للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة رسائل السنة والشيعة

بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) ،
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ
تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} (الروم: ٣٠-٣٢) .
بَرَّأَ اللهُ ورسولَه محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعًا ونهى عباده المؤمنين من هذه الأمة المحمدية وحذَّرهم أن يكونوا من
المشركين الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولكن التفرق في الدين إلى الشيع
والأحزاب كالتفرق في السياسة سنة من سنن الاجتماع تابعة لدأبهم في الاتباع
والابتداع.
***
تاريخ التشيع ومذاهب الشيعة
كان التشيع للخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه مبدأ تفرق هذه
الأمة المحمدية في دينها وفي سياستها، وكان مبتدع أصوله يهودي اسمه عبد الله بن
سبأ أظهر الإسلام خداعًا للمسلمين ودعا إلى الغلو في علي كرَّم الله وجه لأجل
تفريق هذه الأمة وإفساد دينها ودنياها عليها كما فعل أمثاله في النصرانية قديمًا
وحديثًا، وسبب ذلك ما كان من العداوة والقتال بين قومه اليهود وبين النبي صلوات
الله وسلامه عليه وكانوا هم المعتدين فيه، وقد انتهى ذلك بنصر الله تعالى لرسوله
عليهم وإخراجهم من جواره في مدينته ودار هجرته، ثم أجلى عمر بن الخطاب
الخليفة الثاني بعده من بقي منهم في أرض الحجاز.
ابتدع هذا اليهودي بدعته، وأعانه عليها آخرون من أهل ملته، أظهروا
الإسلام نفاقًا ليقبل المسلمون أقوالهم الخادعة، ومنها وضع الأحاديث وغش رواة
التفسير بالخرافات الإسرائيلية وغير ذلك.
بيد أن العداوة بين المسلمين واليهود لم تطل عليها الأمد؛ لأن اليهود كانوا
مظلومين مُضطهدين في وطنهم القديم في البلاد المقدسة وما جاورها، وفي البلاد
التي تفرقوا فيها، فلما فتح المسلمون الأمصار في الشرق والغرب رفعوا عنهم الظلم
الذي أرهقهم من نصارى الروم والقوط وعاملوهم بالعدل والرحمة كالمسلمين
وغيرهم فكفوا عن الكيد لهم وفضلوا سلطانهم على كل سلطان.
ولكن بدعة التشيع كانت قد سرت وانتشرت في المسلمين بالدعاية السرية،
وكانت أقوى الأسباب في العداوة السياسية بين كبراء الصحابة رضي الله عنهم بما
كان مما يسمى في عرف هذا العصر بسوء التفاهم وحسن النية، ومن راجع أخبار
واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلاً يرى مبلغ تأثير إفساد السبئيين لذات البَيْن،
وحَيْلُولَتهم بالمكر والفساد دون ما كاد يقع من الصلح [١] .
لولا أن خلف زنادقة الفرس هؤلاء السبئيين، في إدارة دعاية التفريق بين
المسلمين، بالتشيع والغلو في علي وأولاده وأحفاده الطاهرين رضي الله عنهم لزال
خطرها بعد ترك اليهود لزعامتها السرية، ولكن الخليفتين الجليلين أبا بكر وعمر
رضي الله عنه حاربا الفرس وتم للثاني فتح جُلّ بلادهم وثَلُّ عرش كسرى والقضاء
على ديانتهم المجوسية، فأحفظ ذلك قلوب أمرائهم وزعمائهم من رجال الدين والدنيا،
وليس لذي العجز عن الثأر بالقوة الحربية إلا المكايد السرية، فتولى مهرة رجال
الفرس أمرها وكانوا أجدر بها وأهلها، فمنهم من تولى السعي لإفساد دين العرب
الذي انتصروا بتعاليمه وجمعه لكلمتهم على الفرس وغيرهم، ومنهم من تولى
السعي للإفساد السياسي بتحويل الخلافة إلى العلويين، ولما لم يجدوا منهم لزهدهم
في الدنيا من يواتيهم على كل عمل ولو غير مشروع في الدين حولوها إلى
العباسيين، ثم صاروا يكيدون للعباسيين بما كان أغرب طرقهم فيه ما قام به
البرامكة من جعل جميع إدارة ملك الرشيد الواسع وسياستهم في أيديهم، حتى تنبَّه
لذلك فبطش بطشته الكبرى بهم، وكانوا قد ملكوا عليه سويداء قلبه، مع قبضهم
على أزمة ملكه، وكان أذكى من فطن لدسائس البرامكة وإلحاد الشيعة الباطنية
ووقف على كثير من دقائقه العلامة المحقق القاضي أبو بكر بن العربي الأندلسي
كما نوَّه به في رحلته وفي كتاب العواصم والقواصم، ويليه حكيم الإسلام ابن
خلدون فقد أشار إليه في مقدمة تاريخه.
