للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأسئلة البيروتية

س (٢٩ -٣٤) من صاحب الإمضاء في بيروت:
حضرة الأستاذ الرشيد، والعالم الفريد، السيد محمد رشيد رضا صاحب
المنار الأغر دام محفوظًا.
تحية وإجلال، وبعد فقد اطلعنا على الجزء الأول والخامس من المجلد الرابع
والعشرين من مناركم الأنور فيما يتعلق بالتحلي بلبس الذهب والفضة للرجال،
فتعذر عليَّ الحصول على ما يشفي غلتي ويروي ظَمَئِي لخفاء العبارة وعدم
التصريح بالحِلِّ أو الحرمة، وقد اطلعنا على الرسالة المسماة الأجوبة الشرعية عن
الأسئلة البيروتية، لمؤلفها الفاضل الشيخ عبد الرحمن خلف المدرس بالقسم العالي
بالأزهر، وفتوى من حضرة الأستاذ محمد شكري الآلوسي وتجدون طي هذه
الرسالة صورة الفتوى المذكورة:
(١) لتبينوا رأيكم فيهما، وألتمس من فضيلتكم إجابتنا إجابة صريحة
واضحة حسب ما يقتضيه الشرع الإسلامي الحنيف عن سؤالنا الآتي وهو:
(٢) هل يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة والنحاس
والحديد وغير ذلك من أنواع المعادن كالخاتم وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد
وإسورتها والنظارة (ما يسمونها بالعوينات) وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟
(٣) وهل هذا الحديث الآتي صحيح معتمد عام في حرمة التحلي بلبس
النحاس والحديد مطلقًا على الرجال ولو في غير الخاتم أم لا، وهو أن رجلا جاء
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه، فقال له عليه السلام:
(ما لي أجد منك ريح الأصنام) فطرحه فقال يا رسول من أي شيء أتخذه؟ فقال:
(اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً) وفي رواية أخرى: ورأى على رجل خاتم صفر
فقال: (ما لي أرى منك رائحة الأصنام) أو رأى على آخر خاتم حديد فقال: (ما
لي أرى منك حلية أهل النار) .
(٤) وهل النظارة وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها تعتبر من
الأواني أم من الحلي؟
(٥) وهل يجوز للرجل المسلم أن يتزيا بلبس البرنيطة والطربوش والبدلة
الإفرنجية (السترة والبنطلون) أم لا؟
(٦) وهل يجوز التشاؤم من الأعداد والسنين والشهور والأيام والأوقات
وغير ذلك أم لا؟ أرجوكم نشر ذلك على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع
عامًّا، وتفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
١٥ شبعان سنة ١٣٤٦
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف خطاب

معلم بمدرسة البنين الابتدائية الثانية لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في
بيروت , وقد أرسل إلينا السائل مع هذا رسالة مطبوعة في فتوى الأستاذ الشيخ
عبد الرحمن خلف وهي طويلة، وفيها مسائل كثيرة غير ما في هذا السؤال لا
يمكن نشرها هنا، وأرسل معه فتوى السيد الآلوسي، وهذه صورتها:
فتوى علامة العراق
السيد محمود شكري الآلوسي رحمه الله تعالى
في مسألة تحلي الرجال
بسم الله الرحمن الرحيم
سألتم هل يجوز التحلي بلبس الفضة للرجال كساعة الجيب وسلسلتها وساعة
اليد وأسورتها ويد العصا والختم والأزرار وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟ وهل
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) في الحديث الذي
رواه الإمام أحمد وأبو داود صحيح متعمد عليه غير منسوخ أم لا؟
فالجواب: أن مذهب أهل الحديث يُجَوِّز التحلي بلبس الفضة للرجال بجميع
ما ذكر في السؤال، والحديث المذكور معتمد عليه غير منسوخ ففي كتاب السيل
الجرار، لم يخص الدليل إلا الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة والتحلي
بالذهب للرجال فالواجب الاقتصار على هذا النقل، وعدم القول بما لا دليل عليه
بل بما هو خلاف الدليل {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: ٦٤) أما حلية الذهب فلا
شك في ذلك؛ لورود الأدلة الدالة على تحريم قليلها وكثيرها، وأما حلية الفضة
فالمانع يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل الحل وقد دل على هذا الأصل قوله عز
وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) وقوله
سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: ٣٢) .

