للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحميد الرافعي


خطر هجوم الكماليين على الإسلام

استبدال الأحرف اللاتينية بالحروف العربية
وجوب محاربة هذا الخطر على العالم الإسلامي
أريد اليوم أن أوجه هذه الكلمة لأول مرة إلى الشباب الإسلامي في كل بقاع
الأرض وإلى شباب الأمة العربية خاصة ليتدبروا أمرهم في هذا الهجوم المكشوف
الذي يقوم به الكماليون لمحو الإسلام من الدنيا بما يخترعونه من الأساليب
الشيطانية في بلادهم، وما يبثونه من الدعاية ضد الدين الإسلامي في الشرق
والغرب، وأريد أن يفهم هذا الشباب المسلم أن مقاومة هجوم الكماليين هذا بات
فرضًا مقدسًا عليهم ليستطيعوا الاحتفاظ بدينهم هم وذراريهم المستقبلة، فإن أعداء
الإسلام في أنقرة لم يجدوا أمامهم عملاً يقومون به في هذه الأيام لإتمام هذا الغرض
إلا استئجار الكتاب من أوربيين وشرقيين بأموالهم وأموال المبشرين لنشر الدعاية
ضد الإسلام، حتى صار أعداء هذا الدين من سياسي أوربة يستخدمون المحاضرات
العلمية لإقناع الطلبة الشرقيين في أوربا باستبدال الأحرف اللاتينية بالعربية كما
فعل ذلك الأستاذ لويس ماسينيون مدير معهد الكليج فرانسز في باريس للقضاء على
القرآن بالقضاء على الأحرف العربية تأييدًا لدعاية الكماليين المأجورة.
وإلى شباب الإسلام والقراء عمومًا نبذة من مقال لأحد الكتاب الأوربيين الذين
تستأجرهم أنقرة لنشر دعايتها تبريرًا لخطتها الجديدة في محاربة الإسلام وتأييدًا
لمزاعم الكماليين في الدين الإسلامي والعرب.
قال الكاتب: م ج السويسري من مقالة نشرها بجريدة جورنال دي جنيف:
(إن أهم إصلاح يحاول مصطفى كمال أن يقوم به في بلاده هو قلب أفكار
شعبه لينفرهم من الدين الإسلامي، وفي وسعنا أن نقول: إن الإسلام في تركيا
يختلف اختلافًا بيِّنًا عما كان عليه قبلا في زمن الخلفاء العثمانيين أو في باقي
الأقطار الإسلامية، وإن مصطفى كمال بعمله هذا قد طهَّر عقيدة الأتراك من
خرافات هذه الديانة وأساطيرها القديمة، واعتقاداتها العقيمة التي لا تلائم العصر
الحديث، ثم ساق الكاتب السويسري الحديث الذي لقنه إياه الكماليون على هذا النمط
فقال:
(لقد أثبت التاريخ أن الدين الإسلامي لم يحدث فيه العلماء أي إصلاح منذ
قام محمد بدعوته أي منذ ١٣ قرنًا، وبهذا كانت الشقة بعيدة بين المدنية الحديثة
وهذا الدين.
ولنضرب لذلك مثلاً: إن الشريعة الإسلامية تُحَتِّم على كل مسلم أن يصلي
خمس مرات في النهار، وعليه أن يكون متوضئًا في كل مرة، أي عليه أن يغسل
وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ويمسح رأسه إلى آخر ما هناك من
الصعوبات الجمة كخلع الحذاء وتشمير الثياب، وكم من فقراء سرقت ثيابهم وهم
يصلون فطلقوا هذا الدين ثلاثًا، فهل بلغ بنا الخبل إلى أن نخلع أرديتنا ونبلل ثيابنا
ونشوه كي (بناطليلنا) خمس مرات في اليوم.
(ولأجل أن يبرر الصلاة على طريقة البروتستانت كما أعلنا ذلك في وقته
قال: قال أحد الأتراك الأتقياء: أما أنا فقد كنت أكره الدخول إلى المسجد بسبب
واحد وهو الرائحة الكريهة التي تنبعث من أقدام المصلين وكنت أضطر أحيانًا
لمغادرة المسجد قبل قيام الصلاة خوفًا على نفسي من الاختناق.
