للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


كتاب العالم الإسلامي في الأملاك الفرنسوية

تحت هذا العنوان قد ظهر مؤخرًا كتاب جدير بالمطالعة، حقيق بأن يتنبه له
المسلمون المفكرون؛ لا لأنه من الكتب التي تَذُبُّ عن حقائقهم وتناشد الأمم الأوربية
إنصافهم؛ بل لأنه بالعكس من ذلك يتضمن من السموم بحق الإسلام والمسلمين ما
ندر أن عثرت به في كتاب آخر مع أني طالعت في هذا الباب ما يفوق الإحصاء.
يمتاز هذا الكتاب عن غيره بأنه يضع هذه السموم في قالب غير خشن وكثيرًا
ما يريد إنصاف الإسلام في توافه الأمور، ويمتدح من أوضاعه ما ليس في
الاعتراف به كبير جدًّا، حتى إذا وصل البحث إلى المسائل الأساسية أظهر المؤلف
كل ما في قلبه من العدوان وذهب في التحامل أبعد المذاهب، وقد أخطرت ببالي
خطته هذه نكتة وقعت عندنا في جبل لبنان وهي: أن بقالاً شكا إلى مدير إحدى
النواحي أحد الأهالي الذين يبتاعون من دكانه أنه أصبح مديونًا له بمبلغ غير قليل،
وأنه يلويه بدينه، وقد طالبه به مرارًا ولا يزال يماطله، فاستدعى المدير ذلك
الرجل المديون وسأله عن سبب ليانه بدين البقال فأنكر هذا وقال له: إني حاضر
لمحاسبته وستراني دافعًا له كل ما يثبت له في ذمتي، فأمر المدير البقال أن يأتي
بدفتره فجاء ومعه دفتره وبدأوا بالحساب أمام المدير، فكان المديون وهو رجل فقير
كلما قرئت عليه نبذة من قبيل: بعشر بارات ملح، وبخمس بارات بهار وبعشرين
بارة ينسون، يهتف هذا عندي: أو يقول من عيني هذه وعيني هذه أنا لا أفر من
الحق، فإذا وصل البقال إلى النفذات المهمة بثلاثين قرشًا طحين، بعشرين قرشًا
صابون، بخمسة عشر قرشًا أرزًا إلخ، صاح اذكر الله يا هذا أنا متى اشتريت منك
هذا؟ وأخذ يناكر ويجادل، وقد يقسم أنه لا علم له بهذه النفذات، والحاصل أنه لا
يعترف إلا بما ثمنه زهيد لا يستحق أن يتكلف البقال مشقة الشكوى والأخذ والرد
من أجله.
ومن قرأ هذا الكتاب عرف أنه على هذا النمط لا يعترف بفضل الإسلام إلا
فيما لا طائل تحته، وأنه يحاول غمط محاسنه الجوهرية.
ومؤلفه ضابط فرنسي اسمه جول سيكار Sicarsd jules مترجم أول في
الجيش الإفرنسي، وقد أهداه إلي المسيو ستيغ الذي كان المشرف العام على
السلطنة المغربية، واستعفي منذ أيام قلائل، وأصل الكتاب عبارة عن دليل اقترحه
قائد الجيش الفرنسوي الذي يحتل بلاد الرين من ألمانية لأجل العمل به في إدارة
التوابير الفرنسوية التي فيها جنود مغاربة فأنت ترى أنه كتاب رسمي حكومي معتمد
على أقواله وآرائه في معاملة العساكر المسلمين الذين في الجيوش الفرنسوية وليس
بكتاب راهب ولا قسيس غير مسئول ولا بتأليف مبشر جَوَّابٍ في الأقطار كلما
ذكرت تهوره لقومه أجابوك: هذا مبشر موسوس مهوس في أمور الدين ونحن لا
نبالي كلام هؤلاء المبشرين.