كان من تعليم غلاة الشيعة بدعة عصمة الأئمة الذين استخدموا أسماءهم
وشهرتهم لترويج سياستهم، وبدعة تحريف القرآن والنقص منه بفريتهم ثم البدع
المتعلقة بالقائم المنتظر محمد المهدي وكونه هو الذي يظهر القرآن التام الصحيح
الذي يزعمون أن عليًّا كتبه بيده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفتحهم أبواب
التأويلات لنصوصه بما لا يتفق مع شيء من قواعد اللغة، فكان قدوة سيئة لجميع
المبتدعة، دع قول بعضهم بألوهية بعض أئمة أهل البيت الموروثة عند الإسماعيلية
وغير الموروثة عند غيرهم من الباطنية، ثم دع كون غايتهم بعد الوصول إلى آخر
درجات الدعوة الكفر الصريح كما تراه مبسوطًا في خطط المقريزي وغيره.
وأهم ما يجب بيانه في هذه المقدمة أنه كان بين من أطلق عليهم لَقَبُ الشيعة
أو وَصْفُ التشيع على اختلاف تعاليمهم وعقائدهم الظاهرة والباطنة أناس من أهل
السنة والجماعة وكانوا يرون أن عليًّا رضي الله عنه أحق بالخلافة من غيره،
ومنهم من يرى أنه أفضل من سائر الصحابة أو يفضله على من دون الشيخين،
ويرون أنه أحق بالخلافة من عثمان لا من أبي بكر وعمر، ولكن لم يقل أحد من
هؤلاء ببطلان خلافة الثلاثة، وكان عدد هؤلاء قليلاً من السلف والخلف، ولكن
السواد الأعظم من أهل السنة سلفهم وخلفهم يعتقدون أن معاوية كان باغيًا على
الإمام الحق أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، وإن قدر بدهائه وسياسته على تأليف
قوة عظيمة له، ولكن الجمهور تأولوا له بأنه كان مجتهدًا أخطأ في اجتهاده.
والغرض من ذكر هذا أن اسم الشيعة كان يطلق على بعض أهل السنة
والجماعة وعلى كثير من المبتدعة الذين حافظوا على أركان الإسلام الخمسة،
وعلى فرق زنادقة الباطنية حتى إن بعض كبراء علماء الإمامية حاول جعل فرقة
الشيعة ٧٣ فرقة وفسر بذلك الحديث الذي ورد بافتراق هذه الأمة إليها ليخرج أهل
السنة والجماعة التي هي السواد الأعظم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد انقسم الشيعة الذين يحافظون على أركان الإسلام إلى غلاة أطلق عليهم
اسم الرافضة، وإلى معتدلين وهو الذي خص أكثرهم باسم الزيدية لاتباعهم للإمام
زيد بن علي رضي الله عنه الذي أبى على الغلاة البراءة من أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما فرفضوه ويوجد معتدلون في غيرهم أيضًا.
