للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


وفاة سيد أمير علي
أحد قادة التفكير الإسلامي وحامل دعوة الإسلام في الغرب

القاضي أمير علي الهندي عالم من أكبر أعلام الإسلام في الشرق والغرب لا
يحتاج فيهما إلى تعريف أو وصف، اختاره الله إلى جواره والإسلام في أشد الحاجة
إلى أمثاله العظماء في علمهم وأخلاقهم وخدمتهم إليهم، وقد كنا ننتظر أن نرى
ترجمة لحياته الحافلة من علماء الهند، ولكنا لم نظفر إلا بهذه الترجمة التي دبجها
يراع الأستاذ محمد عبد الله أفندي عنان المصري ونشرت بجريدة السياسة،
وهذه هي:
نعت إلينا الأنباء الأخيرة المرحوم (مولانا) سيد أمير علي المشترع
والفيلسوف الهندي الأشهر فطويت بوفاته صفحة حافلة من أنفس صفحات التفكير
الإسلامي في عصرنا، وفقد الإسلام إمامًا من أحدث أئمته، وأرسخهم قدمًا في
دراسته، ومجاهدًا باسلاً قضى زهاء نصف القرن في الذَّوْد عن مبادئه وأحكامه،
ولعل مفكرًا مسلمًا لم يعمل في عصرنا لِبَثِّ دعوة الإسلام العلمية والاجتماعية قدر
ما عمل أمير علي برائع بيانه وناهض حجته وطريف نقده وتحليله فقد خاطب أمير
علي الغرب بلغة غربية وعمد إلى شرح مبادئ الإسلام الروحية والشرعية
والاجتماعية بأساليب الغرب العلمية، فكان أول مسلم استطاع أن يخرج للغرب
صورة صادقة من هذه المبادئ تضطرم بإيمان مسلم شربت نفسه روح الإسلام
الحقة ولا تشوبها مع ذلك ذرة من التشيع أو التحامل، وأن يعرضها في ثوب علمي
محدث يتذوقه الذهن الغربي ولا ينكره الذهن الإسلامي، وكان أول مسلم استطاع
أن يخرج للغرب أجمل وأدق صورة من المجتمع الإسلامي القديم ومدنيته وتفكيره.
ويرجع ذلك بالأخص إلى نشأة أمير علي وتكوينه الفكري، فهو سليل أسرة
عربية تنتمي إلى آل البيت هاجرت في أواسط القرن الثامن عشر من فارس إلى
الهند واستقرت في موهان من إقليم أود (أيودهيا) في شمال الهند، وفي موهان
ولد سيد أمير علي في ٦ إبريل سنة ١٨٤٩ من أب مسلم (هو سعادت علي) وأم
إنجليزية (هي إيزابيل أدا) ودرس أولا في كلية هوجلي في كلكوتا ونال أعلى
درجات في التاريخ والأدب، ونال شهادة العالمية من كلية عليكرة الإسلامية، ثم
ذهب إلى لندن ودرس القانون، ونال إجازته سنة ١٨٧٣ واشتغل بالمحاماة بادئ
بدء، ثم عين أستاذًا للشريعة الإسلامية في كلية الرياسة في كلكوتا، فمديرًا لمدرسة
الحقوق بها، فكبيرًا لقضاة كلكوتا، وكان قد ظهر بكفايته وبيانه في كل هذه
المناصب فعين في سنة ١٨٩٠ مستشارًا بمحكمة بنغالة العليا، فكان أول هندي
جلس في هذا الكرسي، وفي سنة ١٩٠٤ اعتزل القضاء، وعاد إلى إنجلترا وأقام
في لندن وكان اسمه قد ذاع يومئذ ولفت أنظار ولاة الأمر في الهند وفي إنجلترا
بخدماته القضائية، وكفايته الفقهية، ومقدرته النادرة في الكتابة بالإنجليزية، فعين
في سنة ١٩٠٩ مستشارا ملكيًّا في المجلس المخصوص، وانتدب للعمل في لجنته
القضائية فكان أيضًا أول هندي ظفر بهذا المنصب السامي.