ولقد كنت اطلعت على هذا الكتاب منذ أشهر ولما لم يكن عندي متسع من
الوقت للرد على جميع ما فيه من مواضع الاعتداء على الإسلام اكتفيت بوضع
علامات على أهمها، ووعدت نفسي بمراجعة هذا العمل في وقت مناسب، ولا
أعني أني أصبحت اليوم ذا ندحة كافية من الوقت لإعطاء هذا الرد حقه، ولكني
رأيت أنه لا بد من أن ننبه المسلمين إلى ما في هذا السفر الخبيث من الأباطيل
المدسوسة على شكل دس السم في الدسم، وسبق أني نبهت إخواننا المغاربة إلى
ذلك في رسالة بعثت بها إلى جريدة (وادي مزاب) الصادرة في الجزائر والتي هي
من الجرائد الفاضلة وضربت مثلا على تحامل المسيو سيكار هذا بما نقله إلى كتابه
عن مؤلف آخر اسمه (ديولافوي) Dieulafoy في حق الرسول صلى الله عليه
وسلم وهو قوله:
(كان يستأكله طمع هائج وشوق لاعج إلى التمتع بجميع الخيرات التي يمكن
الحصول عليها بواسطة الحظ والقوة ولقد وضع تحت تصرف شهواته قوة عقلية
نادرة المثال وثباتًا لا يتزعزع) .
فقلت في الرد عليه: لم نعلم ما الخيرات الدنيوية التي قصدها النبي صلى الله
عليه وسلم وجاهد من أجلها، وما تلك الشهوات التي استخدم السلطان في سبيلها.
الحق أن الرسول عليه السلام لم يكن عنده طمع هائج إلا في نشر كلمة
التوحيد، ولا شوق لاعج إلا إلى استئصال عبادة الأوثان وكسر هاتيك الأصنام في
جزيرة العرب وغيرها، ولم يقصد من وراء قوته ملكًا ولا إمارة لنفسه كما يعلم كل
أحد، ولا بسطة في المال والعقار؛ لأنه عاش فقيرًا ومات فقيرًا، وطالما وجد
مديونًا بشيء ليس بذي بال، مع أنه وجد بين صحابته الموسرون الكبار كعثمان
وطلحة والزبير وغيرهم ممن كانوا يفدونه بحياتهم فكيف كانوا لا يفدونه بمالهم لو
رضي هو بذلك لنفسه، وإنما كان يستجيدهم البذل في تجهيز بعوث المسلمين
والمصالح العامة.
وأما إنه تزوج بكثير من النساء مما لا يزال يتقعر به بعض الأوربيين فهذه
سنة الأنبياء ولقد تزوج أنبياء بني إسرائيل أكثر منه ولا يزالون أنبياء في نظر هؤلاء
المنتقدين المصدقين بالتوراة، وأغرب من هذا أن داود مروية عنه في التوراة حادثة
(أوريا) وأنه أحب امرأة وقتل لها بعلها وهو برغم هذا معدود من الأنبياء [١] فنبي
الإسلام كان يأمر بالزواج والإكثار منه ويكره التبتل وينهى عن الرهبانية ويقول:
(تزاوجوا [٢] تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة) أو نحو ذلك.
وهذه هي القاعدة العصرية بعينها فاليوم الأوربيون مجمعون على أن أحسن
الأمم مستقبلاً أكثرها نسلاً فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم في هذا
الرأي، ولعمري متى كان الزواج حلالاً بل كان من السنن الإلهية التي لا يعمر
الكون إلا بها، فما معنى انتقاده من جهة الكثرة؟ وما معنى الافتخار بالتبتل وقطع
النسل الذي كان ينبغي أن يعيش ليسبح بحمد الله ويزيد في عمارة الأرض، ولقد
ثبت زائدًا إلى ذلك بتقارير الأطباء من الأوربيين بعد الاطلاع على الحوادث الكثيرة
من المستشفيات وغيرها أن التبتل يورث أمراضًا كثيرة وأن المتبتلين المخالفين
لمقتضى الطبيعة البشرية يضطرون إلى ممارسة أمور يُسْتَغْنَى عن ذكرها بالإشارة
إليها من طرف خفي ... وإنها قد تقع مع أشد الناس تدينًا وترهبًا، وإن من هؤلاء
من يريد التخلص من أزمة الاتعاظ هذه فيخصي نفسه، فهل على هذه الحالة يأسف
دعاة التبتل ومنتقدو الزواج الذي أحله الله أم على الزنا وغيره من الممارسات
الشائنة المضرة بالعقل والبدن التي يدعو إليها الاكتفاء بالمرأة الواحدة التي إذا
تجاوزت الستين وأحيانًا الخمسين وأصبحت من الكبر بحيث لا يهفو إليها قلب
زوجها تعرض زوجها لكبيرة الفاحشة وللتجاوز على حرم الغير.
وانتقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة القتل وسفك الدماء ونسبوا إليه
القسوة [٣] وأخذ بعض المستشرقين يبحثون عن وقائع الإسلام الأولى وغزوات
النبي وأصحابه ليستخرجوا منها أدلة على دعواهم، وجواب هذا كالجواب الأول
وهو أن النبي قاتل من أجل إبطال الشرك ورحض العقول من عبادة الأحجار
والتماثيل من العجين والسجود للشمس والنار ... إلخ، وهذه هي المعرات التي
تهوي بالنوع الإنساني إلى الدرك الأسفل، ولم يكن ليستغني عن إرهاف الحد في
سبيل التوحيد ولو كان قادرًا أن يستغني عن شهر السيف لكان أحب شيء إليه،
ولو أن الوعظ وحده كان جازيًا ما لجأ صلى الله عليه وسلم إلى السيف، هذا إلى
أنهم كانوا قد أهانوه وأخرجوه وحاولوا قتله وقتل دعاية التوحيد معه، وهذا أمر قد
سبقه إليه موسى عليه السلام، وأنبياء بني إسرئيل ولم يخرجهم ذلك عن كونهم
أنبياء حتى في نظر هؤلاء المنتقدين، وكذلك غنم أموال الأعداء واسترقاق بعضهم
بعد الغلبة عليهم كان ذلك من أوضاع تلك القرون وكان القتال بدونه متعذرًا، ولقد
جاء في التوراة من هذه الوقائع ما هو أعظم من هذا بكثير، ولعمري لماذا لا
ينتقدون أعمال أنبياء بني إسرائيل الجارية بأمر الله تعالى ثم لماذا لا ينتقدون كلثين
أحد مؤسسي البروتستانتية الذي ثبت أنه أحرق أناسًا بالنار، ثم لماذا لا يفكرون في
الغنائم التي تتقاسمها الدول الأوربية اليوم من أموال العدو وأملاكه، وهي ما
يطلقون عليه اسم الغرامة الحربية، وهو لا يفترق في شيء عن تلك الغنائم إلا من
جهة القلة والكثرة، فالغنائم التي كان يقسمها الرسول على المجاهدين في سبيل الله
كانت بعض أباعر وشياه وأوقار من حنطة أو شعير مما لا يقطع شأفة قوم ولا يقسم
ظهر أمة، ومما يعتاض منه ويسهل تجديده، ولكن دعاة المدنية الأدعياء اليوم
يضربون الغرامات التي تدكدك الجبال فكيف الرجال ويسترقون الأمم لا الأفراد
ويضمون كل ذلك إلى خزائنهم لينالوا به السعة والثروة ورفاهية العيش، والرسول
صلى الله عليه وسلم لم ينشد في مغازيه كلها ثروة ولا رفاهية معيشة ولا قصد
بفتوحاته عزًّا ولا سلطانًا، وإنما كان عزه وسلطانه تلقين شهادة لا إله إلا الله وأينما
عرف بصنم في الجاهلية أمر بكسره.
