للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي


كيف يتكون المرشدون [١]
للأستاذ العلامة صاحب الإمضاء
(٤)

في مصر ثلاثة آلاف عالم أو يزيدون، وعشرات الألوف من طلبة العلم، قل
أن تجد فيهم من يُحسن الإرشاد، ويستطيع أن يأخذ بزمام القلوب فيقودها إلى حيث
سعادتها في حياتها العاجلة والحياة القابلة.
وما كان ذلك لنقص في عقول أصحابها أو فساد في فِطَرهم ولكن لم يسلك بهم
السبيل السوي الذي سلكه رب العالمين، في تكوين سيد المرسلين وخير المرشدين،
محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
وإن يكن استعدادنا دون استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مانع من
أن نلم أو نقارب فإن الله لا يكلفنا ما لا طاقة لنا به {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (الأعراف: ٤٢) .
لذلك فكرت طويل التفكير في الطريق الذي نستطيع به تكوين المرشدين
الصالحين غير مُبَال برسوم أو تقاليد فهداني طول البحث وصادق البلاء إلى
الطريقة الآتية:
إذا أردنا تربية مرشد فعلينا أن نُحَفِّظَه القرآن على قارئ تقي حسن السيرة
والخلق، وذلك بعد أن يلم بالقراءة والكتابة والعلوم الأولية التي تفتق الأذهان وتنمي
العقول، فإذا ما أتم حفظه علمناه القواعد النحوية مع التطبيق الكثير من آي القرآن
ثم ألقينا زمامه إلى عاقل أديب دَيِّن يقرأ عليه كثيرًا من كتب الأدب الشعرية والنثرية
ويدربه في أثناء ذلك على الكتابة والخطابة، فإذا ما أجاد الكتابة وانطلق لسانه
بالخطابة رجعنا به إلى القرآن وقد حفظه وطالبناه بالإكثار من تلاوته مع تفهم
معانيه وتدبر آياته دون أن يستعين بكتاب تفسير أو معلم، اللهم إلا عقله الناضج
وفطرته السليمة وأدبه الذي تعلمه فإن لم يكن له في كل أولئك الكفاية فوقف في فهم
كلمة غريبة أو معنى آية غامضة فلا عليه إن استعان بكتب التفسير أو معلم أمين،
ولكن بمقدار ما يعرف المجهول ويستبين المستور، ثم يعود سيرته الأولى في
الاستقلال بالفهم، واستنباط المعاني والحكم والأحكام التي تضمنتها الآيات.
وإنما اخترنا تلك الطريق من بين سائر الطرق في تعلم القرآن للأسباب الآتية:
أولاً: هذه هي الطريقة التي تعلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه
كتاب الله المبين، فكانوا يعتمدون على عقولهم ولغتهم الفطرية في تفهم الآيات،
وكانوا إذا وقفوا في كلمة أو آية سأل غافلهم ذاكرهم، وعالمهم من هو أعلم منه
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: ٤٣-٤٤) ولذلك لما وقف عمر
بن الخطاب في كلمة الأب في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَباًّ} (عبس: ٣١) سأل
عنها فأخبر أنها المَرْعَى.
ثانيًا: كتب التفسير محشوة بالخرافات الإسرائيلية والأباطيل المذهبية، ثم
هي لم تفسر كتاب الله من حيث هو كتاب هداية يقضي بين الناس فيما فيه يختلفون،
بل عمدوا إلى النكات البلاغية والمسائل النحوية فأطالوا الكلام فيها مما حال بين
القلوب ومعاني القرآن وهدايته، ثم تراهم يفسرون اللفظ أو الجملة بكل محتملاتها،
وإن أبى ذلك الأسلوب أو ناقضه آية أخرى، ثم نجدهم يؤولون القرآن حسب
مذاهبهم الفقهية أو نِحَلهم العقيدية، فترى (الكشاف) على جلالته في التفسير،
وسبقه الجم الغفير، يرجِّح دائمًا آراء المعتزلة، وينهج في التفسير إلى ما يوافقها،
ونرى الفخر الرازي يعزز آراء الشافعية (الأشعرية) ويُزَيِّف آراء الرازي من
الحنفية، ونرى النسفي متعصبا لمذهبه، يقضي له في كل شِجَار، وإن كان غيره
واضح الحجة قائم البرهان ليس عليه غبار، وإذا نظرت في تفسير النيسابوري
وجدته سلك مسلك الباطنية في بيان القرآن، وإن هم إلا فرقة أرادت القضاء على
الدين من حيث لا يشعر المسلمون فيفسرون كتاب الله بما لا يتفق واللغة ولا ترشد
إليه السنة بل بما يناقضه ويأتي على صرح بنائه من القواعد.