ومن الغريب أن يشتبه أمر زنادقة الباطنية على كثير من مسلمي الشيعة حتى
أهل العلم والذكاء منهم كالشريف الراضي المشهور باعتداله في شيعيته الذي قال:
ألبس الذل في ديار الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي
من أبوه أبي ومولاه مولاي ... إذا ضامني البعيد القصيّ
لف عرقي بعرقه سيد الناس ... جميعًا محمد وعلي
إن ذلي بذلك الجو عز ... وأوامي بذلك النقع ريّ
فالمراد بالأعادي عنده الخلفاء العباسيون أبناء عمومته وكان الخليفة العباسي
يعامله معاملة الأقران حتى إنه كان يفتخر عليه مخاطبًا له بمثل الأبيات التي أنشدها
الخليفة القادر بالله في آخر قصيدة يمدحه بها:
مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدًا كلانا في المفاخر معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق
فلهذا الاختلاط ترى في تراجم المحدثين والعلماء والأدباء والشعراء أسماء
رجال كثيرين وصفوا بالتشيع؛ إذ كان هذا الوصف يطلق كثيرًا على من عرفوا
بالمبالغة في حب آل البيت النبوي عليهم السلام ومدحهم وذم الظالمين لهم، وإن لم
يكن أحد منهم على مذهب أحد من الشيعة المعتدلين كالزيدية ولا روافض الإمامية،
فضلاً عن كونهم من زنادقة الباطنية، بل منهم المجتهد المستقل والمنسوب لأحد
مذاهب أهل السنة.
والشيعة الإمامية منهم معتدلون قريبون من الزيدية، ومنهم غلاة قريبون من
الباطنية، وهم الذين لقحوا ببعض تعاليمهم الإلحادية، كالقول بتحريف القرآن
وكتمان بعض آياته، وأغربها في زعمهم سورة خاصة بأهل البيت يتناقلونها بينهم
حتى كتب إلينا سائح سني مرة أنه سمع بعض خطبائهم في بلد من بلاد إيران
يقرؤها يوم الجمعة على المنبر وقد نقلها عنهم بعض دعاة النصرانية (المبشرين) .
فهؤلاء الإمامية الاثني عشرية ويلقبون بالجعفرية درجات، وينقسم جمهورهم
إلى أصوليين وإخباريين، فالأصوليون هم الذين يعرضون ما يروى من أخبار
الأئمة على أصول وضعها المتقدمون فينقلون منها ما وافقها ويردون ما خالفها،
والإخباريون هم الذين يتلقون جميع تلك الأخبار بالقبول، وإن خالفت المعقول،
وما عند أهل السنة والجماعة من المنقول، وهدمت الفروع مع الأصول، وحدث
في المتأخرين منهم مذاهب أخرى كالكشفية، ولهم في الدين فلسفة غريبة، ويرد
عليهم الشهاب الآلوسي في تفسيره (روح المعاني) .
ولهذا الاستعداد في الإمامية للغلو وقرب الكثيرين منهم من زندقة الباطنية
ظهرت منهم وراجت فيهم بدعة البابية ثم البهائية الذين يقولون بألوهية البهاء ونسخه
لدين الإسلام وإبطاله لجميع مذاهبه.
وقد نقل الإمام (المقبلي) في العلم الشامخ عن بعض العلماء أنه قال:
ائتني بزيدي صغير أُخْرِج لك منه رافضيًّا كبيرًا، وائتني برافضي صغير
أخرج لك منه زنديقًا كبيرًا، قال: يريد أن مذهب الزيدية يجر إلى الرفض،
والرفض يجر إلى الزندقة اهـ , والمقبلي سلم هذا في أفراد من الزيدية رد عليهم
لا في جملتهم.