ثم قال: ويريد المصلحون أن تستبدل السجاجيد بالكراسي ويستعاض عن
أصوات الحفظة والمشايخ التي تكون مضحكة في أغلب الأحيان بالأنغام الموسيقية،
وعندها تمتلئ المساجد بالمصلين الحاسري الرءوس؛ ولقد حذا الأتراك في طريق
عبادتهم حذو الأوربيين؟ وأصبحت الآن أنقرة الكعبة الجديدة للدين الإسلامي
الجديد [١] فهل يحذو العرب حذو الترك فيخلصوا من هذه التقاليد التي ما أنزل الله
بها من سلطان؟
هذه كلمة اجتزأناها من مقالة الكاتب السويسري ينشرها في أوربا بأموال
الترك وعقليتهم لم يستطع المبشرون قبل الكماليين أن ينشروا مثلها في أوربا مطلقًًَا
على شدة حقدهم على الإسلام، والذي نلفت إليه الأنظار أن هذه المقالة ليست من
بنات أفكار الكاتب الأوربي المؤجر، بل هي إملاء الكماليين أنفسهم فإن ما يكتبه
هؤلاء المأجورون لا يخرج عما يقوله الكماليون في الإسلام سواء في بلادهم أو في
خارجها، من الأقطار الشرقية والغربية، حتى إن جريدة مخادنت التي تصدر في
مدينة القاهرة تكتب على ملأ من الناس أن مصدر تأخر الترك اللغة العربية أو
بالحري الإسلام.
وإذا دققت النظر فيما ينشر في أوربا ومصر تجد أن روح الكماليين لا تقف
عند القضاء على الإسلام في تركيا، بل هي ترمي إلى محو الإسلام من جميع
الأقطار، وقد باتت الخزانة السرية تنفق على هذه الدعاية أموالاً طائلة من أموال
المسلمين لقتل الإسلام بجرأة غريبة يردد صداها المبشرون المسيحيون مع
السياسيين الأوربيين الذين يرون أن أهم وسيلة لاستعمار البلاد الإسلامية القضاء
على الدين الذي يدعو أهله إلى إنشاء الدولة والدفاع عنها بالنفس والنفيس فيجعل
من المسلم شخصية كاملة أساسها عزة النفس بالفضائل الإسلامية، والرأي المتفق
عليه بين المطلعين على نية الترك هو أن الغاية الأولى من هذه الحركة التي لم
يعهدها الإسلام في الحرب الصليبية هي التزلف لأوربا، وهذا كل ما يرمي إليه
مصطفى كمال.
هذه حالة لم تمر بحياة الإسلام في دور ما من أدوار قوته وانحطاطه، وأعظم
ما في الكارثة من سوء سكوت المسلمين عنها، ووجود بضعة أشخاص منهم
يؤجرون ضمائرهم لإذاعتها والدفاع عنها، حتى بلغ الانحطاط الأخلاقي والتسفل
الأدبي بهؤلاء أنهم يذيعون بين العامة في مصر والإسكندرية أن مصطفى كمال من
أعظم المسلمين غيرة على الإسلام وأن أعماله هذه التي ظاهرها عداء شديد للإسلام
ليست إلا مظاهر ليخدع بها أوربا حتى إذا تمكن من خديعتها حملها على التخلي له
عن بلاد الإسلام التي احتلتها بغفلة الترك في الماضي (كمصر) ومن ثم يعيد لها
استقلالها ... فهل سمع العالم بعقلية أخطر من عقلية هؤلاء الدعاة الذين يذيعون في
هذا القطر أمثال هذا الهذيان؟ وهل هناك أشد احتقارًا للمصريين من هذا الاحتقار.
بعد هذه المقدمة نستميح إخواننا الأتراك الذين لم تؤثر فيهم جناية الكماليين،
والذين يألمون كما نألم من وصول الحال إلى ما وصلت إليه في تركيا وسريانها
لأفغانستان وإيران واضطراب العالم الإسلامي لها، نستميح هؤلاء الإخوان الكرام
أن يعذرونا؛ إذ نحن دافعنا عن القرآن والعربية اللذين يعمل الكماليون بإرشاد
البولشفيك على مطاردتهما، والحط من شأنهما، وإذا كانت أوربا وقفت كلها صفًّا
واحدًا بما فيها الكنائس المنظمة والشعوب القوية والحكومات المسلحة في وجه
البولشفيك دفاعًا عن الدين المسيحي فما أجدرنا أن نتحد نحن - بعد أن ساق الروس
الحمرُ التركَ الكماليين أمامهم للقضاء على الإسلام- للوقوف في وجه هذا الخطر.
