للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ عبد العزيز شاويش بك
وفاته وشيء من ترجمته

إن العالم الإسلامي قد خسر اليوم بفقد الشيخ عبد العزيز شاويش رجلاً من
أركان حزب الإصلاح المعتدل الذي هو وسط بين المسلمين الجامدين الخرافيين
والمسلمين الجغرافيين الملحدين، لا عزاء عن فقده إلا بما رأينا من إكبار الأمة
لفقده.
يموت في كل يوم كثير من الأغنياء والوجهاء والحكام وأصحاب الألقاب
الرسمية فلا ينشر في الصحف شيء من خبر موتهم وتشييع جنائزهم إلا ما يرسل
إليها من أوليائهم وأقاربهم، ومنها من تذكر له عملاً نافعًا، وتعد فقده خسارًا بَيِّنًا،
ومنها من تصف الاحتفال بجنازته وكثرة من عز من أقاربه، تزلفًا إليهم، أو لمكانة
له أو لهم عند من يكتب ذلك، وقد توفي الشيخ عبد العزيز شاويش في منتصف هذا
الشهر فكان لخطبه من الهزة والاضطراب في البلاد، ما لم يعهد له نظير إلا في
بعض الأفراد، أبَّنَتْه الجرائد على اختلاف سياستها ومشاربها، وأطراه كثير من
الكتاب والأدباء، ورثاه كثير من الشعراء، وبكاه كثير من الأفراد والجماعات،
وعطف جلالة الملك على أولاده فتبرع لهم بألف جنيه وراتب شهري، وقررت
حكومته التبرع لهم بخمسة آلاف جنيه وتعلميهم في المدارس مجانًا؛ لأنهم لا يستحقون
عليها شيئًا من راتب والدهم باسم المعاش ولا غيره لحداثة عهده في خدمتها وقصر
مدتها، وقلما رأينا مثل هذه العناية بأولاد أحد من مستخدميها حتى من كانوا من
أحزاب وزارتها على ما عهد من أكثر وزرائها من محاباة أنصارهم ورجال أحزابهم،
وإنما كان رحمه الله من رجال الحزب الوطني المعارض لكل وزارة والمقرَّر لديه عدم
التصدي لخدمة حكومة بلاده ما دام للاحتلال الأجنبي نفوذ فيها.
لماذا كان لموت هذا الرجل هذا الإكبار الذي حزن قلوب الشعب، وأطلق
ألسنته بالرثاء، وبسط يد حكومته بالعطاء؟ إنما كان كذلك؛ لأن من فقدوه كان
كبيرًا في نفسه، وإن لم يكن كبيرًا في وظيفته، عاليًا في همته، وإن لم يكن عاليًا
في ثروته، وكان يوجه كل ما أوتي من كبر نفس وعلو همة إلى خدمة الأمة والملة
بجرأة جنان، وذلافة لسان، وقوة إيمان، وقلم سيال، وهمة لا تعرف الكلال، وقد
أوتي جميع المواهب التي يكبر بهما التأثير في أنفس الأفراد والجماعات من حسن
صورة وطلاقة وجه، وفصاحة نطق، وجرس صوت، وحسن أداء، وغزارة مادة،
وكان خطيبًا مفوَّهًا، وكاتبًا مدرها، وداعية مؤثرًا.
جاور في الأزهر وانتقل منه إلى دار العلوم، ومنها إلى كلية أكسفورد في
إنكلترة، ولما عاد منها اتصل بشيخنا الأستاذ الإمام، فتلقح ذهنه بأفكاره، واقتبست
بصيرته من أنواره، وكنت أنا الذي قدمته إليه وذكرت له ذكاءه وغيرته وطموحه
وهمته، وجمعه بين التعليمين الإسلامي والأوربي ... قال: وماذا حذق من العلم
في إنكلترا وبأي شُعَبِهِ كان يُعْنَى؟ قلت: إنه عاد حديثًا، ولما نرو في ذلك عنه
حديثًا، قال: سله كم سنة مكث في الأزهر، فإن كان أطال فيه المكث، فقد فَقَدَ
الاستعداد للعلم، وما أراه حصَّل شيئًا ذا قيمة، فذكرت هذا للشيخ عبد العزيز
(رحمهما الله تعالى) فأغرب واستغرب، وذكر أنه لم يمكث في الأزهر طويلاً.
عينته الحكومة مساعدًا للتفتيش في نظارة المعارف، ورقاه سعد زغلول باشا
في عهد وزارته للمعارف مرة بعد مرة بما يزيد على ما يبيحه له القانون إلا بقرار
من مجلس النظار فاستصدر القرار بعد القرار بذلك، ولكن تلك النفس الطموح
الجموح أو الوثابة الثائرة كما يقول كتاب العصر قد استصغرت الترقي الاستثنائي
واحتقرت كل ما يُرْجَى من ورائه، وكان مَيَّالاً إلى السياسة فاتفق له أن زار مع
زميله وصديقه الشيخ محمد مهدي المشهور مصطفى كامل باشا (رحمهم الله تعالى)
في إدارة جريدة اللواء، وشاهد ما كان ثَمَّ من إقبال الوجهاء والكبراء، فلما خرجا
قال للشيخ مهدي إننا كالموتى مدفونون في نظارة المعارف، ونحن أقدر على خدمة
البلاد بالصحف وغيرها، وكان من تأثير تلك الزيارة في نفسه أن أَعْقَبَهَا زيارات
انجلت عن استقالة الشيخ شاويش من وزارة المعارف وانتظامه في سلك محرري
جريدة اللواء، وكان فيها أشد حماسة في نقد الحكومة المصرية والاحتلال من سائر
المحررين، ومن أشهر ما كتبه فيها مقالات في وزارة المعارف ووزيرها سعد باشا
زغلول عنوانها: (ما هكذا يا سعد تُورَدُ الإبل) وهو مثل قبله (أوردها سعد وسعد
مشتمل) .
