للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانقلاب المدني الديني في بلاد الأفغان

إننا منذ علمنا بأن أمير الأفغان ثم ملكها أمان الله خان يعتمد على بعض
المتفرنجين والملاحدة من ضباط الترك الاتحاديين، ثم الكماليين في تدريب جيش
له وتعليمه أوجسنا في أنفسنا خيفة على هذا الشعب أن يفتنه في دينه هؤلاء الملاحدة،
وأعظم هذه الخسارة على المسلمين وسائر الشرقيين.
وكنت أتمنى لو يتاح لي لقاء بعض كبار الأفغانيين الذين يترددون بين الشرق
والغرب في هذا البلد الوسط بين الخافقين لأكلمه فيما يجب على قومه وحكومته،
وما ينبغي لهم وما يُخشى عليهم، أقف على رأيه وأطلعه على رأيي في ذلك،
وما زلت أرقب الفرص حتى علمت بأن أحد هؤلاء الرجال العاملين وصل إلى مصر
منصرفًا من بلاد الترك إلى بلاده وهو سلطان أحمد الذي كان سفيرًا للأفغان في
أنقرة فبادرت إلى زيارته في فندق (ناسيونال) وبعد الترحيب به بدأت حديثي معه
بذكر السيد جمال الدين الأفغاني وما له من الفضل في إيقاظ الشرق عامة والمسلمين
خاصة، وتوجه عقولهم وهممهم إلى ما يجب عليهم من الإصلاح الديني والمدني
السياسي في هذا العصر قبل أن تقضي أوربة على ما بقي بأيدهم من سلطان وملك
وتَحُول بينهم وبين كل عمل، ثم انتقلت إلى ذكر ما تجدد لنا من الرجاء في نهضة
الشعب الأفغاني الذي نخصه بمحبة زائدة لانتماء السيد جمال الدين إليه ونرى أنه
أولى بالانتفاع بآرائه، وقاعدتها بناء الإصلاح المدني والسياسي على قواعد الدين
الإسلامي الذي هو أقوى مقومات الشعوب بجمعه بين الهداية والفضائل الروحية
السليمة من الخرافات المفسدة للبشر، وبين طلب السيادة والملك والعمران من
الطرق العلمية والسنن والنواميس الاجتماعية.
وبينت له ههنا أن جماهير المسلمين صاروا يجهلون هذه القواعد فمنهم من
يتعصب للتقاليد الموروثة من القرون الأخيرة التي ضعُف فيها العلم والدين في الأمم
مؤيدًا بنصوص الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح لهما، ومنه كراهتهم للعلوم
والفنون والنظم التي سادت بها حضارة العصر واعتزت دوله، ومنهم من توجه إلى
طلب هذه الحضارة بتقليد أهلها في عاداتهم وأزيائهم وظواهر نظمهم وبعض
قوانينهم، وإن كانت غير ملائمة لهم في مقومات أمتهم ومشخصاتها التي هي مأخذ
تلك القوانين ومستمدها، وبذلك وقع التفرق بين شعوب المسلمين، والانقسام
والتنازع بين أهل كل شعب وجد فيه هذان الفريقان كالترك والمصريين فأضاع كل
منهما ما أضاع من ملكه واستقلاله.
كل فريق من الفريقين اللذين يتألف منهما أكثر كل شعب من المسلمين
مخطئ في فهم معنى الإسلام الديني والمدني فهؤلاء يتوهمون أنه ينافي العلوم
والفنون التي عليها مدار الحضارة والقوة والثروة، فصاروا يطلبون هذا بتركه حتى
انتهى ذلك بزعماء الترك الكماليين إلى تركه، والحرمان من زعامة الشعوب
الإسلامية المالكة لمعظم رقبة الشرق الأدنى والأوسط ولهم سهم كبير في الشرق
الأقصى، وأولئك يتوهمون وهمهم ولكنهم آثروا التقاليد الإسلامية بما أحدثوا فيها
من البدع الخرافية على الحضارة العصرية.