يحب أن نفكر جيدًا في هذا ونقوم بالواجب له حق القيام.
هذا وإن دعاية الكماليين الحمراء تقوم على أساسين: الأول أن الدين
الإسلامي لا يصلح لحياة الترك الجديدة، وهذه نفس دعاية المبشرين المسيحيين
والسياسيين الأوربيين، والثاني أن اللسان العربي بما فيه أحرفه العربية آية
انحطاط العنصر التركي والعثرة الحقيقية في سبيل رقي الترك.
أما أن الإسلام لا يصلح للحياة الجديدة فنحب أن نسأل مصطفى كمال ما قيمة
هذا العنصر التركي في الوجود قبل أن يتشرف بدين الإسلام؟ وهل كانت قيمته
الحقيقية أكثر من قبائل متوحشة تؤجر نفسها للقتال أنى كان القتال؟ ثم إلى أين
وصل هذا العنصر بفضل هذا الدين العظيم حين استاق أمامه مئات الألوف من
الجيوش باسم الإسلام فسيطر على عمران ثلاث قارات من الكرة الأرضية ومد
سلطانه إلى شعوب وأمم من أعظم أمم الأرض؟ هل كان ذلك في العهد الذي كان
الشعب التركي وملوكه وحكامه مسلمين أم كان وهم طورانيون يعبدون الذئب
الأغبر؟ وهل المدنية الإسلامية العربية والعدل العربي اللذان مدَّا رواقهما على
الأندلس وعلى قسم عظيم من أوربا حتى ضرب بعصرهما الذهبي الأمثال كانا في
بداوة الجاهلية أم نور الإسلام؟
لندع هذا البحث الذي يهزأ المبشرون المسيحيون من أنفسهم عندما يضطرون
لاتخاذه واسطة للهجوم على الإسلام قيامًا بواجب المهنة التي يحترفونها، ونتقدم إلى
هؤلاء الكماليين نبحث معهم تحت أشعة الشمس المنيرة في مسألة الأحرف العربية
التي يزعمون أنها كانت سببًا لتأخر مدنيتهم الموهومة ثم نعطف على حديث لسعادة
الجنرال محيي الدين باشا وزير الكماليين بمصر، وما أنكره من عطف المسلمين
على الترك وكون هذا العطف المُدَّعَى لم يكن له أثر في الوجود العملي.
أما مسألة الأحرف العربية وتأخيرها للسان التركي عن التقدم، فنحن نستطيع
أن نصرِّح تصريحًا ربما رآه جمهور الناس غريبًا في بادئ الأمر إلا أنه الحقيقة
المجردة. وهو أنه لا يوجد إلى الآن شيء يسمى اللسان التركي ودون في الكتب
وقرأه الناس ويستطيع الشعب في تركيا وأوربا في صميم الأناضول والتركستان أن
يفهم جملة من جملة فهمًا صحيحًا، اللهم إلا إذا كان هناك بعض علماء الآثار
والعاديات يقدرون على حل تلك الرطانة والتكلم بها في أتفه الأمور، وهذا أعظم
برهان للتاريخ على أن المدنية التركية لا وجود لها ولو وجدت لكان لها كتب دُوِّنَت
فيها أو نقوش أثرية كنقوش المدنية المصرية.