مع ما ثبت أن سيفه صلى الله عليه وسلم كانت فيه فضة، ومع قوله صلى
الله عليه وسلم: (عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم) اهـ المقصود.
هذا ما تيسر من الجواب، والله سبحانه العالم بالصواب.
وللمتأخرين من مقلدي المذاهب الأربعة كلام غير كلام أهل الحديث الواجب
اتباعه فهم كما قال القائل:
أهل الحديث عصابة الحق ... فازوا بدعوة سيد الخلق
ونختم الكلام بعرض التحية والسلام، ٢٥ ذي الحجة سنة ١٣٤١
الفقير إليه تعالى
... ... ... ... ... ... ... ... محمود شكري الآلوسي

ثم أرسل إلينا فتويين في المسألة لصاحبي الفضيلة مفتي الشام ومفتي طرابلس
مع كتاب يسألنا فيه عن رأينا فيها بتاريخ ٨ شوال سنة ١٣٤٦ ثم أرسل فتوى
أخرى في ذلك لفضيلة مفتي بيروت مع كتاب كسابقه وذلك في ٢٩ ذي القعدة سنة
١٣٤٦، وكان هذا في بدء مرضنا الطويل الذي نهانا الأطباء في أثنائه عن الكتابة
وكل ما يكد الذهن، وإننا ننشر نص الفتاوى الثلاث أيضًا بعد نص الاستغناء
بحسب ترتيب التاريخ لبيان مذهب الحنفية في مسائلها.
***
استفتاء مفتي الشام ومفتي طرابلس في المسألة
(١) هل يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة والنحاس
والحديد، وغير ذلك من أنواع المعادن كالخاتم وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد
وأسورتها والنظارة (ما يسمونها بالعوينات) وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟
(٢) هل النظارة وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها تعتبر من
الأواني أم من الحلي فتفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
***
فتوى فضيلة مفتي الشام
الحمد لله تعالى، لا يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة
والتختيم بذهب وحديد وصفر ولا يجوز له استعمال ساعة الذهب ولا سلسلتها من
الذهب وغير ذلك من أنواع الحلي إلا التختيم بخاتم الفضة فقط، أما النظارة وساعة
الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها فليست من الأواني كما هو معلوم، وعلى
كل فلا يجوز استعمالها للرجال إذا كانت من الذهب أو الفضة كما ذكرنا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي الشام
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عطا الكسم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ٢٣ رمضان ١٣٤٦
***
فتوى فضيلة مفتي طرابلس
الحمد لله تعالى، الجواب: يحرم على الرجال التحلي بهذه المذكورات في
السؤال؛ لأنها من المنهي عنها في الأحاديث الشريفة سوى خاتم ومنطقة وحلية
سيف من الفضة وجميعها تعتبر من الحلي لا من الأواني، وأما خاتم الحديد
والنحاس فمكروه لبسهما كما في الدر المختار وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه الفقير إليه عز شأنه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي طرابلس
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنه
***
فتوى فضيلة مفتي بيروت
الحمد لله تعالى، لا يجوز للرجال لبس الحرير ولا التحلي أي التزين بذهب
وفضة إلا بخاتم ومِنْطَقة وحلية سيف من فضة لا من الذهب؛ لورود آثار اقتضت
الرخصة من الفضة بهذه الأشياء خاصة فهي مستثناة مما لا يجوز للرجال، هذا
خلاصة ما ذكره علماء المذهب في هذه المسألة كما في المتون وغيرها ومنه يعلم
أنه لا يجوز للرجل أن يتزين بخاتم من الذهب ولا بساعة أو بسلسلة ساعة أو
نظارة من الذهب أو الفضة وليست هذه الأشياء من الأواني، وفي الكنز وشرحه
للعيني: وحرم التختيم بالحجر والحديد والصفر أي النحاس والرصاص والقزدير
ونحو ذلك والذهب اهـ، وفي الفتاوى الهندية: ويكره للرجل التختم بما سوى الفضة
والتختم بالذهب حرام في الصحيح اهـ، وفي الجوهرة: التختم بالحديد والنحاس
والرصاص مكروه للرجال والنساء؛ لأنه زي أهل النار اهـ والله تعالى أعلم.