ولا يمكن الجمع بين الفريقين وتوحيد كل شعب إسلامي إلا بقاعدة السيد جمال
الدين الأفغاني في الإصلاح، وهذه القاعدة قد تمكنت من عقلاء المسلمين الجامعين
بين الاستقلال العقلي في فهم الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم، وبين معرفة حال هذا العصر، وما تتوقف عليه السيادة والعزة للشعوب
وحكوماتها فيه، ولكن هؤلاء العارفين بالأمرين متفرقون في كل قطر لما يصيروا
حزبًا واحدًا متعاونًا.
ومن حسن الحظ أن هذا التفرق والانقسام لم يتمكن من الشعب الأفغاني العزيز
فبناء الإصلاح فيه على أساس القواعد الجمالية الأفغانية أسهل من بنائه في قطر
إسلامي آخر، وههنا ذكرت لمحدثي أحوج ما يحتاج إليه شعبهم الآن من الإصلاح
الدنيوي وهو (١) النظام المالي (٢) تنمية موارد الثروة الوطنية من الزراعة
والصناعات واستخراج المعادن (٣) تنظيم القوى العسكرية.
وقلت له: إن اقتباس الفنون التي يتوقف عليها ترقي الزراعة والصناعة
والعسكرية واجب شرعًا، وليس فيه شيء يعارض تعاليم الإسلام، فيجب عليكم
البدء بذلك، واجتناب الفلسفة والقوانين الأوربية التي تصدم الدين فيعقبها تصادم
رجاله ورجال الحكومة وانقسام الأمة وتعاديها.
ثم قلت له: ولا يغرنكم تهور الترك الكماليين، وما يظهر لكم، ولكل من لا
يرى إلا ظواهر الأمور ومشارفها من نجاحهم في نبذ الإسلام ومعاداته، فإن فرضنا
أن ظهارة أمرهم كبطانته وخوافيه كقوادمه، وليس كذلك، فلا يجوز أن ننسى
الفروق بين الشعبين الأفغاني والتركي في تاريخهما وحالتهما الحاضرة والفرق بين
زعمائهما، وذكرته بشيء من هذه الفروق التي بينتها في مقال الجزء الماضي
الخاص بالترك.
ثم قلت له: إنكم وإن اجتنبتم ما ذكرت لا بد أن تلقوا معارضة من علماء
بلادكم من طريق الدين لما يغلب على أولئك العلماء من الجمود على التقليد لكتب
فقه المذهب الحنفي، ولكن هذه المعارضة تكون ضعيفة وإقامة الحجة فيها على
العلماء هينة، وترون من هذا العاجز ومن غير من علماء مصر وغيرها من يدلي
إلى حكومتكم بهذه الحجة التي لا يمكن لعلمائكم دحضها، فإن لم تقبلوا هذه النصيحة
فسترون من الثورات والفتن التي يثيرها الفقهاء في شعبكم الشديد التعصب القوي
البأس ما فيه الخطر العظيم.
هذا أهم ما ذكرته لسلطان أحمد يتخلله بعض حديثه، وقد أكون نقصته بعض
المسائل وزدت بعضها إيضاحًا ولو كتبته عقب لقائه لنصصته على غرّه، وأذكر
من قوله أنه اعترف بتعصب أهل بلاده وشدتهم، وبأنه لا يأمن هو على حياته منهم
بعد وصوله إليهم إذا صرَّح بما يراه ويعتقد، ومنه أن الإصلاح الفني والمالي
والعسكري الذي قلت إنه يكفيهم الآن يستلزم الإصلاح التشريعي.
قلت له: إن الشريعة الإسلامية شريعة يسر وسماحة، وهي تتسع لكل
إصلاح بشرط أن لا يلتزم مذهب واحد من مذاهب فقهائها، وأنه لا يوجد فيها شيء
متفق عليه بين أئمتها يعارض حضارة العصر فيما هو من المنافع والمقاصد
الجوهرية إلا الربا الصريح الذي توسع فيه بعض الفقهاء بأقيستهم الزائدة على
نصوص الشارع، وإن شعبكم غير مضطر في معاملاته إلى الربا، وأما حكومتكم
فاقتراضها بالربا خطر على استقلالها، فالواجب عليها أن تقتصر من العمران على
ما تسمح لها به ثروتها وأن يكون بالتدريج.