***
سعينا للتأليف بين أهل السنة والشيعة
كان من قواعد الإصلاح التي وضعها حكيم الإسلام في هذا العصر وموقظ
الشرق السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى وجوب السعي لجميع المسلمين
والتأليف بين فِرَقهم التي يجمعها الإيمان بالقرآن المجيد المعصوم ورسالة محمد خاتم
النبيين صلى الله عليه وسلم، والاستعانة على ذلك بالسياسة التي كانت السبب
الأول لهذا التفرق الذي ألبس بعد ذلك لباس الدين، ولكن كما يلبس الفرو مقلوبًا [٢]
فكانت سبب ضعف جميع الفرق، ومن أهم أسباب ضعفهم وسلب الأجانب لملكهم.
ولا أعرف أحدًا عُني بعد السيد المصلح رحمه الله بهذا السعي كما عُنِيَ به
هذا العاجز (منشئ المنار) في أسفاره ومقامه في هذه البلاد الحرة أدام الله عمرانها،
وأتم لها استقلالها، وفي المنار كثير من الدلائل والشواهد على هذا، منها تقريظ له
من أحد علماء الشيعة الفضلاء في سورية نشر في الجزء الثاني من مجلده السابع الذي
صدر في ١٦المحرم سنة ١٣٢٢ ص ٦٦ - ٦٨ كتم اسمه في ذلك الوقت لتشديد
الدولة في منع المنار من بلادها وعقاب من يوجد عنده، ومما قال في المنار:
***
أقوال العلماء الشيعة وساستهم في المنار وصاحبه
حسنة هذه الأيام، ونتيجة سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل الساطع في
كافة الأنام، والماحي بلألائه حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة
يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في
السماء، ومن طابت أرومته، وزكت جرثومته فهو الجدير بأن يحلو جناه، وتعرب
عن طيب أصله أقواله وسجاياه.
(ومما استعذبته منه وكله عذب سائغ، تأليفكم بين فرق الإسلام ورفع
الوحشة التي نشأت عليها أحداث الأمة في الأعصر الأواخر وفشت بين العامة
والخاصة حتى فتت في عضد الاجتماع وحلت عرى الارتباط) إلخ.
ثم قال في آخره: (وحقيق بحملة العلم في كل قطر أن ترفع أيدي الابتهال
إلى ذي العزة والجلال بالدعاء لكم بدوام التأييد والمجد، والتوفيق لنصر الدين
وإيضاح الحق ودَحْض الباطل وإرشاد الضال، وجمع الكلمة وإحكام الألفة بين
المسلمين إنه على ذلك قدير بالإجابة جدير، آمين آمين) .
ولما أعلن الشاه مظفر الدين حكومة الشورى النيابية في إيران نوَّهْنَا بعمله في
(م٧، ٨ من المنار) وفضلناه بها على سائر ملوك المسلمين، وإن عارض ذلك
بعض علمائهم المتعصبين الجامدين، إذ بيَّنا أن حكومة الشورى هي حكومة القرآن،
فإذا نفذتها حكومة إيران تكون هي الحكومة الإسلامية الوحيدة.
ثم نشرنا في ج١٢م٩ رسالة جاءتنا من طهران فيما كان من تأثير ما كتبه
المنار في تلك العاصمة ذكر فيها مرسلها أن الجرائد الفارسية ترجمت مقالتنا
(الشورى في بلاد إيران) فاعترض عليها سفير الدولة العثمانية الأمير شمس الدين
بك وكتب بذلك إلى وزير الخارجية (علاء السلطنة) كتابًا أغلظ فيه، وزعم أن ما
نقلته الجرائد عن المنار أسباب يلقيها أعداء الدولة لإيقاع النفاق بين الدولتين،
وإحداث الشقاق بين الفريقين إلخ، وذكر أن وزير خارجية إيران أجاب السفير
التركي بأن كاتب المقالة ليس من رعيتهم حتى يؤاخذوه ... إلخ.