إذا فهمت ذلك يجب أن تعلم أن اللسان الموجود الآن الذي يتكلم به الأتراك
ويعتبر أجمل الألسن الشرقية إنما هو اللسان العثماني الذي وضعه فريق من علماء
العثمانيين من الترك والشركس والألبان والعرب منذ قرن تقريبًا فجاء نصفه عربيًّا
والنصف الآخر خليط من الفارسية والتركية وبعض الكلمات الإفرنجية، وقد تعلمنا
هذا اللسان عن أساتذته واطلعنا على كثير من مؤلفاته العلمية والأدبية فلم نر عالمًا
تجاسر على الزعم بأن هذا اللسان غير اللسان العثماني، بل كان علماء اللغة
يقولون في صلب مؤلفاتهم: قاموس اللسان العثماني أدبيات اللسان العثماني نحو
اللسان العثماني [٢] وإنني لما كنت تلميذًا وجدت في برنامج الدروس اليومية أن
الساعة ١١-١٢ مثلاً هي حصة اللسان العثماني، ولم تذكر حصة لشيء يسمى
اللسان التركي، ولكن لما أعلن الدستور وصار كتاب الترك ينقلون ما يكتبه
الأوربيون بشأنهم صاروا يطلقون كلمة تركيا على البلاد العثمانية؛ لأن الأوربيين
يطلقون كلمة تركيا عليها، وكلمة تركيا بدلاً من العثمانية نسبة إلى العثمانيين، وقد
احتج فريق من علماء العرب ومبعوثيهم في الآستانة على كتابة تركيا بدلا من الدولة
العثمانية، وقالوا للأتراك: إننا شركاء في هذه المملكة بل نحن العنصر الأكبر فيها
فإطلاق هذه الكلمة افتئات على الحقيقة يستلزم ضياع شخصية الأمة العربية
والعناصر الأخرى كالكرد والشركس والألبان والروم والأرمن وغيرهم. فأجاب
الأتراك بأن هذه الكلمة ترجمة عن الإفرنجية وليست مقصودة ثم سكت العرب
فتمادى الترك.
إذا علمت هذا، وعلمت أن اللسان التركي غير موجود اليوم وأن هذا اللسان
الذي يستبدلون أحرفه العربية باللاتينية إنما معينه بل مصدر حياته اللغة العربية
وأنه قبل أن يتكون اللسان العثماني الذي يستمد حياته وأدبياته وعلومه من اللسان
العربي لم يكن لهذه العلوم والأدبيات التي يتغنى بها الترك وجود، بعد هذا العلم
تستطيع أن تحكم على مبلغ مكابرة الكماليين وجرأتهم على الكذب في حق العلم
والتاريخ والحقيقة كلها، فقد زعموا أنهم يتركون هذا اللسان العثماني بقولهم عن كلمة
(كتاب) العربية التي لا مقابل لها في التركية مثل: (كي تاب) فالمراد بتتريكها
إخراجها من عربيتها وتحريف لفظها برسمه هكذا (kItab) وهذا منتهى الحمق
والغباوة، وقد نشرت الصحف التركية التي تصدر في اليونان مقالاً للأستاذ صاحب
السماحة صبري أفندي شيخ الإسلام السابق خاطب فيه الترك بقوله: إنكم إذا استبدلتم
الحروف العربية وجب إخراج الألفاظ العربية وإحلال محلها كلمات إفرنجية؛ إذ لا
مقابل لها في التركية وعندها تخسرون على الأقل كلمات: الغازي والجمهورية
ومصطفى كمال أيضًا.. . لأنها كلها عربية.
وهنا لا ترى بدًّا من أن ننقل للقراء الكرام كلمة جميلة تستند إلى العلم
الصحيح دبَّجَها يراع الكاتب القدير الأستاذ عبد الله عنان في مسألة الأحرف اللاتينية
نشرت في صدر السياسة اليومية، ومما جاء فيها قوله: (بيد أنا لا نؤمن بما
يعلقه فخامة الغازي على هذا الانقلاب من الخير والمزايا وكل ما تدور حوله
حُجَج الغازي ومن معه من أنصار الفكرة أن الكتابة الجديدة وسيلة ناجعة لمحاربة
الأمية داخل تركيا، ونشر اللغة التركية خارجها؛ لأن الكتابة العربية بما تحتوي من
مصاعب الشكل والإعراب عثرة في سبيل هذه الغاية، والكتابة اللاتينية تبسط