٢٠ رمضان المبارك سنة ١٣٤٦.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي بيروت
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم
***
جواب المنار عن هذه الأسئلة
(١، ٢) فتاوى المفتين في التحلي وما نختاره منها:
(١) أما فتاوى المفتين الثلاثة في الأمصار السورية الثلاثة فهي نصوص
مأخوذة من كتب مذهب الحنفية الذي التزموا الفتوى به استصحابًا لما كانت عليه
الفتوى الرسمية للمفتين الرسميين في عهد الدولة العثمانية، وإن كنا نعلم أن كلاًّ من
مفتي بيروت ومفتي طرابلس يقلدان مذهب الشافعي رضي الله عنه وعن سائر أئمة
الدين، وما نرى فيها من خلاف كحكم التختم بالنحاس والحديد هل هو الحرمة أو
الكراهة فهو لاختلاف نصوص تلك الكتب، على أن الكراهة إذا أطلقت عندهم
تنصرف إلى كراهة التحريم، وفي فتوى مفتي بيروت من الفقه والدقة ما ليس في
غيرها.
وأما فتوى السيد الآلوسي فهي مقتضى ما عليه علماء الحديث الذين يقولون
بما صح في الكتاب والسنة من غير تقليد لأحد المجتهدين، وهي فتوى مجملة يجد
السائل تفصيل أدلتها في الفتوى ٥٧ من مجلد المنار الرابع والعشرين، ولكن
السائل يقول: إنه لم يفهم المراد من هذه الفتوى؛ لعدم التصريح في كل مسألة بأن
هذا حرام أو حلال فههنا أصرح بأنني أعتقد أن الأصل في الزينة الحل بنص قوله
تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: ٣٢) وأنه لا يجوز
لمسلم أن يحرم على أناس شيئًا إلا بنص شرعي قطعي الرواية والدلالة لئلا يدخل
فيمن يقولون على الله بغير علم وينصبون أنفسهم للتشريع، وقد قال الله تعالى
لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) وقال: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: ١١٦) الآية.
وقد فسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم
ورهبانهم أربابًا من دون الله) بأنهم يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم كما في
التفسير المأثور، ولا يتضمن قولي هذا تعريضًا بالمفتين المذكورين هنا وأمثالهم
من علماء المذاهب المتبعة؛ لأن القاعدة عندهم أنهم يسألون عن نصوص المذهب
فينقلونها للسائل فهم لا يحلون شيئًا ولا يحرمون برأي ولا بدليل مستقل) .
فلما بينا في تلك الفتوى ما صح في تحريم استعمال الذهب والفضة وهو الأكل
والشرب في آنيتهما، وكذا خاتم الذهب على ما فيه من خلاف بين الصحابة بيناه
هنالك، كان ذلك بيانًا لاعتقادنا أن كل ما عداه حلال وهو ما أشار إليه الآلوسي
رحمه الله فيما نقله عن كتاب السيل الجرار للإمام الشوكاني، وكان الشوكاني من
فقهاء الحديث القائلين بتحريم حلية الذهب دون الفضة وجمهورهم لا يحرمون إلا
الأكل والشرب من الذهب كالفضة، ومنهم من يحرم الخاتم منه أيضًا.
قال الإمام محمد بن إسماعيل الوزير في كتابه (سبل السلام شرح بلوغ المرام)
في الكلام على حديث حذيفة المتفق عليه: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة
ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) قال ما نصه:
الحديث دليل على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وصحافهما سواء
كان الإناء خالصًا ذهبًا أو مخلوطًا بالفضة؛ إذ هو مما يشمله أنه إناء ذهب وفضة،
ثم ذكر الخلاف في سائر الاستعمالات غير الأكل والشرب وتحريم بعضهم لها
بالقياس عليهما من القائلين بالقياس ورد ذلك بأن شروطه لم تتم هنا ثم قال: والحق
ما ذهب إليه القائل بعدم تحريم غير الأكل والشرب فيهما؛ إذ هو الثابت بالنص
ودعوى الإجماع غير صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره فإنه ورد
بتحريم الأكل والشرب فقط فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال وهجروا العبارة النبوية
وجاءوا بلفظ عام من تلقاء أنفسهم ولها نظائر في عباراتهم اهـ , وتبعه في هذا
صاحب (فتح العلام) ونقل عبارته هذه.
وقد قلت من قبل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقدر من هؤلاء
المؤلفين المشددين المعسرين على بيان دين الله فلو أراد تحريم الاستعمال لصرح به،
وقد بيَّن لنا أن الله سكت عن أشياء رحمة بنا غير نسيان ونهى أصحابه عن
السؤال عن المسكوت عنه، وقد شرحنا هذا في بحث يسر الإسلام.
