للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجهر بالإلحاد ودعايته باسم التجديد
حكومة الترك اللادينية

قد وقع ما توقعنا وصرَّحنا به مرارًا من عزم ملاحدة الترك الاتحاديين
فالكماليين على نزع ثوب الإسلام الذي كانوا يلبسونه زورًا ورياء للشعب التركي
الذي يدين الله به وجدانًا وتقليدًا، وأنهم كانوا يعملون لهذا متريثين، ويسيرون إليه
متمكثين، مراعاة لسنة التدريج، وحذرًا من خيبة الطفور، ولكن التركي إذا ظفر
بَطَرَ، وظن أنه العزيز المقتدر، فلذا كان ظفرهم الأخير باليونان مجرئًا للكماليين
على الإيجاف والإيضاع في هذه السبيل فأبطلوا التعليم الديني ومدارسه والشريعة
الإسلامية ومحاكمها، واستبدلوا بها ما يجافي طباعهم وتقاليدهم وأخلاقهم من شرائع
بعض الشعوب الأوربية وقوانينها، وأعلنوا إباحة الردة عن الإسلام وجواز التدين
بكل دين، والبراءة من كل دين، وتزوج المسلمة بالكافر، ورقصها مع الفاسق
والفاجر، وأكرهوا شعبهم على لبس البرانيط - كل هذا كان مع وجود مادة في
قانون الجمهورية الأساسي صُرِّحَ فيها بأن دين الدولة هو الإسلام.
ولأجل هذه المادة التي كذَّبتها الأقوال الرسمية والأفعال الرسمية والأحكام
الرسمية والقوانين الرسمية، وتصريحات الجرائد الرسمية وغير الرسمية باحتقارهم
للدين وبراءتهم منه لأجل هذه المادة كان بعض المسلمين الأغبياء الغافلين يظن
بإغواء الملاحدة المارقين، أن الدولة التركية لا تزال دولة إسلامية، وأن كل تلك
الأقوال والأفعال والأحكام الكفرية المعادية للإسلام لا تنافي الإسلام؛ لأنها من
التجديد المدني والتقدم إلى الأمام، وترك القديم البالي الذي أخلقته الأيام وأبلته
الأعوام.
هكذا كان يقول ملاحدة بلادنا المصرية في تأييد الكماليين والترغيب في
كفرهم، وهكذا كانوا يكتبون، ولهذا كانوا يدعون، ولمثله عندهم فليعمل العاملون،
ولكن الحكومة التركية الكمالية لم تعد تطيق الصبر على بقاء كلمة الإسلام في
قانونها، فقررت إزالتها ومحوها، بل قررت إزالة اسم الله تعالى من اليمين
الرسمية المقررة في القانون؛ لأنها لم تكن وضعت اسم الإسلام في القانون خوفًا من
قيام الشعب عليها، فلما ظفرت بإخماد كل ثورة عليها والتنكيل بأهلها تجرأت على
البراءة من الاسم كالمسمى.
وإنه ليسر عقلاء المسلمين الصادقين هذا الجهر لسببين:
(أحدهما) : أن كراهة المسلم الصادق للنفاق أشد من كراهته للكفر الصريح،
ولا سيما النفاق بالقول الذي يصرح العمل بتكذيبه.
(ثانيهما) : أن تلبس الحكومة التركية بظاهر الإسلام أو تحليلها باسمه
زورًا وبهتانًا يخدع العالم الإسلامي الجاهل بها، ويظل على ما تعود معتمدًا في
إعزاز الإسلام عليها، فيظل غافلاً عن قوة الإسلام نفسه وعن قوته هو بالإسلام،
وإني لمعتقد أن ما كان شائعًا من قيام السلطان العثماني التركي بمنصب الخلافة كان
أقوى الأسباب في ضعف المسلمين، وتمكن الأجانب من استعبادهم، والاستئثار
بخيرات بلادهم.
فإذا كان في هذا الكفر البواح من حكومة الترك ومجلس الأمة لها ضرر
بغيرهم من المسلمين فهو سوء القدوة بالترك التابع لما كان من المبالغة في تعظيمهم
بالباطل، وتعلق الآمال بهم بالوهم، لا فوات ما كانوا عليه من إقامة أركان الإسلام
وإحياء كتابه وسنته والدفاع عنه، فإنهم لم يكونوا كذلك ولا سيما الجيل الأخير منهم.
ولما وثق الأوربيون بارتداد الحكومة الكمالية بهيئتيها التشريعية والتنفيذية عن
الإسلام وبعدواتهم له وبدعايتهم للشعوب الإسلامية، ولا سيما الأعجمية إلى اتباع
خطواتهم في ذلك فرحوا، وصرَّح بعضهم بأن الإسلام قد فقد كل قوة وعصبية،
وطمع دعاة النصرانية منهم بتحويل سائر المسلمين عن الإسلام وأرصدوا لذلك
الأموال الكثيرة على تصريحهم بأن العقبة الكؤود في طريقهم هي عصبية جزيرة
العرب ولا سيما الوهابية منهم. وطلب بعض جمعياتهم إرسال مائة مبشر إلى
جزيرة العرب خاصة. ومما زاد في طمعهم في تقصير جميع المسلمين دعاية
الإلحاد في مصر.