القراءة والإعراب بأحرف الحركة، وربما كان في هذا القول مسحة من الوجاهة،
ولكنها مزية شكلية ضئيلة تقابلها مصاعب شكلية أيضًا في كيفية ضبط الحركات
اللاتينية، وتطبيقها بدقة على الحركات العربية، وهو ما يحرج اليوم قادة الحركة
ويضطرهم في كل يوم إلى التغيير والتبديل في ما يضمونه من قواعد الهجاء، هذا
إلى أن الكتابة العربية لا تنفرد بصعوبة الشكل والإعراب فمن بين اللغات الغربية
ما يحتوي على مثل هذه الصعوبة، كالألمانية والروسية، ففيهما يتخذ الشكل
صورة الإضافة والتغيير في أواخر الكلمات طبقًا لأحوال الإعراب ومع ذلك
فإن هذه الصعوبة لم تكن في وقت من الأوقات عقبة في سبيل التعليم ومحاربة
الأمية في ألمانيا وروسيا، أما القول بأن الحروف اللاتينية مما يساعد على نشر
اللغة التركية فهي أمنية لا نؤمن بها، فما كانت سهولة الكتابة أو القراءة وحدها
عاملاً جوهريًّا في نشر اللغات، وإنما تنتشر اللغات بتراثها الأدبي والعلمي ,
ومكانة شعوبها من المدنية والثقافة، وأهمية مركزها السياسي والاقتصادي،
وما كانت اللغة التركية في عصر من العصور لغة آداب أو علوم أو مدنية أو تجارة،
وما كانت سوى نوع من الرطانة لقبائل غازية يوم برزت هذه القبائل من قفارها
واتصلت بالمجتمع الإسلامي، فاعتنقت دينه وشرائعه، واقتبست من فيض لغته كل
ما أصبغ على هذه (الرطانة) ثوب اللغة وكل ما غنيت به وازدانت، حتى
أصبحت اللغة التركية تموج بالكلمات العربية وأضحت مدينة بكل ما فيها من بيان
وتعبير إلى العربية، بل غدت العربية روحها ولحمها، بل لقد بهرت اللغة
العربية المجتمع التركي أيام فخاره وازدهاره بفصاحتها وجمالها، فغدت لغة الآداب
والعلوم، واصطفاها المفكرون من الترك على (لهجتهم) المجدبة، فانطلقت بها
ألسنتهم وأقلامهم.
وإذا كان للتفكير التركي اليوم آثار جليلة فهي باللغة العربية التي وسع بيانها
هذا التفكير، بل إن أنفس الآثار التركية سواء في الفقه أو التاريخ أو الأدب إنما
هي بالعربية، والخلاصة أن اللغة العربية كانت بالنسبة للترك وغيرهم من الشعوب
النازحة إلى حظيرة المدنية الإسلامية لغة التفكير كما كانت اللاتينية في العصور
الوسطى بالنسبة للمجتمعات الغربية (وكانت صولتها قوية على المجتمع التركي
أيام فتوته وازدهاره، وأثرها أثيلاً في بيانه وتراثه الفكري، وكان كل ما أثاب
الترك به العربية هو تحسين خطها والافتنان في تنميقه؛ إذ كان طبيعيًّا أن تكتب
بالعربية تلك (اللهجة) التي غدت لغة بما اقتبست من العربية.
ما كانت التركية إذن في عصر من العصور لغة تفكير، وما كان لها تراث
فكري أو أدبي يغري بتعلمها ولو كتب باللاتينة، وما يعرف التاريخ للمجتمع
التركي مدنية أو ثقافة خاصة به تغري حتى الخاصة من الباحثين بتعلم لغته، كذلك
لا نعتقد أن مركز تركيا الدولي أو الاقتصادي مما يحمل على نشر التركية، فما هو
الخير إذن في الحروف اللاتينية.
(إن كتابة التركية بالحروف اللاتينية لن يحمل إلى التركية جديدًا في تراثها،
ولن تخلق أذهانًا جديدة في مجتمع آثر مفكروه في أزهر أيامه أن يفكروا بالعربية
وما هي إلا حجاب كثيف يسدل على الماضي، وقطع لصلاته، ومحو لمعالمه
ورسومه، وبالأخص نزع لآثاره الروحية.
فهل هذا ما يرمي إليه سادة أنقرة [٣] ؟ ألا ليت لا , اهـ.