أما حديث علي كرم الله وجهه في المسند والسنن الأربع قال: إن النبي صلى
الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يده اليمنى، وأخذ ذهبًا فجعله في اليسرى ثم
قال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي) زاد ابن ماجه (حِل لإناثهم) ففيه مقال:
صحَّحه ابن حبان والحاكم وهما يتساهلان في التصحيح، وذكر الحافظ تصحيحهما
له في الفتح وسكت عليه، ولكنه قال في التلخيص: وبيَّن النسائي الاختلافات فيه
عن يزيد بن أبي حبيب وهو اختلاف لا يَضر، ونقل عبد الحق عن ابن المديني
أنه قال حديث حسن ورجاله معروفون، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على يزيد
بن أبي حبيب عن ابن أبي الصعبة عن رجل من همدان اسمه أفلح عن عبد الله بن
زرير به، لكن قال: أفلح الصواب فيه أبو أفلح، قال الحافظ: قلت: وهذه رواية
أحمد في مسنده عن حجاج عن وهيب والله أعلم، وأعله ابن القطان بجهالة حال
راويه ما بين علي ويزيد بن أبي حبيب فأما عبد الله بن زرير فقد وثقه العجلي وابن
سعد، وأما أبو أفلح فينظر فيه اهـ.
وأما حديث أبي موسى وحديث عقبة بن عامر بمعنى حديث علي رضي الله
عنه فهما أضعف منه وعللهما من الانقطاع والضعف أقوى، وقد بينت ذلك في
فتوى المجلد السابع، على أن التحريم في ذلك مجمل يمكن حمله على الحديث
الصحيح المبين للتحريم بجعله في الأكل والشرب في صحاف النقدين وآنيتهما،
وكذا في خاتم الذهب.
فأمثال هذه الأحاديث المعتلة الأسانيد المجملة المعنى لا يصح أن يُجْعَل
تشريعًا عامًّا للأمة، وأما الورع والاحتياط فيقضيان على مَن ظن صحتها أن
يراعيها في عمله ولا سيما إذا اقترن بعدم مراعاتها ما لا شك في تحريمه كالإسراف
والخيلاء وقد بينا ذلك في فتوى المجلد السابع.
***
٣ - حكم استعمال خاتم الحديد والنحاس:
الحديث الذي ذكره السائل في هذه المسألة أخرجه أصحاب السنن وصححه
ابن حبان من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه، وابن حبان يتساهل في التصحيح
وفي سنده أبو طيبة عبد الله بن مسلم المروزي قال فيه ابن حبان نفسه: يخطئ
ويخالف، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يُحتج به، وعبد الله بن بريدة
الذي انفرد أبو طيبة برواية هذا الحديث عنه قد ضعَّفه الإمام أحمد وغيره.
وقد ورد في حديث الواهبة نفسها في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لمن أراد أن يزوجه بها: (اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد) وهو
يدل على أن خواتم الحديد كانت مستعملة ومأذونًا باستعمالها؛ إذ لا معنى لالتماسه
وجعله صداقًا للمرأة إلا لُبْسه.
وتنظير الحافظ في هذا الدليل ظاهر البطلان، ونبَّه عليه صاحب عون
المعبود في شرح سنن أبي داود، على أن الحل هو الأصل، وإنما يحتاج إلى
النص في التحريم ولا يصح نص فيه، فالتحلي بهذه المعادن مباح، والله أعلم.
***
٤- الفرق بين الآنية والحلية:
قال الراغب في مفردات القرآن: الإناء ما يوضع فيه الشيء، وجمعه آنية
نحو كساء وأكسية، والأواني جمع الجمع، وأما الحلي فهو ما يتزين به زاد في
اللسان من مصوغ المعدنيات أو الحجارة، المفرد حلي كثدي، والجمع حلي بضم
الحاء وتشديد الياء كثدي، وكذا حلية قال تعالى: {أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ} (الزخرف: ١٨) وجمعه حلى بالكسر فيهما فهو كلحية ولحى، فعلى هذا لا يكون ما
سأل عنه السائل من الأواني وجهًا واحدًا، ولا من الحلي إلا ما كان منه للزينة أو
قصدت باستعماله، فآلة معرفة المواقيت لم توضع للزينة ولا سيما التي توضع في
الجيب؛ إذ لا تحصل الزينة إلا بإظهارها، ولكن قد تقصد بها الزينة ولا سيما
ساعة السوار، وأما السوار والسلسلة فهما من الحلي كما هو ظاهر.