ومما قاله صاحب هذه الرسالة في أولها: إن أول من ترجم مقالة المنار هو
ذكاء الملك في جريدته (تربيت) فنبه علماء الفرس وسواسهم وذكر لهم بعد
الترجمة (أن منزلة ومقام حضرة حكيم الإسلام وفيلسوفه السيد محمد رشيد رضا
عند جميع أهل الأقطار من المسلمين وخصوصًا العرب الكرام بمنزلة مائة عالم
مجتهد من أهل التشيع، فاغتنموا الفرص وفكروا أيها السواس في مقالة هذا الحبر
واقرءوها على المنابر وفي المعابر) .
وذكر صاحب الرسالة أن صاحب جريدة (مجلس) نقل الترجمة وما قالته
جريدة (تربيت) في جريدته، وإنها جريدة يقرؤها في طهران وسائر إيران الكبير
والصغير والذكر والأنثى، وإن مديرها السيد محمد صادق نجل السيد محمد
الطباطبائي المجتهد الشهير.
وذكر أيضًا أنه حضر في إثر ذلك مجلسًا غاصًّا بطلاب العلوم الدينية في
طهران فتذاكروا في المسألة وما جرى بين السفير التركي ووزير خارجيتهم فقام
أحدهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه وكان مما قاله:
(انفتحت علينا أوربة وأتانا أهلها من كل حَدَب ينسلون: هذا تاجر وهذا
سائح وهذا حكيم والآخر داعٍ إلى دينه والقصد من الكل ابتلاعنا معاشر أهل الإسلام،
فإن تيقظتم وإلا فأنتم صبوحهم ونحن غبوقهم لا سمح الله بذلك.
أيها الترك! تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئًا، ولا نتخذ المستبدين أربابًا من دون الله طاعتهم كطاعته ومعصيتهم كمعصيته،
بل نجادلهم بالسيف والسنان، والقلب واللسان، فإن توليتم فنشهدكم بأنا مسلمون
ونبرأ إلى الله من المستبدين الخائنين، ومستمسكون بقوله عز من قائل في وصف
المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) وهم الذين قال فيهم:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: ٤١) .
هذا مثال مما كنا ندعو إليه ونسعى له سعيه من جمع كلمة المسلمين، وتأييد
المحسنين منهم وتفنيد المسيئين، ولا تزال كذلك إن شاء الله تعالى حتى يأتينا اليقين،
ولكن هذا الذي أرضى عنا جماعة المسلمين المنصفين، قد أغضب علينا
المتعصبين المفرقين، وإنما اشتد علينا غضبهم في هذه السنين، بعد أن أظهر الله
تعالى دولة السنة باستيلاء إمامها عبد العزيز آل سعود على مهد الإسلام، وقيامه
بإحياء السنن، وهدم مباني البدع، فأيدناه ودافعنا عنه كما يجب علينا شرعًا، وكما
شرعنا من قبل في تأييد دولة الشاه مظفر الدين الشيعية فيما كنا ندعو إليه الدولة
العثمانية، من إقامة حكومة الشورى الإسلامية، على ما بين الحكومتين من البَوْن
البَيِّن، وما بين الشعبين من الفرقان المبين وليس بهين، فكان خصومنا في تأييد
دولة السنة فريقين: دعاة الإلحاد وغلاة الروافض.