من أجل ذلك لا نرى للمرشد بل لكل متفهم للقرآن أن يتعرفه من طريق
العكوف على كتب التفسير، بل عليه أن يعتمد على نفسه بعد أن يتحصل على ما
رسمنا مضيفًا إليه معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه العملية معتمدًا
على الكتب الصحيحة التي كتبت بعين النقد والبصيرة ككتاب (زاد المعاد من هدي
خير العباد) لابن قيم الجوزية، وإن يكن لا بد من كتاب في التفسير فخيرها في
نظرنا (جامع البيان في تفسير القرآن) للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري
المتوفى سنة ٣١٠هـ فإنه تفسير سلفي فسَّر به القرآن من حيث هو كتاب هداية،
وكتب قبل أن ترفع الفرق الزائغة رءوسها، وقبل أن تتمكن في النفوس بدعة
التعصب للمذاهب التي أضرت بالكتاب والسنة ضررًا بليغًا، على أن كتب التفسير
على كثرتها أخذت أحسن ما فيها من تفسير ابن جرير وتفسير الكشاف مضيفة إلى
ما أخذته غثاء من القول، وتعصبًا للمذاهب، وتقعرًا في الإعراب، وفي استخراج
النكت البلاغية فالعناية بالأصل أولى من العناية بهذه الكتب المحرَّفَة في ألفاظها
ومعانيها، والتي كتبت بلسان التعصب والصناعة، لا بلسان الحق والهداية [٢] .
ثالثًا: ما فهمه الإنسان من تلقاء نفسه وكان نتيجة بحثه وكده يتمكن من قلبه،
وقلَّما تذهب به يد النسيان، ثم إن الإنسان بذلك يتعود الاستقلال في الفهم،
والاعتماد على النفس، والترفع عن حضيض التقليد، وربما عنَّ له من المعاني ما
لم يعن للسابقين، وربما كان في عصره حوادث كشفت عن معاني كثير من الآيات،
فإذا كان مستقلاًّ في فهمه، مسترشدًا بأحوال عصره في تفهم القرآن، سهل عليه
إدراك هذه المعاني الجديدة، على أني لا أعتبر مفسرًا من يحفظ أقوال غيره دون
أن تكون له ملكة فهم في القرآن، فإن هذا إن حول عما يحفظه قليلاً لم يستطع
متابعة السير معك؛ لأنه ما تعود الاستقلال في البحث.
ذلك ما يتعلق بأصل الدين في تكوين المرشدين، ولكن لن يصلوا إلى حبات
القلوب بوعظهم إلا إذا عرفوا الدنيا وسير أهلها وأخلاقهم، لذلك كان من الواجب
أن يتعرفوا أحوال المسلمين العامة، وصلتهم بغيرهم من الأمم الأخرى، وأن
يختلطوا بالناس ليعرفوا عللهم وأمراضهم، حتى إذا ما وصفوا لهم الدواء أتى على
الداء فبرأ بإذن الله، وكأيٍّ من واعظ لعدم تبصره بشئون الناس أضل أكثر مما
هدى، وهدم فوق ما بنى، ونفَّر بدل أن قرَّب، فأمثال أولئك دعاة الغواية، لا
رسل الهداية، أولئك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وكما يلزم الواعظ الخبرة بأحوال الناس ينبغي أن يقف على طرف من علوم
الحياة التي تبصره بالكون ونظامه، والسنن التي قام عليها بناؤه، حتى يكون لهم
من ذلك معين على معرفة أسرار الله في صنعه، وحكمته في تدبير خلقه، وبذلك
يستطيع فهم آي القرآن الكونية وتقريبها من أفهام العامة، فيبصر ويبصرون،
وبآيات الله يوقنون، وعلى الله قصد السبيل.