ههنا أذكر أنني كنت أمدح الشيخ عبد العزيز لسعد باشا بالغيرة الوطنية
والإخلاص ليعنى بجعله من رجاله وأنصاره فقال لي مرة: أين ما كنت تصف
وتقول في هذا الرجل؟ قلت: إنني أعتقد مع هذا كله أنه مخلص فيه، وأن
الإخلاص اضطره إلى ما يسوءك على إحسانك إليه أو ما هذا معناه - فقال ما
خلاصته:
أنا لا أنكر أن في وزارتي ما ينتقد حتى عندي، وإنما أبذل جهدي، وليس
الأمر كله بيدي، ولو لم يقل في الشيخ شاويش إلا ما يعتقده لما كان لي أن أطعن
فيما تصف من إخلاصه (ولكنه كذب عليَّ، والكذب والإخلاص ضدان لا يجتمعان)
هذا إجمال ما دفع به وزير المعارف عن نفسه يومئذ.
إنني لم أذكر هذه الكلمة لسعد كتلك الكلمة التي نقلتها عن الأستاذ الإمام؛
لأنهما مما يؤثر عن أمثال هذين الرجلين العظيمين فقط؛ بل لأستدل به على أن
سعد باشا كان يقدر الرجل قدره بعد ما كان من إساءته إليه ولو حقد عليه لما رضي
في العهد الأخير بتوظيفه في وزارة المعارف وأمر الحكومة كلها بيده.
صار الشيخ شاويش ركنًا من أركان الحزب الوطني وأشد محرر جرائده
اللواء فالمعلم فالشعب حماسة في مشربه، ولكنه لم يقف قلمه على السياسة وحدها
فيها، بل أنشأ مجلة باسم (الهداية) غرضها الإصلاح الديني كالمنار، وكان ينشر
تفسيرًا عصريًّا للقرآن المجيد، ويطرق سائر أبواب الإصلاح الإسلامي المدني،
وكان الفرق بين خطتي المجلتين أن إحداهما كانت أشد التزامًا للنصوص والأخرى
أشد عناية بالمصلحة.
ثم إنه اتصل من طريق الحزب الوطني بجمعية الاتحاد والترقي التركية
وتطوع لخدمة الدولة العثمانية تحت لوائها، وقاوم مشروع الدعوة والإرشاد
بإغرائها، كما جاهد في مقاومة الحركة العربية التي حدثت تجاه العصبية
الطورانية التركية، وبها صرنا على طرفي نقيض، وشرح هذا لا يليق هنا، ثم
التقينا في برلين وتصالحنا بسعي صديق الجميع الأمير شكيب أرسلان، وبعد أن
عاد إلى مصر نشرت له في المنار تلك المقالة التي كتبها في مفاسد مقاومة الترك
الكماليين للدين؛ لأنه رجع فيها إلى رأينا في ملاحدة الترك وعداوتهم للإسلام،
وللعرب وقوم خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
عاد الأستاذ رحمه الله تعالى إلى مصر بعد غربة طويلة قاسى فيها شدائد
عظيمة في أثناء الحرب وبعدها متنقلا بين الآستانة وسورية والمدينة المنورة،
واشتغل بالتدريس في المدرسة الإصلاحية التي أسسها الاتحاديون في القدس
الشريف وهي مدرسة دينية مدنية، كان لهم فيها أغراض سياسية، ثم عاد إلى
الآستانة، وتنقل بعد انكسار الدولة في أوربة إلى أن ألقى عصا التسيار في ألمانية
فكان يشتغل فيها بإرشاد المصريين من طلاب المدارس ولا سيما المنتمين إلى
الحزب الوطني، ولما ظهر سعد باشا بحركته الجديدة في الوفد المصري كان السواد
الأعظم من أولئك الطلبة في ألمانية، وكذا في سائر أوربة مشايعين له وضعف نفوذ
الفقيد فيهم وقد كان هذا نافعًا له؛ لأنه صرف كل همته إلى المطالعة والاستزادة من
العلم فاستفاد كثيرًا؛ ولما عاد إلى مصر بعد ذلك كله عاد باستعداد عظيم لخدمة
الأمة بعلمه الواسع واختياره الدقيق، فتصدى للدخول في مجلس النواب المصري
بأن رشَّح نفسه للانتخاب في الإسكندرية بمساعدة الحزب الوطني فلم ينجح
لمعارضة مرشح الوفد السعدي له، ثم إن الحكومة عينته بعد ذلك رئيسًا لإدارة
التعليم الأوليّ في وزارة المعارف فنهض بها نهضة عظيمة، وكان هو المدير
الوحيد الضليع بالجمع بين أحدث خطط التعليم النظامي الأوربي مع مراعاة التربية
الدينية والعقائد الإسلامية.
ولكن طموحه وعلو همته أبى عليه الاكتفاء بهذه الخدمة الجليلة فكنت تراه
يساعد الجمعيات الإسلامية المتعددة كجمعيات المواساة الإسلامية ومكارم الأخلاق
والشبان المسلمين وكان قد أصيب منذ سنين بضعف في القلب أقعده عن الوصول
إلى كل ما يطمح له ويرمي إليه، ويقال: إنه كان مع هذا كله ينوي إعادة إصدار
مجلته غير مُبَال بنصح الأطباء له، فانتهى ذلك بقضاء القلب الروحي على القلب
الجسدي، وتوفي في وقت اشتدت حاجة أمته فيه إلى خدمته لها في دينها ودنياها
فرحمه الله تعالى وأحسن عزاءها فيه وعزاء أهله وولده وحزبه.