***
تعصب صاحب مجلة العرفان
للشيعة مجلة عربية اسمها (العرفان) كنا نَعُدُّ صاحبها من المعتدلين ونحسبه
من أصدقائنا وأعواننا على جمع كلمة المسلمين، على ما نرى من احتذائه في تأييد
مذهبه وأهل فرقته الإمامية، حذو مجلة المشرق اليسوعية في تأييد الكاثوليكية،
وقد كان كتب إلينا في ٣٠ رمضان سنة ١٩٢٧ رسالة ينكر فيها ما عزوناه إلى
الشيعة من إباحة الجمع بين تسع نسوة، واستطرد فيها إلى الطعن في رسالة عالم
من ثقات العلماء أرسلها إلينا من بغداد ذكر فيها بثَّ الشيعة لمذهبهم في بدو العراق،
وهي الرسالة التي ذكرت في الفصل الأول من مقصد رسالتنا هذه، ولكنه على
شدة لهجته في الإنكار، لم يكن قد بلغ من شدة التعصب ما بلغه في هذه الأعوام،
بل كان متحليًا بشيء يعتد به من الأدب والإنصاف، فقد افتتح رسالته بقوله:
(كتابي إلى مولاي الأستاذ الحكيم، بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
كتاب معجب بما له من الأيادي البيضاء في إصلاح الأمة ورفع (منار) الإسلام
وإرشاد المسلمين إلى الطريق الأقوم والصراط السوي، بيد أني أعتقد أنه لا بد
لجواد أن يكبو، وللصارم أن ينبو) .
ثم ذكر المسألة التي أنكرها، وأحسن ما قاله في هذه الرسالة إنكاره نقل
المخالف في المذهب، ووجوب أخذ أقوال كل طائفة من كتبها دون كتب المخالفين
لها، وقوله في ذلك.
فإني رأيت كثيرًا ما ينسب السنة إلى الشيعة ما يتبرءون منه وما لم يوجد في
كتبهم المعتبرة، وكذلك يفعل علماء الشيعة، وخذ لذلك مثالاً ما ينسبه أكثر المسلمين
إلى الوهابية من المقالات الشنيعة والاعتقادات الفاسدة، ولو راجعنا كتبهم لألفيناهم
يتبرءون منها ولم يكن علاقتهم بها إلا كقول الشاعر:
إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو
ثم استطرد بمناسبة الخطأ في النقل إلى الإنكار على رسالة ذلك العالم السائح
التي أرسلها إلينا من بغداد، وذكر ما نشره من الرد عليها في مجلته العرفان.
وقد نشرت رسالته هذه في (ج١١م١٢ من المنار) مع تعليق بدأته بالشكر له
على بيانه وذكرت فيه شدة كراهتي لعصبية المذاهب وختمتها بأن نشري لرسالة
ذلك العالم السائح من باب النقل، وإن الناقل عدل ثقة عندي، ولكنه قد يخطئ
ويصدق بعض الروايات الباطلة.
فهكذا كنا وكان زميلنا وصديقنا من قبل صاحب مجلة العرفان المفيدة على
عصبيتها في بث العلم والأدب، وهذا ما كان يصرح به من افتراء الناس على
الوهابية وكذبهم في الطعن عليهم.
ثم اشتدت حماسة الرجل وغلا في الرفض فصار يطعن فينا كلما سنحت له
فرصة ولا سيما بعد ظهور دولة السنة التي يلقبها هو وأمثاله بالوهابية ويجعلون
الوهابية (أي السنة) مما لا يتفق مع الإسلام في عقائده ولا في أحكامه ويقر ما
كان أنكره من الطعن فيهم وبرأهم منه.
***
زعيم الرافضة وعدو السنة
ثم انتهى أمره بالتنويه بالكتاب الجديد الذي لفَّقَه أشد علماء الروافض في هذا
العصر تعصبًا وطعنًا في عقائد أهل السنة، وخداع عوامهم بما يبث من الدعوة إلى
الرفض وما فيه من الخرافات والبدع، وهو الشيخ الملا السيد محسن أمين العاملي.
أظهر ملاحدة الترك معاداة الإسلام والبراءة منه والطعن فيه وإجبار قومهم
على الارتداد عنه فلم يظهر من هذا الشيخ العاملي أدنى غيرة عليه ولا أقل دفاع
عنه.
وظهر من ملاحدة إيران الشيعية وملاحدة الأفغان السنية بوادر الاقتداء
بملاحدة الترك في شر ما عادوا به الإسلام وسعوا في هدمه، فلم نسمع عنه ولم
نقرأ له كلمة إنكار ولا نصيحة لهؤلاء المغرورين الأغرار بأن يدعو لهذه الشعوب
حريتها في دينها، وكذلك صاحب المجلة التي تنشر له دعوته وتنوه بكتابه (الشيخ
عارف الزين) .