***
صناعة خطب الجمعة وإلقاؤها
بينا لك أن خير الخطب ما كان مصدره نفس الخطيب وشعوره وإحساسه لا
نفس غيره ممن مضت بهم القرون، وكانوا في عالم غير عالمنا، ولهم أحوال
تخالف حالنا، فمن أراد العظة البالغة، والقولة النافذة، فليرم ببصره إلى المنكرات
الشائعة، والحوادث الحاضرة، خصوصًا ما كان منها قريب العهد لا تزال ذكراه
قائمة في صدور الناس وحديثه دائرًا على ألسنتهم، أو ذائعًا في صحفهم، وأثره
مشاهدًا بينهم، ثم يتخير من هذا الحوادث ما يجعله محور خطابته ومدار عظته ثم
ينظر ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة في الموضوع الذي تخيره ويجيد
فهمها ويفكر في الأضرار المالية والصحية والخلقية والاجتماعية التي قد تنشأ عن
هذه الجريمة التي جعلها موضع عظته، ويحصي هذه الأضرار في نفسه أو بقلمه
ثم يبدأ في كتابة الخطبة إن أراد كتابتها مُضَمِّنَها آثار تلك الجريمة وما ورد عن
الشارع فيها صائغًا ذلك في قالب خطابي جذاب أخاذ يناسب أفهام السامعين ولغة
الحاضرين.
هذا إذا أراد التنفير من رذيلة أو الإقلاع عن جريمة ذاع بين الناس أمرها أو
طفح عليهم شرُّها، فإن أراد الترغيب في فضيلة أو الحث على عمل خيري أو
مشروع حيوي فليفكر في مزاياه تفكيرًا واسعًا مراعيًا الصالح العام دون المآرب
الخاصة، ويستحضر ما يناسبه من الآيات والأحاديث وفي الكتاب كل شيء وفي
السنة البيان والتفصيل، ثم ينحو في الكتابة النحو الذي بينا، وإياه والسجع المتكلف
والمحسنات المرذولة التي كثيرًا ما تخفي الأغراض وتعمي المعاني وتأخذ بصاحبها
عن سداد القول وقصده.
وليكن كلامه جامعًا محكمًا صادرًا عن قلبه مملوءًا بالعبر والعظات وينبغي أن
يكون تفكيره في جو هادئ بحيث لا يحول بينه وبين حديث النفس وحكمة العقل
ومراقبة الرب أي حائل، كما يُعْنَى بتصفية نفسه وتهذيبها قبل الشروع في العمل،
فيقدم بين يديه قراءة ما تيسر من القرآن الذي هو آيات بينات في صدور الذين
أوتوا العلم مع خشوع وخضوع وتدبر للآيات ويقلل من الطعام والشراب حتى لا
تذهب بطنته بفطنته، فيريد القول فيستعصي عليه أو بصدور غثاء أو يكون معين
كلامه اللسان فلا يتجاوز الآذان.
ثم إذا خط الخطبة فإن شاء حفظها وألقاها، وإن شاء ارتجل ما تضمنته،
وهو أحب الأمرين إليَّ حتى لا يكون مقيدًا بعبارة، فإذا ما عَنَّ له حادث جديد أثناء
الخطابة كان له من الحرية ما يمكنه من الخوض في الحدث الحادث، وكثير من
الحفاظ إذا نسوا جملة وقفوا في الخطبة فلا ينبسون بكلمة فيفقدون الهيبة في نفوس
العامة، وما ألزمها للواعظ الناصح، فكان من المصلحة ألا يتقيد بعبارة، بل يتخير
من العبارات ما يؤدي المعاني التي وصل إليها بحثه. وإن شاء الخطيب ألا يقيد
بالكتابة ما جادت به فكرته بل يرسمه في مخليته ويسطره في ذاكرته، ثم إذا حانت
الخطبة استملى الذاكرة فأملته ولم تخنه إن شاء ذلك كان خيرًا وأولى؛ لأنه لا
يحتاج إلى قلم يخط به، ولا قرطاس يقيد فيه، بل هو غني بنفسه وذاكرته عن
الآلات والأدوات، وخير الغنى غنى النفس، ذلك ما يرعاه في صناعة الخطابة.