بيد أن التدرج في مناصب الدولة ومراتبها الرفيعة ليس أعظم ما في حياة سيد
أمير علي، فإن جانبها الباهر هو الإنتاج الفكري والنشاط السياسي اللذين سلخ أمير
علي فيهما زهاء نصف قرن، وقد اختص فتوته وكهولته بالإنتاج الفكري ولم يأخذ
قسطه من النفوذ السياسي إلا في شيخوخته بعد أن تبوأ بظفره في عالم التفكير
والكتابة مكانًا أسمى، ولم يعن أمير علي بالتفكير والكتابة إلا في ناحية واحدة هي
الإسلام مبادئه وأحكامه وتعاليمه وتاريخه: ففي هذا الميدان برز أمير علي وكان
الفقيه البارع والفيلسوف المحدث والكاتب المبدع، وكان أول ما أخرج في هذا
الباب رسالة نقدية في حياة النبي وتعاليمه [١] كتبها سنة ١٨٧٢ وهو فتى لا يجاوز
الثالثة والعشرين فألفتت إليه الأنظار في الهند، والظاهر أنه آنس منذ البداية في
نفسه كفاية خاصة لتحقيق تلك الأمنية التي جاشت بها نفسه، وخصها بتفكيره وبيانه،
وهي عرض الإسلام على الغرب في ثوبه الحقيقي والذود عنه مما يُرْمَى به ظلمًا
في المجتمعات الغربية، وقد وفق أمير علي في تحقيق هذا الغاية أعظم توفيق
وأبدع فيما وفق إليه، فأخرج للغرب بالإنجليزية سلسلة كتبه النفيسة في شرح
مبادئ الإسلام وأحكامه ولم يقتصر فضله في ذلك على تدوين الأحكام الشرعية
وتنظيمها وشرحها كما فعل في مؤلفه الضخم (الأحوال الشخصية في الأحكام
الشرعية) [٢] اللذين أَمْلَى وضعهما عليه ما شاهده أثناء حياته القضائية في معاهد
بنغالة الفقهية ومحاكمها الشرعية من غموض وتعقد في درس الشرعية الإسلامية
وتطبيقها على يد قضاة من الإنجليز قَلَّمَا يدركون روح التشريع الإسلامي.
لم يقتصر فضله على ذلك، ولكنه عمد إلى غاية وَعِرَة شاقة هي شرح مبادئ
الإسلام الروحية من الوجهة العلمية وتحليلها من الوجهة الاجتماعية والمقارنة بينها
وبين مبادئ الأديان الأخرى وإلى حياة النبي العربي وتصوير خلاله ومناقبه وشرح
تعاليمه السياسية، فأخرج أقوى كتبه وأعظمها (روح الإسلام أو حياة محمد
وتعاليمه) [٣] وهو مؤلف ضخم يعرض فيه بالنقد والتحليل لترجمة النبي وأصول
الإسلام وفرائضه وفكرته في الألوهية وأحكامه في الأحوال الشخصية والاجتماعية
وفكرته في البعث وروحه في القومية والسياسة والعلم والأدب والفرق الإسلامية
وفلاسفة الإسلام وفيه يبلغ ذروة الافتنان والإجادة في دقة التصوير، وسلامة التدليل
والتعليل، وروعة البيان والعرض، ولا سيما في مقدمته التي هي قطعة من أقوى
وأبدع فصول التوحيد والكلام، أما ناحية الإسلام الأخلاقية فقد تناولها أمير علي في
كتاب آخر هو: (خلال الإسلام) [٤] الذي يعتبر تتمة لكتاب (روح الإسلام) .