بل فشا الكفر البواح، والفسق الصراح، وتهتك النساء وذهاب الأعراض
أدراج الرياح، وكثر دعاتهما في سائر الأقطار الإسلامية، إلا نجد والحجاز
واليمن، ولم نر منهم غيرة على الدين، ولا على أعراض المسلمين، وإنما ظهرت
غيرتهما على الدين بل الرفض المبين لَمَّا أيد الله إمام السنة في هذا العصر
(عبد العزيز آل سعود) ورأيا أن السنة تنفذ بالفعل وهياكل البدعة تُهْدَم في مهد
الإسلام، فإن أكثر البدع والخرافات إنما جاءت من غلاة الشيعة وهم حُمَاتها ودُعَاتها
وهي مرتزق زعمائها، وعليها مدار جاههم العريض، ومنهم سرت عدواها إلى طرق
الصوفية الذين ينتسبون كلهم إلى آل البيت بالباطل إلا طريقتين من الطرق المشهورة
وهي المَوْلَوِيَّة التي أيدها الترك مباراة للروافض، والطريقة النقشبندية الخفية التي
ليس لها تقاليد ولا مظاهر بدعية، وإنما ينكر عليها المعتصمون بهَدْي السلف مسألة
الرابطة والتزام الذكر غير المأثور.
***
سعينا للتأليف بين الوهابية والشيعة
اَمَا والله إنني لم أكن أرى في طريق الدعوة إلى التأليف بين المسلمين عقبة
يعسر اقتحامها إلا التقريب بين الشيعة ولا سيما غلاة الإمامية وأهل السنة السلفيين
الملقبين بالوهابية، وقد جرى بيني وبين جلالة الملك فيصل حديث طويل في هذه
المسألة لما كنا في دمشق، وكان أهم غرض لي في مقابلته المعروفة بمصر سؤاله
عن مبلغ خبرته في ذلك، وأما البحث في هذا بيني وبين أصحابي من عقلاء
الشيعة والسنة في مصر وسورية وغيرهما فكثير، ومن ذلك ما كان من سعيي
للتأليف بين الفريقين عندما سافر سفير دولة إيران السابق إلى مكة المكرمة للقاء ابن
السعود وقد زودته بكتاب إليه في ذلك وحمل هو إليَّ من ابن السعود كتابًا بل كتبًا
أخرى تتعلق بالمؤتمر الإسلامي العام، ولكن هذا السعي لم يثمر الثمرة المَرْجُوَّة،
كما أثمر من قبله السعي إلى التأليف بين الإمامين الجليلين يحيى وعبد العزيز
أحياهما الله وأعز بهما الإسلام والعرب.
ذلك بأنه ليس بين مذهب الزيدية ومذهب السنة من البُعْد كما بين الروافض
وأهل السنة، وقد كتبت إلى كل من الإمامين أدعوه إلى الاتفاق مع الآخر قبل فتح
الحجاز بسنين، فأجاب كل منهما إلى ذلك بالارتياح والقبول، ودارت بينهما
المكاتبات الودية في ذلك على ما طرأ من أسباب الخلاف، وما كان من سعي أهل
الفساد لإلقاء العداوة والبغضاء بينهما وإغراء كل منهما بقتال الآخر، ونسأل الله
تعالى أن يتم النعمة بنجاح ما نسعى له ويسعى له غيرنا من عقلاء المسلمين وأهل
الغيرة منهم بعقد المحالفة التي تكون أقوى الوسائل لحفظ جزيرة العرب من التعدي
على استقلالها، ولبلوغها أقصى ما هي مستعدة له من العمران وإحياء حضارة
الإسلام.