ثم إني رغبت إليه أن يعرض هذه الآراء على أميرهم بعد عودته ذاكرًا له
نصيحتنا له بالمحافظة على الإسلام وما فيه من القواعد المعنوية والسياسية ووقاية
الشعب من مفاسد الآراء العصرية الاجتماعية كالبلشفية والفوضوية والإباحية،
وذكرت له أنني رأيت أثناء سياحتي في الهند سنة ١٣٣٠ (١٩١٢) أن مسلميها
يحبون الأفغان ولهم فيهم آمال عظيمة، وكان هذا قبل الاستقلال الصحيح الذي تم
بعد الحرب الكبرى، وأن هذه الحب والأمل مما يجعل الدولة البريطانية تحرص
على مودة دولتهم، وأن إعراضهم عن الإسلام يضيع عليهم كل هذا وما هو أعظم
منه، وقلت: إنني مستعد لبيان كل ما يراه منتقدًا من كلامي فلم ينتقد شيئًا.
ثم وعدني سلطان أحمد أن يبلغ رأيي للملك أمان الله خان ولكنني شككت في
وعده؛ لأنني رأيته لم يناقشني في شيء إلا ما ذكره مختصرًا من الحاجة إلى
التشريع الجديد ثم صار الشك ظنًّا قويًّا لما رأيته اكتفى من رد الزيارة لي بإعطاء
بطاقة الزيارة إلى بواب الدار وهو راكب.
***
محادثة غلام جيلاني سفير
الأفغان في أنقرة
غلام جيلاني خان هذا ركن من أركان الاتفاق بين الترك والأفغان باتباع
هؤلاء لخطوات أولئك بأن يكونوا تلاميذ لهم وعالة عليهم في تنظيم جندهم
وحكومتهم وإنشاء شعبهم إنشاء أوربيًّا جديدًا، وقد تيسر لي الاجتماع به مرارًا في
الحجاز؛ إذ جاءها مندوبًا عن حكومته لحضور المؤتمر الإسلامي العام في موسم
الحج سنة ١٣٤٤ وقد جاء هو والمندوب التركي متأخرين عن موعد عقد المؤتمر،
وكان المقدر أن يختم المؤتمر قبل يوم عرفة، ولكن كثرة المجادلات التي أثارها
مندوبو جمعية الخلافة من مسلمي الهند اقتضى تأخير بعض جلساته الختامية إلى ما
بعد انتهاء الحج، وبذلك أدرك مندوبو الترك والأفغان هذه الجلسات.
لقيته أول مرة في أصبوحة يوم عرفة؛ إذ اتفق أن بتنا ليلتها في خيام لجنة
الأطباء الصحية؛ لأننا وصلنا إلى عرفات ليلاً، ولم نهتد إلى خيام ضيافة الملك
التي أعدت لأعضاء المؤتمر، وإنما هدانا إلى خيام اللجنة الصحية مصابيحها
العالية القوية النور، بات كل منا في خيمة وفي الصباح أخبروني بأن سفير الأفغان
عندهم فذهبت إلى زيارته، وأحضروا لنا الفطور إلى خيمته، وجلسنا جلسة طويلة
ذكرت له فيها ما في نفسي من أمر دولتهم على النحو الذي ذكرته لسلطان أحمد
بمصر، فوافقني على كل ما قلته وطمأن من قلقي وأمن من فَرَقِي بقوله: إن جلالة
ملكهم معتصم بالإسلام حريص على المحافظة عليه إلخ.
***
السعي لدى جلالة ملك
الأفغان ورجاله بمصر
لما زار جلالة أمان الله خان مصر في أول شتاء العام الماضي قابلته مع
إخواني أعضاء مجلس الرابطة الشرقية وقدمت له بعض مؤلفاتي ومؤلفات الأستاذ
الإمام فقبلها مع الشكر، ثم رغبت إلى زميلي في المؤتمر الإسلامي العام غلام
جيلان خان سفيره لدى الجمهورية التركية - وكان في بطانته - أن يأخذ لي موعدًا
بمقابلة خاصة لأعرض فيها على جلالته رأيي ورأي حزبنا الجمالي الأفغاني في
الإصلاح الذي تحتاج إليه الشعوب الإسلامية في هذا العصر كما حدثته في الحجاز
ولأقدم له تفسيري للقرآن الحكيم الذي يتضمن أقوى الحجج لهذا الإصلاح الديني
المدني السياسي؛ ليطلع عليه كبار علمائهم عسى أن يخفف من جمودهم فوعدني
بذلك مظهرًا للسرور والارتياح فأعطيته أجزاء التفسير مجلدة تجليدًا حسنًا فما زالت
عنده وما زال يمطلني في أخذ الإذن بالزيارة إلى يوم موعد سفر الملك، فلما علمت
بموعد سفره عجلت بكتابة كتاب إلى جلالته، اختصرت فيه ما كنت أريد بسطه له
بالمشافهة، وهذا نصه:
***
نص كتابي لملك الأفغان
بسم الله الرحمن الرحيم
من داعية الإصلاح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار.