فمن هنا تعرف مقدار تحامل (سيكار) و (دولافوي) وأضرابهما على محمد
صلى الله عليه وسلم وما يرمونه به مما البراهين ساطعة كالشمس على بطلانه،
ولم يكن الرسول قاسي القلب ولا تشدد إلا عندما كان الإسلام في ضعف وفي مقام
المقابلة بالمثل، وأما في الحقيقة فلقد كان رءوفًا رحيمًا، وفينا أمينًا برًّا، وعندما
أرسل عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في سرية أقعده بين يديه وعمَّمه بيده،
وقال: (اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله ولا تغلّ ولا تغدر ولا
تقتل وليدًا) وعندما سار أسامة لغزو الشام قال له أبو بكر ما يلي:
(ولا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأةً
ولا تعزقوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا
بعيرًا إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرَّغوا أنفسهم إلى الصوامع فدعوهم وما فرَّغوا
أنفسهم له، وإذا قدم لكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه، يا أسامة اصنع ما أمرك به
رسول الله ببلاد قضاعة ولا تترك من أمره شيئًا) .
فأبو بكر رضي الله عنه إنما كان يلقن أسامة وصايا رسول الله نفسه وهذه
الوصايا هي أعلى جدًّا من وصايا الأمم الأوربية (المتمدينة) التي تجيز قتل
الأطفال والنساء والعاجزين بالطيارات، وتصب من السماء عليهم القناطير وألوف
القناطير من الديناميت بدون تأمل فيما يهلك بها من المخلوقات، التي يأنف الشهم
الكريم أن يقذف عليها بحصاة.
وأما عدم قطع النخيل، وما شاكله وهو محرَّر أيضًا في الشريعة الإسلامية
مع منع هدم البيوت ومنع قتل الأنعام في بلاد العدو ومنع قتل المُدْبِر فقابِلْه بما عمله
الأوربيون في الحرب العامة بعضهم ببعض من حرق وقطع وحطم ونسف عمران
وخنق بالغاز وغيره.
وأما ترك الرهبان يتعبدون في صوامعهم فقابِلْه بما جرى في الحرب العامة
من الاعتداء على الرهبان والراهبات وسل الفاتيكان عن الذي حل بالراهبات ...
في بلاد لا نريد أن نسميها وأغرب شيء فيه أنه ثبت كون الفاعلين بالراهبات لم
يكونوا من جنود الأعداء بل من جنود تلك البلاد نفسها.
وبعد هذا لا يستحي سيكار وديولافوي ولامنس اليسوعي وهو من المؤلفين
الذين يستشهد بهم صاحب كتاب (العالم الإسلامي في الأملاك الفرنسوية) وكثير
من هذه الطبقة من التشنيع بشريعة الإسلام ومحاولة التجريس بمؤسسيها.
وإني مضطر إلى الإمساك بعنان القلم عن الخوض في جميع ما خاضوا فيه
من المسائل التي تعرضوا فيها لعقيدة الإسلام ولسيرة رجاله إذ كان الأخذ والرد لا
بد من أن يجرا البحث إلى ما يمس عقائد الملة التي ينتمون إليها، ولست ممن
يرغب في هذا الشأن ولا ممن يرونه ضروريًّا، بل مذهبي في هذا المقام مجرد
الدفاع بدون تعرض إلى عقيدة أهل الكتاب في عرض الجدال، فإن ذلك يُوغِر
الصدور ولا يخفف من الشنآن، وإنما يقدر الكاتب أن يخوض في سيرة الأقوام التي
ينتمي إليها أولئك المفترون وبين مسافة الخلف بين أقوالهم وأفعالهم، وبهذا كفاية.
وكذلك يستحب تنبيه المسلمين على دسائس هؤلاء في البلاد التي يستعمرونها
ويحاولون تحويل عقائد أهلها بمختلف الأساليب ونقل ما ينشرونه بحق الإسلام
وتقدمه وتأخره وامتداده وتقلصه ونهوضه وعثاره حتى يعلم المسلمون من أين يأتيهم
العدو، ومن هذا القبيل فصلٌ عَقَدَه صاحب هذا الكتاب على (التدرج) العصري
الذي وقع في الإسلام، وأدار أكثر الكلام فيه على الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
رحمه الله والأستاذ الحجة السيد رشيد رضا أبقاه الله، وسنترجم هذا الفصل في
الجزء الثاني من المنار، ونعقب عليه بما يلزم إن شاء الله تعالى.
لوزان في ١٤ يناير ١٩٢٩
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان