانها يمكنهم احتمال جرعات كبيرة من المشروبات الروحية، ومع ذلك فإن سن
قوانين ضد المشروبات الروحية في أسوج وهي بلاد باردة وجبلية، وكان سكانها
المولعون بالألعاب الرياضية يشربون مقادير كبيرة من هذه المشربات قد أدى إلى
تحسن الصحة العمومية فيها تحسنًا كبيرًا مما دل على أن المناعة من مضار
المشروبات الروحية ضعيفة جدًّا، على أن هذه المناعة إذا صح أنها توجد غير
موجودة عند المسلمين الذين لم يكن أسلافهم يتناولون الأشربة الروحية.
ومن أعظم قوى الإسلام نهي الشريعة الإسلامية عن تعاطي المشروبات
الروحية، وفي كل بلد دخله الإسلام كإفريقية الوسطى والهند مثلاً أنقذ الشعوب التى
اعتنقته من شر آفة الخمر التى جلبتها أوربا وحفظها من التدهور التام، ولهذا
السبب نرى فرنسا في إدارة مستعمراتها تشجع ما أمكن على نشر الدين الإسلامي
في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها.
ففي الوقت الذي نرى فيه أوربا وأمريكا تكافحان المشروبات الروحية
وتعانيان في ذلك ما تعانيان حتى فرضت الولايات المتحدة الأميركية على رعاياها
شريعة مدنية تضارع في شدتها شريعة النبي محمد الدينية يحسن بأهل البلدان
الإسلامية أن يدركوا جيدًا ما لشريعة نبيهم هذه من عظم الأهمية من الوجهات
الاجتماعية والأدبية والصحية غير أن كثيرين من المسلمين قد تعلموا شرب
المشروبات الروحية لسوء الحظ فبات متعينًا على أولي الحل والعقد في هذه البلدان
ولا سيما مصر أن يتخذوا التدابير الضرورية لمنع استفحال هذا الشر، فإن
مستقبلها يتوقف على ذلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المقطم
(المنار)
ليعتبر هؤلاء الفاسقون المتفرنجون من أغنياء المسلمين ومقلدوهم من سائر
الطبقات بكلام هذا الطبيب الحكيم من كبار علماء الإنكليز ونصحه لهم بترك شرب
الخمور اتباعًا لهداية دينهم الذي يحرمها عليهم إلا لمضارها الكثيرة التى بين بعضها
هذا الطبيب الناصح، ولا سيما في البلاد الحارة كمصر، وأما استصراخه لأولي
الحل والعقد باتخاذ التدابير لمنع استفحال هذا الشر فنخشى أن يكون صرخة في واد؛
لأن الكثيرين منهم سكيرون وقدوة سيئة لغيرهم، وقلما يوجد في الآخرين المسلم
الناصح الذي يهتم بأمر أمته في مثل هذه الأمور مهما تكن في نفسها مهمة.
ومن المصائب أن هؤلاء الفجرة صاروا يفتخرون بشرب الخمر وتعويد
نسائهم وأولادهم عليها؛ لأنها عندهم من آيات المدنية العصرية، كما أشار إليه
الطبيب ويحتقرون من لا يشرب بأنه رجعي على الطرز القديم البالي، وقد سبقهم
الترك إلى هذا الصغار في التقليد الفردي فآل بهم إلى ما نرى من الكفر والضلال:
زار رجل من طرابلس منذ خمس وثلاثين سنة رجلاً من كبارهم في الآستانة معروفًا
بالوقار والدين فرأى في حديقة داره ولده يتحاسى مع بعض بنات الأرمن كؤوس
الجعة (البيرا) فذكر له هذا المنكر وسأله كيف يرضى به؟ فأجابه بأن (هذه
مقتضيات تمدن) !