إلى صاحب الجلالة أمان الله خان الملك الأول للأفغان، والمجدِّد فيها لمجد
الإسلام، وفقه الله تعالى لما يحبه ويرضاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإنني عشقت الشعب الأفغاني منذ
نشأتي العلمية بالتبع لعشق المصلح الأكبر حكيم الإسلام وموقظ الشرق السيد جمال
الدين الحسيني الأفغاني - قدس الله روحه - فقد كنت داعية له في حياته وكنت
(وقتئذ) تلميذًا، ثم اتصلت بخليفته وأعظم مريديه الأستاذ الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية - قدس الله روحه - وعملت معه بضع سنين، وما زلت قائمًا
بعده بالدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي الذي دعيا إليه وجاهدا في
سبيله كما تشهد لي بذلك ترجمتي لهما في تاريخ مستقل وتسعة مجلدات من التفسير
ألفتها على مشربهما وثمانية وعشرون مجلدًا من المنار.
لهذا أعد نفسي من أشد الناس غبطة بقيام جلالتكم بالنهضة الجديدة بالشعب
الأفغاني بعد أن تم له استقلاله المطلق في عهدكم السعيد، ثم من أعظم ساكني مصر
ابتهاجًا برحلتكم هذه إلى أهم بلاد الشرق والغرب بقصد الاختبار لأحوال الممالك
والأمم لتكونوا على بصيرة تامة في إدارة أمر بلادكم وما تحتاج إليه من الإصلاح
مع اتقاء مداحض الزلل الذي يكون شديد الخطر عند الانقلاب.
فبهذا القصد الذي أرشد إليه القرآن يُرْجَى أن تكون رحلتكم عظيمة الفائدة،
وكم من ملك وأمير ساح في الأقطار بغير نية صالحة فازداد غرورًا وفسادًا.
وإنني على عظيم رجائي في نجاحكم ودعائي بتوفيق الله لكم ووقايتكم من
ضرر فصل الشتاء الشديد الوطأة في الشمال شديد الخوف والإشفاق من سريان
عدوى الأفكار المادية إلى بلادكم فتحدث فيها ما أحدثت في غيرها من الشقاق
الداخلي واضطراب الأفكار وفساد الآداب والإسراف في الشهوات وما يقتضيها من
سقوط قوة الأمة المعنوية، التي لا تغني غناءها القوة المادية، بل لا بد لها منهما
كليهما.
ولذلك يعجب عقلاء أوربة وكبار فلاسفتها من ظن مصطفى كمال باشا أنه
يخلق الترك خلقًا جديدًا بإدخال قوانين أوربة فيها، مع أن علماء الاجتماع وعلماء
الحقوق العامة متفقون على أن القانون يجب أن يكون مستنبطًا من روح الأمة
وطباعها وعقائدها وآدابها وتقاليدها، وأن الأمة سليلة التاريخ لا سليلة القانون.
وكانت نفسي تحدثني منذ ثلاث سنين بكتابة تقرير مطول أودعه دحض
الشبهات التي أدخلها الإفرنج بسوء نية في قلوب كثير من الجاهلين بحقيقة الإسلام
من أن الإسلام نفسه هو سبب الضعف والجهل اللذين ألما بالشعوب والدول
الإسلامية بعد أن كانوا بالإسلام نفسه سادة العالم علمًا وحضارة وقوة، وبيان فوائد
الدين المطلق في كل أمة، وهي التي تحمل الأوربيين على بذل الملايين الكثيرة في
سبيل تعزيز دينهم والدعوة إليه ونشره في العالم، وبيان ما تحتاج بلادكم وأمثالها
إلى اقتباسه من علوم أوربة وفنونها وصناعتها، وما هي في غنًى عنه الآن، وما
هو خطر على مقوماتها ومشخصاتها التي كانت بها أمة ممتازة عن أمم الغرب في
دين ولغة وتشريع وأخلاق وعادات أيضًا لأقدم هذا التقرير لجلالتكم.