ولما رأيت ما رأيت من سوء أمر مؤتمر النجف لشيعة العراق، ومن أمارات
نشر الإلحاد في إيران والأفغان، ومن تجديد الشيخ العاملي في تواليفه والشيخ
عارف الزين في مجلته الطعن في السنة وتنفير المسلمين من دولتها الوحيدة في
إقامتها ونصرها، ومن بث الرفض والخرافات بين المسلمين، رأيت من الواجب
عليَّ أن أظهر للمسلمين ما يخفى على جمهورهم من الحقائق التي لم يكن العاملي
ولا الزين يعلمان بوقوفي عليها لعلهما يفيئان إلى أمر الله، فكتبت الفصول التالية
بهذه النية و (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) .
وكنت عند البدء بالكتابة عقب اطلاعي على كتاب العاملي الجديد وما فيه
الطعن الباطل في السنة باسم الوهابية، وفي شيخ الإسلام المصلح الكبير ابن تيمية،
ومن تشريفي بطعنه فيَّ وبهتانه عليَّ، كنت عند البدء بذلك عازمًا على
الاختصار، والاكتفاء بما ينشر في المنار، ثم جاءتني مجلة العرفان، فإذا هي بعد
اطلاعها على الفصل الأول في المنار قد أسرفت في البهتان، والبغي والعدوان،
والشتم والسب والكذب والإفك فرأيت من الواجب في نصر السنة ودفع البدعة، أن
أتوسع في الكتابة، ونشر ما أكتبه في رسالة أو رسائل مستقلة.
ثم جاءتني بعد ذلك جريدة أم القرى حاملة تفصيل ذلك النبأ العظيم، نبأ عقد
المؤتمر الإسلامي في الرياض عاصمة نجد، الذي هو الحجة الكبرى على انفراد
حكومة ابن السعود بإحياء حكومة الخلفاء الراشدين في الأرض، فشحذ ذلك غرار
عزمي على نصرها وشد أزرها، ومجاهدة أعداء الله ورسوله من الطاعنين فيها،
وفي هذا العصر الذي نرى الحكومات الأعجمية تفضل شرائع أعدائهما على
شريعتهما، وفسادهم على إصلاحها والإلحاد على دين الله وهو الإسلام، والعصبية
العمية على الوحدة وجماعة ملة محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنني أعتقد اعتقادًا جازمًا بما تيسر لي من الاختبار الطويل بأن هذه
الخرافات والبدع التي كان التشيع مثارها الأعظم ستقضي على الإسلام إن لم يقض
المصلحون عليها، وإن سيرة ملاحدة الترك في الصد عنه برهان على ذلك فإنهم
يصورون لعامة أهل بلادهم تلك الخرافات الفاشية في الأولياء والصالحين بأقبح
الصور المنفرة، ومن ذلك أنهم نبشوا بعض قبورهم وأروا الناس بأعينهم رميم
عظامهم، وعجزهم على الدفاع عن أنفسهم وعن مراقدهم ... وطالما صرَّح المنار
بإثبات فنائهم وأكل الأرض لأجسادهم وشرك الذين يدعونهم كما يدعون الله تعالى
لجلب النفع لهم ورفع الضر عنهم.
وإنني أدعو عقلاء المسلمين كافةً، والمخلصين في إسلامهم من عقلاء الشيعة
المعتدلين خاصةً أن ينهضوا معنا نهضة جريئة لإحياء عقيدة التوحيد الخالص،
والقضاء على عبادة الميتين، من أئمة أهل البيت الطاهرين، ومن سائر الأولياء
الصالحين، وعن التمسك بما يدعيه فقهاء الشيعة الجامدين، من تلقي الدين والفتوى
من سرداب سامرا حيث اختبأ المهدي المنتظر فإن هذا التشريع لا يقبله أحد من
عقلاء البشر، ومن بيَّن لي أنني على خطأ فيما دعوت إليه بالدليل فإنني أرجع إلى
قوله من قريب {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: ٨٨) .
((يتبع بمقال تالٍ))