***
الإلحاد والزندقة بمصر
ها نحن أولاء نرى ملاحدة بلادنا هذه تُنَوِّه بكفر الترك الكماليين وتثني على
كل خطوة من خطواتهم فيه، وتنافح عنه في جرائدها، وتدعو إلى مثله كلما
سنحت فرصة، ولجريدة السياسة مراسل خاص في الآستانة مصري الأصل اسمه
(عمر رضا) يمدها في كل أسبوع بمقالة ينوِّه فيها بأعمالهم، ويجلي كفرهم
وضلالهم بحلي الخلابة وحللها، وهو الذي كان يراسل جريدة الأخبار الإسلامية من
قبل بقوة دينهم ومتانة إسلامهم، ولكل وقت وكل حال سياسة ودين عند هؤلاء.
ولكن كان من حسن حظنا أن كان أول ماقتٍ لهذه الدعاية الإلحادية وصادّ
عنها هو جلالة ملك البلاد، ولم يكن الزعيم المؤثر سعد زغلول باشا براض عنها،
ولا بمساير لها، بل كان ضدًّا على دعاتها في الجملة، حتى إنه اشتد في أثناء
المناقشة بمجلس النواب في كتاب طه حسين الذي كذَّب فيه القرآن، وكاد يرفس
وزارة عدلي باشا رفسة يسقطها بها إسقاطًا يجعل زعماء الحزب الدستوري في سفل
سافلين، ولكنهم أجلوا البحث في المسألة حتى تمكنوا من إسلاس قياده وإسكاته عن
تأييد المطالبين بعقاب طه حسين في المجلس، حرصًا على ما يسمونه بالسياسة
الائتلافية ولولاه لنجحوا في دعايتهم إلى لبس البرنيطة.
***
التفرنج ومبادئ
الإلحاد في الأفغان
كان المشهور في العالم الإسلامي أن أشد الشعوب الإسلامية عصبية إسلامية
مسلمو نجد ومسلمو أفغانستان، وقد ذكرنا هذا من قبل، ولكن رُزِئَتْ الحكومة
الأفغانية في هذا الزمن الأخير ببعض ملاحدة الترك فأفسدوا عقائد بعض رجالها
الأفغانيين وزيَّنوا لملكها شر أنواع التفرنج وأضرها وهو تفرنج النساء بالتبرج
والزينة وهتك حجاب الحياء والصيانة المقتضي للإسراف في النفقات؛ لأجل
الانغماس في الشهوات واللذات.
واتباع سنن الترك في لبس البرنيطة وانتحال القوانين الأوربية وغير ذلك من
المفاسد التي جنت على الدولتين العثمانية والمصرية، وقد شرعت الدولة الأفغانية
الجديدة تقلد الترك ولا ندري إلى أي شوط تصل في ذلك وإنا لمنتظرون.
كنا كتبنا ما تقدم كله منذ أشهر، ولم يتسع له الجزء الثاني وتأخر إصدار هذا
الجزء لما تقدم من السبب، وفي أثناء هذه المدة أتم ملك الأفغان رحلته الأوربية
الآسيوية، وكان من أخبارها أن زوجته الملكة ثريا كانت في أوربة وفي أنقرة
سافرة متبرجة بزينتها مسرفة فيها حتى إننا رأينا في بعض صورها الشمسية صورة
نصفية برزت فيها عارية من كل ثوب ليس عليها إلا الجواهر التي تتلألأ على
صدرها - ومنها أنها كانت ترقص مع الرجال وخص بالذكر مصطفى كمال باشا -
ومنها أن كبار العلماء في إيران لما علموا بأخبارها هذه أرسلوا إلى بعلها الملك
برقية صرَّحوا له فيها بأنهم لا يقبلون أن يروا في بلادهم الإسلامية ملكة مسلمة
تنتهك حرمة الإسلام بسفورها وتبرجها المحرم شرعًا، فاضطرت عند وصولهما
إلى إيران أن تحتجب احتجابًا تامًّا كنساء إيران، وكانت تبرز في مصر
كالمصريات غير المسرفات في التبرج.
ومن أخبار هذه الرحلة أن الملكة ثريا قد ابتاعت من الحلي والحلل وهي في
باريز ما قيمته مئات الألوف من الجنيهات، وهذا يدل على أن التفرنج الأفغاني قد
بدأ مسرفًا على طريقة إسماعيل باشا الخديو في مصر، كأن ملك الأفغان ورجاله لم
يطلعوا على تاريخ ذلك الإسراف ولا علموا بما كان من نتائجه.
بيد أن ملك الأفغان قد فَضَلَ إسماعيل بعنايته بأمر القوة العسكرية العصرية
التي لا يمكن لدولة حفظ استقلالها بدونها وجعل الشعب كله عسكريًّا مستعدًّا في كل
وقت لبذل النفس في سبيل الدفاع عن بلاده وغير عاجز عن الهجوم على غيره إن
اضطر إلى ذلك. ولكن الاستعداد النظامي والآلي لذلك لا يكفي إلا إذا أمدته القوة
الروحية والوحدة القومية.
والشعب الأفغاني الآن عرضة لفساد العقائد والأخلاق بالتفرنج الجديد وما يتبع
ذلك طبعًا من التفرق أو (انقسامه على نفسه) كما يقال في التعبير العصري.
وسنبين في جزء آخر أسباب ما نخافه على هذا الشعب الإسلامي الباسل من
فساد العقيدة والأخلاق والتفرق، وكون ذلك أضر فيه منه في الشعب التركي وأشد
خطرًا على حكومته، وما حاولنا من نصح من لقينا من رجال الحكومة الأفغانية
بمصر ومكة المكرمة ثم ما كتبناه إلى جلالة الملك أمان الله خان في مصر.
((يتبع بمقال تالٍ))