ولكنني كنت على حد المثل العربي (كمن يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى) لأنني
لم أكن واثقًا بأنني أستطيع أن أوصل إلى جلالتكم ما أكتبه وأن يترجم لكم ترجمة
صحيحة وتطلعون عليه.
أما وقد تشرفت بمعرفتكم الآن وقدمت إليكم بعض كتبي الصغيرة المشتملة
على أهم مقاصد الدين الإسلامي وإصلاحه للبشر فتناولتموها بيديكم الكريمتين،
فإنني أرجو أن يكون قد مهد لي لأن أوصل إليكم مرة بعد أخرى ما وصلت إليه من
المعلومات مدة اشتغالي بالدعاية إلى الإصلاح الذي يقتضيه حال هذا العصر.
وإنني أرجو أن يُتَرْجَم لجلالتكم قبل كل شيء (خلاصة السيرة المحمدية)
لأنه على اختصاره جامع لأهم قواعد الإسلام وحجته الكبرى ومزاياه على سائر
الأديان بالأسلوب المقبول لدى عقلاء هذا العصر.
ثم أرجو أن يُتَرْجم لجلالتكم مقدم كتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) ثم ما
تختارون للترجمة منه بعد النظر في فهرسه وإن لم يترجم كله، ثم أن يترجم لكم
مقدمة كتاب (الوحدة الإسلامية) ثم ما شئتم من فصوله ثم رسالة التوحيد لشيخنا
الأستاذ الإمام ولم يؤلف مثلها في الإسلام.
وهنا ذكرت له إهداء مجلدات تفسير القرآن الحكيم التي أرجعها إليَّ غلام
الجيلاني، ثم قلت:
أيها الملك الحازم
إنك قائم بأمر عظيم يتوقف النجاح فيه على علم بأمور كثيرة، ولا سيما عبر
تواريخ الأمم وتاريخ الإسلام وشعوبه خاصة ويحتاج إلى بصيرة نافذة في سنن الله
في الأمم يعين عليها علم الاجتماع، وأول ما يجب عليكم وعلى رجالكم الاعتبار به
وإطالة التفكير في أطواره تاريخ الدولة العثمانية الحديث وتاريخ مصر الحديث،
وأعني بالتاريخ الحديث ما كان منذ مائة سنة ونيف أي منذ شرعت حكوماتهما تقلد
الدول الأوربية على غير بصيرة ولا هدًى فكان هذا التقليد سببًا في ضد ما أريد به
من قوة وثروة واستقلال؛ إذ كان سببًا لانحلال (الإمبراطورية العثمانية) الواسعة،
وسببًا في احتلال الإنكليز لمصر.
ومما يجب التفكير فيها ما بين شعبكم الأفغاني وبين الشعبين التركي
والمصري من الفروق، وأهمها أن كلا منهما قد ذللته حكومته بالتجنيد النظامي أو
بحكم القهر والشدة فصارت قادرة على التحكم فيه كيف شاءت، وشعبكم لم يذلل
كذلك، وإن الأفكار والتقاليد الأوربية قد دخلت فيهما بالتدريج في مدة قرن أو أكثر،
ومع هذا كان ضررها أكبر من نفعها في كل من الأمة والدولة لعدم الجمع بينها
وبين التربية الإسلامية وعدم الاقتصار على ما تحتاج إليه الأمة والدولة كالنظام
المالي والنظام العسكري وفنون الثروة من صناعة وتجارة وزراعة إلخ.