أما الإلقاء فصوت مُسْمِع، وعبارة بَيِّنَة، ومقاطع واضحة، وتمثيل للحوادث،
وسير مع الطبيعة، دون تكلف ممقوت وصوت مكذوب، أو تمطيط في الفاصلة
أو غُنَّات غير متقبلة.
وإياه أن يأخذه الغرور بعلو المكانة وارتفاع الدرجة، أو يغلب عليه الرياء،
والتطلع إلى الثناء، فإن ذلك مرض الواعظ القاضي على سلطانها، المانع من
تأثيرها، بل عليه أن يراقب الله وحده ويذكر أنه عليم بخَطَرات نفسه وجولات
ذهنه ثم مُحَاسِبه على ما تخفي الصدور، وإذا علم أن ثناء الناس لا قيمة له عند الله
ما لم يكن بحق - وأنه لا يحول دون ضر أراده الله بمن يقول ولا يفعل، أو ينطق
بغير ما يُضْمِر ويظهر غير ما يبطن إذا علم ذلك سهل عليه أن يدع الناس وثناءهم
جانبًا ويولي وجهه نحو الذي فطر السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء وهو
يجير ولا يجار عليه، فإن ذلكم الجدير بالرعاية والأولى بالرقابة، والحقيق بالرغبة
في ثوابه، والرهبة من عقابه، لا من لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، وربما كان ثناؤه
بلسانه وبين جنبيه عدو لدود وحسود حقود فالواعظُ العاقل مَنْ مقالُ حالِهِ ساعةَ
يتصدى للإرشاد {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً
قَمْطَرِيراً} (الإِنسان: ٩-١٠) , {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} (القلم: ٣٢) .
وحذار للواعظ أن يلتزم خطبة واحدة في خطبة الجمعة الثانية فإن ذلك سبيل
موبوء، ودَأْب مَرْذُول، وكيف تستحل ساعة من وقت الناس كافة لا تفيدهم فيها
فائدة، ولا تعود عليهم منها عائدة، بل يسمعون عبارات قد حفظوها وملوها حتى
تركوا التفكير فيها، فأصبحت في نظرهم لغوًا من القول {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ} (القصص: ٥٥) وهل تظن فرقًا بين من يسرق أموال الناس
ومن يسرق أوقاتهم؟ اللهم إنه لا فرق إلا أن الأول يجني على المال، والثاني على
رأس المال، فإن الوقت مصدر كل خير في الحياة الراهنة والحياة القابلة، وإن
الدنيا مزرعة الآخرة، لماذا نُعْنَى بالخطبة الأولى فنضع لها كل جمعة نصًّا جديدًا،
ولا نُعْنَى بالثانية، فنلتزم نصًّا مَجَّتْه الأسماع ونبذته الطباع، إنه لا داعي لذلك إلا
الجهل والكسل، والجهل بصناعة الخطابة أقعدنا عن صنع الخطبتين، وإن أجهدنا
الذهن واعتصرنا الفكر فقصارى الجهد وغاية الوسع خطبة واحدة نؤلفها في أسبوع،
والكسل قعد بالذين يلتمسون دواوين الخطباء عن أن يحفظوا خطبتين فاكتفوا
بواحدة لكل جمعة، واتخذوا للثانية نصًّا لزامًا مدى حياتهم بل ربما ورثوا أبناءهم
تراث أجدادهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: ٢٢) .
فليقلع الخطباء عن هذه العادة الممقوتة ويسلكوا في الثانية ما سلكوه في الأولى
حتى يكون آخر ما يقرع الأسماع من وعظهم كلم حديث وبدع طريف مما عملته،
أيديهم فيحمد لهم الناس ما صنعوا ويشكرون لهم ما قدموا، والله الموفق للسداد.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد العزيز الخولي
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))