ولم يقف أمير علي عند هذا العرض الباهر لمبادئ الإسلام وتعاليمه، وهذا
الوصل الجريء الراجح بين العلم والدين بل شاء أن يقدم إلى الغرب صورة صادقة
من المجتمع الإسلامي ذاته خلال العصور المتعاقبة، وأن يقرن الصور المعنوية
التي قدمها من الإسلام وروحه وأصوله بصورة مادية من سير الدول الإسلامية
فوضع كتابه (مختصر تاريخ المسلمين) [٥] وفيه يتناول تاريخ الدول الإسلامية
دولة فدولة، وإذا ذكرنا تشعب الموضوع واتساعه كان وصف المؤلف كتابه
(بالمختصر) حقًّا من حيث الإيجاز في سرد الحوادث، ولكن كتاب أمير علي يقدم
للقارئ صورة من أبدع الصور التي وضعت في تاريخ الإسلام ويَبُذُّ الكتب
الموسوعة بالطرافة والحداثة وحسن الترتيب ودقة التحليل، وفيه يبدو أمير علي
المؤرخ المستنير والناقد المتمكن، فيسرد تاريخ الإسلام ودوله في ضوء النظريات
الحديثة، سواء من حيث الدولة أو السياسة، ويُعْنَى بالناحية الاجتماعية والفكرية
فيقدم عنهما في نهاية كل دولة لمحة قوية ممتعة، وتراه فيما يسرد وينقد يضطرم
بروح إسلامي حق لا تشوبه شائبة تعصب أو تحامل يحمد في مواضع الحمد،
ويحمل في مواضع الذم، وأسلوبه في كل ذلك عذب قوي، وليس من المبالغة أن
نقول: إنه كثيرًا ما يسمو إلى منافسة جيبون وماكولي خصوصًا في وصف
الحوادث العظمى كالحروب الصليبية، وغزو التتار لبغداد، وسقوط غرناطة،
والخلاصة أن مختصر أمير علي في تاريخ الدول الإسلامية من أنفس ما كتب في
هذا الموضوع، وفي اعتقادنا أنه وُفِّق أعظم توفيق في إدراك الغاية التي قصدها
بوضعه وهي (التعريف بأحدث الشعوب التي تركت في العالم آثارًا لا تُمْحَى والتي
ما زالت أوربا الحديثة تتغذى من تراثه) .
هذه هي الخدمات الجليلة التي أداها أمير علي في سبيل نشر الدعوة الإسلامية
والذَّوْد عنها بسلاح الحقائق والأدلة والمنطق السليم، وقد سبق أمير علي وعاصره
مستشرقون تجردوا لبحث الإسلام وتاريخه وبذلوا في هذا السبيل جهودًا نبيلة مثمرة
بلا ريب، ولكن أمير علي يفوقهم جميعًا بكونه قد تحرَّر من أسباب التحامل التي
تُرَى ماثلة في كثير من مباحثهم وأدرك روح الإسلام ونفذ إلى أعماق العواطف
والخلال الإسلامية فكان بذلك خير أهل للمهمة التي كرس لها تفكيره وبيانه.
وكان للسيد أمير علي مقامه في الزعامة السياسية في الهند، وكان يعمل أثناء
الأعوام الطويلة التي سلخها في قضاء الهند وإدارتها على تحقيق أمنية عزيزة له
هي تقدم مواطنيه مسلمي الهند، سواء من الوجهة المادية أو المعنوية، وقد بذل في
ذلك السبيل جهودًا شتى، وكان لهذه الجهود نصيب كبير من الفوز أثناء أن كان
عضوًا بمجلس التشريع الأمبراطوري ما بين سنتي ٨٣ و ٨٥ على أنها لم تحمل
ثمرتها العامة إلا في عهد اللورد مورلي في سنة ١٩٠٦ حيث رأت الحكومة
البريطانية أن تُدْخِل طائفة كبيرة من الإصلاحات الدستورية والتشريعية في حكومة
الهند تحقيقًا لأماني المعتدلين وتهدئة للاضطرابات الوطنية التي وقعت يومئذ.
على أن أمير علي كان في جهوده السياسية بالنسبة للإسلام دوليًّا أيضًا، ففي
جميع الخطوب التي كانت تدهم الإسلام أو الأمم الإسلامية كان صوت أمير علي
يرتفع في بريطانيا وفي أوربا، وكان آخر صيحة أرسلها في هذا السبيل نداءه
المشهور الذي وجهه أيام الحرب الريفية إلى فرنسا، وناشدها فيه أن تسالم شعبًا
صغيرًا مجاهدًا، فالعالم كله يعرف أنها تستطيع سحقه بأيسر أمر، ولكن التسامح
في احترام الأماني القومية لهذا الشعب الصغير الباسل، يسجل لفرنسا في صحف
الفروسية والشهامة، فكان هذا النداء قطعة مؤثرة من البيان والحكمة التي عرف
بهما أمير علي كل حياته.
هذه هي صفحة وجزء من حياة هذا المفكر المسلم الكبير وآثاره الجليلة، ففقده
رُزْء للعالم الإسلامي كله، ولكن للعالم الإسلامي أن يتعزى عن خطبه الفادح بما
أودعه أمير عَلِيّ صفحات آثاره الخالدة من عميق حكمته وصائب منطقه وسحر
بيانه تغمده الله برحمته وأفسح له رحب جنانه.