وجملة القول أن نهوضكم بقلب أحوال الشعب الأفغاني يحتاج إلى حكمة دقيقة
وعلوم واسعة وثروة عظيمة وتدريج بطيء في كثير من الأمور، وإنما يجب
التعجيل بما ذكرنا آنفًا في بيان خطأ الترك والمصريين (وهو النظام المالي إلخ) ،
ويجب الحذر التام من حرية الإسراف والفسق والترف وتبرج النساء ومن القوانين
المخالفة لعقائد الأمة وشريعتها الثابتة بالنصوص القطعية - ولا يضر مخالفة بعض
الفقهاء في الأمور الاجتهادية كما بيناه في كتبنا التي معكم- ومن الفلسفة المادية التي
تفضي قطعًا إلى فوضى الأفكار وقبولها للبلشفية وأمثالها وإلى الفتن الكثيرة فإنه لا
واقي للأمة منها إلا الدين القويم، وهذا العاجز مستعد لكل خدمة علمية تحتاجون
إليه للتوفيق بين الحضارة العصرية والدين، والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
الإمضاء، وكتب في ١٠ رجب سنة ١٣٤٦ (٣ يناير سنة ١٩٢٨)
ودعت جلالة الملك أمان الله عند سفره مع المودعين في محطة مصر،
وأعطيت هذا الكتاب لسعادة سفيره غلام جيلاني ورجوته أن يعطيه إياه في المحطة
فوعد بذلك.
وقد لقيت في المحطة صاحب الدولة وزير خارجية حكومة الملك، وهو حموه
والد الملكة ثريا التي ولدت له في دمشق من زوج سورية، وكل منهما يعرف
العربية كالمتعلمين من السوريين والسوريات) فودعته وأظهر كل منا الأسف لعدم
التلاقي بمصر، وذكرت له كتابي للملك ورجوته منه أن يترجمه لجلالته، ثم كتبت
إليه الكتاب الآتي، وأرسلته إليه وهو في الإسكندرية قبل سفرهم منها وهذا نصه:
***
كتابي إلى وزير خارجية الأفغان
بسم الله الرحمن الرحيم
من داعية الإصلاح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار بمصر.
إلى صاحب الدولة محمود الطرزي خان، وزير خارجية الأفغان، كان الله له
ولنا حيث كنا وكان.
أحييك تحية مباركة طيبة، وقد كنت حريصًا على لقائك والتحدث معك في
النهضة الأفغانية لما سمعت من صديقي السياسي الكبير الأمير شكيب أرسلان
الشهير من الثناء عليك [١] فلم يقدر الله لنا ذلك فكتبت بعض رأيي بالاختصار
لجلالة الملك أمان الله خان، وأعطيت الكتاب لسعادة سفيركم غلام جيلاني عند
الوداع كما أخبرتكم في المحطة راجيًا من دولتكم ترجمته لجلالته، وإنه لأحوج إلى
سماع النصيحة منه إلى سماع مدح التملق والملاطفة، وإن كان حقًّا، فمجال مدح
جلالته ذو سعة.
وعسى أن تترجموا له ما أشرت إليه من مسائل كتبي التي أهديتها إلى جلالته،
ولا سيما كتاب الخلافة بعد أن تطلعوا عليه وكنت عازمًا على إهداء دولتكم نسخًا
أخرى لو لقيتكم.
أيها الوزير الكبير، لا أكتم عنك أنني في أشد الخوف على مستقبل الأفغان
مما أراه من محاولة الطفرة في نهضة جلالته بها حاذيا حذو الترك الكماليين، كما
أعتقد أن التجربة الجديدة التي شرع فيها مصطفى كمال ستكون أخسر من كل
تجربة جديدة اغتر بها الترك من قبل، وأرى جميع العقلاء المحنكين منا ومن
الإفرنج يعتقدون هذا.
فالترك يقلدون أوربة منذ قرن أو أكثر ولم يستطيعوا إلى الآن صنع أسلحة
يستغنون بها من شراء الأسلحة منها فضلاً عن البوارج الحربية بأنواعها والطيارات
والدبابات ولا أقول اختراعها.
وكانوا من عهد السلطان محمود إلى عهد مصطفى كمال كلما قلدوا أوربة في
شيء يتيهون كعادتهم عجبًا، ويظنون أنهم يفوقونها عظمة وبأسًا، جاهلين أن مثلهم
كمثل من يحاول إلباس الضخم الجثة ثوب النحيف، ومن يضع الحمل الثقيل على
البعير الضعيف، فتقليدكم إياهم على خيبة مساعيهم وما بينكم وبينهم من الفروق
التي جعلتكم أبعد عن الاستعداد منهم هو خطر على الأمة والدولة وعلى البيت المالك
أيضًا.