***
٥- لبس البرنيطة ونحوها:
قد بيَّنا في مواضع من المنار أن الأصل في جميع الأزياء الحل إلا ما اشتمل
منها على سبب من أسباب الكراهة أو التحريم كتشبه المسلمين بغيرهم أو كون
الزي مانعًا من أداء الصلاة أو عائقًا عنه بحث يكون سببًا لتركها ولو في بعض
الأحوال، وقد فصَّلنا هذا تفصيلاً في المجلدات القديمة والأخيرة، ومنها جواب
سؤال لصاحب هذه الأسئلة في الجزء الثاني من هذا المجلد ورد بعد هذه الأسئلة.
***
٦- التشاؤم:
التشاؤم وَهْمٌ رديء غير لائق بالمسلم الذي يهديه دينه إلى نبذ الأوهام والأخذ
بالحقائق، وكانت العرب تسمي التشاؤم الطِّيَرة ويقولون: تطيَّر بكذا أي تشاءم؛
لأن أكثر ما يتشاءمون به حركات الطير إذا مرَّت من جهة اليسار، وهو البروح
ويسمون الطائر البارح، ويقابله السنوح، وهو المراد من جهة اليمين، ويسمى
المارّ منها السانح، وكانوا يتفاءلون به، وقد وردت أحاديث كثيرة في نفي الطيرة
وإبطال التشاؤم وبيان أنها من الخرافات، بل في بعضها أنها من الشرك منها
الصحيح ومنها المرسل والموقوف، ومن أصحها حديث: (لا عدوى ولا طيرة ولا
هامة ولا صفر) رواه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وله ألفاظ
أخرى، والهامة: البومة كانوا يتشاءمون بها وبقي هذا موروثًا من الجاهلية، ولكن
عرب الجاهلية كانوا يزعمون أن نفس القتيل تخرج من قبره في شكل طائر، ولا
تزال تقول: اسقوني حتى يؤخذ بثأره ويسمونها الهامة، وكانوا يتشاءمون من شهر
صفر، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الخرافات، وقال بعضهم: المراد
من صفر هنا تأخير القتال في المحرم إلى صفر وهو من نسيء الجاهلية.
ولكن ورد في حديث الصحيحين وغيرهما ما ظاهر بعض ألفاظه إثبات الشؤم
في المرأة والدار والفرس وهو مخالف للأحاديث الأخرى الصحيحة المعقولة من
نفي ذلك، وقد أنكرت عائشة على أبي هريرة روايته في ذلك، وقالت: إنما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن اليهود تقول هذا فسمع أبو هريرة آخر الحديث،
ولم يسمع أوله وتأوله بعضهم بما سنبينه في مقال خاص إن شاء الله تعالى.
وأما الحديث المشتهر على الألسنة (آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر)
وفي بعض ألفاظه (آخر أربعاء في صفر) فهو موضوع عزاه في الجامع الصغير
إلى وكيع في الغزو وابن مردويه في التفسير والخطيب في التاريخ وعلَّم عليه
بالضعف، ولكن قال العلامة الشيخ محمد الحوت الكبير في مجموعه الذي لخَّصه في
تخريج الأحاديث المشتهرة: إن هذا الحديث موضوع كما ذكره ابن الجوزي وغيره.
وقال العلامة الديبع في (تمييز الطيب من الخبيث) ما نصه:
(حديث) (يوم الأربعاء يوم نحس مستمر) أخرجه الطبراني في الأوسط
عن جابر وفي فضله والتنفير منه أحاديث، وكلها واهية، وكذا ما يروى في أيام
الأسبوع مرفوعًا (يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم غرس وبناء،
ويوم الإثنين يوم سفر وطلب رزق، ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس، والأربعاء يوم
لا أخذ ولا عطاء، والخميس يوم طلب الحوائج، والجمعة يوم خطبة النكاح)
أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس ضعيف أيضًا لكن يروى عن عائشة أنها
قالت: (أحب الأيام إليَّ: يخرج فيه مسافري، وأنكح فيه، وأختن فيه حسبي يوم
الأربعاء) ، هو الظاهر أن عائشة رضي الله عنها أرادت بهذا إبطال ما بقي في
النفوس، ولا سيما نفوس النساء من تأثير خرافات الجاهلية.
هذا وإن التشاؤم وهم عام في شعوب البشر كلها فالإفرنج يتشاءمون من عدد
١٣ وقلما يختارون معدوده في شيء.