أما تعريض الترك باللغة العربية وأحرفها وكونها سبب تأخرهم فقد أبطلناه لك
من أساسه وبيَّنا لك مبلغ جهلهم في عصر النور ومقدار جرأتهم على الحقيقة في
عصر الحقائق، فإذا أيدهم فيه دعاة النصرانية (المبشرون) وبعض المأجورين
من كتاب أوربا لمحاربة الإسلام وحبًّا في ذهب أنقرة، فإن ألوفًا من علماء أوربا
نفسها الذين يعرفون الإسلام والمدنية العربية والترك وحكوماتهم التي بفضل جهلها
استولى الأوربيون على كل أملاك المسلمين فجعلوهم عبيدًا بعد أن كانوا سادة الدنيا
يهزأون بهؤلاء الكماليين كل الهزؤ ويسخرون بحركتهم من جميع وجوهها.
وقد ألف أحد إخواننا الترك الأفاضل كتابًا منذ سنتين ونيف عندما فتحت
مسألة الحروف اللاتينية في المؤتمر الذي عقد في روسيا حمل فيها على هذه الفكرة
حملة كان لها أثرها في سير الحركة التي أوقفت، ولكن الروس أعداء الإسلام
والعربية لم يلبثوا أن استأنفوا القضاء عليها بما رأوه من استعداد الكماليين الذين
أولوا ما جهلوا من العالم الإسلامي وحقائقه ومن جهل شيئًا عاداه.
نحب أن نستأنف الرد على الجنرال محيي الدين باشا بعد أن زيفنا رأيه في
مسألة الدعاية التي ينشرها للكماليين بأمثال أحاديثه مع مكاتب وادي النيل في مقال
لبعض الجرائد.
يقول الجنرال: (يسأل البعض: أليس اشتراك الشعب التركي مع الشعوب
العربية في استعمال الحروف القديمة مما يؤدي إلى ارتباط القلوب وتوثيق عرى
الصداقة بين الترك والعرب؟ ونحن نجيب بالسلب ... فإن ذاك إنما هو ارتباط
صوري لا قيمة له! ! ! ولا أدل على هذا من التاريخ الذي برهن على عدم ذلك
الارتباط!
فانظر يا رعاك الله إلى هذه المكابرة ونكران الجميل؟ انظر إلى هذه الجرأة
على التاريخ إلى هذا الحد في بلد من أعظم عواصم الإسلام والعربية ينكر ما جناه
الترك من الفوائد العظيمة التي نجمت من ارتباط الترك بالعرب كل هذه السنين
ولولاها لما كان الترك شيئًا مذكورًا في هذا الوجود.
إني والله لأخجل من الرد على رجل يمثل دولته إذا حاولت أن أبين له ما
يعرفه صغار التلاميذ كما أني لشديد الأسف على هذا العداء الذي يجاهر به
الكماليون العرب ودين الإسلام وهم لولا الإسلام والعربية لما كانوا سوى طوائف
متوحشة وقفت نفسها على التخريب والتدمير والحروب وسفك الدماء.
فإذا جاز نكران الجميل بين الناس فلا يجوز أن ينكر الترك فضل العرب إلى
هذا الحد، ولا سيما في بلاد العرب نفسها.
وبعد فإني أدعو جميع الغيورين من المسلمين إلى رفع برقع مجاملة الترك،
وإلى الوقوف في وجه الكماليين للدفاع عن الإسلام قبل أن يطغى سيل إلحادهم على
بلاد المسلمين، وقد نجمت قرونه في إيران وأفغانستان، وأُذَكِّر إخواني المسلمين
أن الجمود إزاء هذه الحركات ليس كالجمود أمام حركات المبشرين.
ومن يستطع الجهاد وقتل هذه الروح الشريرة التي تمليها البولشفية على أنقرة
ولم يفعل فهو آثم قلبه، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الرافعي

(تنبيه)
وقع في هذه المقالة، وفيما بعدها كلمات يُظَنُّ أن الترك يعدونها طعنًا في
شخص رئيس جمهوريتهم مصطفى كمال باشا والأمور الشخصية غير مقصودة لنا،
وإنما نحن ندافع عن ديننا ونغار على شعب الترك الإسلامي، وقد استشرنا بعض
كبار علماء القانون في المقالتين بعد طبع الجزء وإعداده للتوزيع فأشار علينا بأن
نعيد طبع المقالتين، ونغير فيهما بعض الجمل والكلم من باب الاحتياط ففعلنا؛
ولذلك تأخر الجزء وكتبنا هذا التنبيه في الطبعة الثانية.
((يتبع بمقال تالٍ))