فانصحوا لجلالته بأن لا يغتر بالظواهر في مصر ولا في الترك فمصر لولا
إسراف إسماعيل باشا في التفرنج والمال لاستطاعت أن تملك شطر أفريقية الشرقي
كله، والترك لو ساروا على بصيرة كاليابان لاتسعت سلطنتهم في الشرق والغرب،
ولظلت كما كانت قبل نهضة أوربة أقوى دول الأرض، ولكنها زالت فلم يبق منها
إلا إمارة أقل عددًا وثروة من مصر التي كانت إحدى ولاياتها.
فإن كنتم لا توافقونني على رأيي هذا فأخبروني بشبهتكم لأكشفها لكم بكتابة
طويلة مفصلة، وإلا فاحفظوا قولي هذا وأحفظه أنا إلى أن يصدقه الزمان أو يكذبه،
بل إذا ظللتم على ما يظهر لنا من تقليدكم للترك وتهوكتم فيه، فأنا أنشر هذه
النصائح في المنار وأزيد عليها؛ ليعتبر بها من بعدنا إذا لم تظهر العاقبة في زماننا.
ولولا أنني أعتقد أن هذه النصيحة فرض عليَّ يعاقبني الله على تركه وأنها -
على ذلك - وفاء دين علينا لأستاذ نهضتنا الأكبر السيد جمال الدين الأفغاني (أحسن
الله ثوابه) يجب علينا بعده لوطنه وملك وطنه - لما كلفت نفسي أن أقابل ضيف
بلادنا العزيز بما قد يَمْتَعِض منه ولو على سبيل الاحتمال، بل أرجو أن يقابله
بالقبول والاعتبار.
وجملة القول أن الأمم بأخلاقها ووراثتها، ثم بما تتربى عليه بالتدريج جيلاً
بعد جيل (والعاقبة للمتقين) فنسأله تعالى لنا ولأولياء أمورنا أن يجعلنا منهم آمين.
والسلام عليكم أولاً وآخرًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
هذا مجمل سعيي لدرء الخطر عن الأفغان، وقد وقع ما توقعته فجلالة أمان
الله خان قد شد أواخي الإخاء بينه وبين فخامة مصطفى كمال باشا في أنقرة وتعاهدا
على ما يسميانه التجديد اللاديني من كل وجه، ولا أملك حرية لنقد أخبار تلك
الرحلة، ونتيجتها أنه لما عاد الملك إلى بلاده كان أول شيء دعا إليه قومه هو حلق
ذقونهم وإلقاء عمائمهم ونزع ملابسهم الوطنية والتزيي بالزي الإفرنجي من البرنيطة
إلى الحذاء وترك النساء للحجاب إلخ، على ما نعلم من تعصبهم لتقاليدهم الدينية
والقومية وفقرهم، وقد نصب الملك نفسه ورجال حكومته قدوة للرجال في ذلك
والملكة ثريا نفسها قدوة للنساء فصارت تحضر المجامع العامة حاسرة سافرة وتودع
التلاميذ الكبار عند سفرهم إلى أوربة والأناضول بتقبيلهم، ثم طفق يرسل ثُلَّة بعد
ثُلَّة من صغار الغلمان والبنات إلى أنقرة ليتولى الكماليون تربيتهم وتعليمهم
وإعدادهم للقيام بما يفعله الترك في بلادهم من التجديد، وقد بلغني من ثقةٍ كان في
أنقرة أن هؤلاء الصغار ولا سيما البنات يعهد بتربيتهن إلى من هنالك من الأسر
الأوربية دون التركية لعلمهم بأن أكثر نساء الترك معتصمات بالإسلام فيخشى أن
يربين البنات عليه.
وقد أظهر الشعب الأفغاني وزعماؤه معارضتهم للملك في مطالبه هذه فحاول
مقاومتهم بالقوة ووردت الأنباء بأنه قتل بعضهم ونفى بعضًا، فاشتعلت نار الثورة
في البلاد، وهذا ما كنا نعتقده وحذرناهم منه (فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد)
فلم يبالوا بنصحنا.
((يتبع بمقال تالٍ))