للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المجالس الملية
لماذا لا نتمتع في بلادنا بعد انتقال السلطان فيها إلى غيرنا
بمثل ما متعنا به غيرنا في عهد سلطاننا؟

سمحت الحكومات الإسلامية في بلادها لغير المسلمين بأن يستقلوا بأمورهم
الدينية وما يتعلق بها من مصالحهم الملية، ويتصرفوا فيها بحريتهم فكانت إدارة
كنائسهم وبِيَعِهم وأديارهم وما لها من الأوقاف الواسعة في أيديهم، وكان رؤساؤهم
الدينيون يتولون إقامة عباداتهم وشعائرهم والحكم بينهم في أمورهم الشخصية من
زواج ونفقة زوجية وحضانة وإرث وغير ذلك لا تنازعهم الحكومات الإسلامية في
شيء منها، ولكنهم إذا تحاكموا إليها في شيء تحكم بينهم بما تحكم بين المسلمين
سواء، والأصل في ذلك قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عندما أراد اليهود
أن يتحاكموا إليه: {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ
شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: ٤٢) .
ولما انتقل الحكم في بعض البلاد الإسلامية إلى الدول الإفرنجية لم يعاملوا
المسلمين فيهم بمثل ما كانوا يعاملون به أقوامهم ولا اليهود والنصارى وغيرهم من
أهل هذه البلاد، بل وضعوا عليهم سيطرة بعضها ثقيل وبعضها دونه، فهي تختلف
باختلاف أشكال تلك الحكومات وصفة الاستيلاء عليها وبحسب درجة أولئك
المسلمين في معرفة حقوقهم ومصالحهم وفي تعاونهم واتحادهم على المطالبة بها
والقيام بشئونها، حتى إن بعض تلك الحكومات استولت على أوقاف المسلمين كلها
في بعض الأقطار، ولم تُبْقِ لهم تصرفًا في شيء منها لا صورة ولا حقيقة، وهي
تمد السبيل إلى مثل ذلك في قطر آخر.
فهذه الحكومة البريطانية التي هي أدهى الحكومات الاستعمارية وأدقها حكمة
وأشدها حرصًا على حسن الصيت والتبجح بعدم التعصب لم تنصف المسلمين في
الهند في أوقافهم ولا أحكامهم الشخصية، ولكنها أنصفتهم في فلسطين وحدها
بالسماح لهم بإدارة محاكمهم الشرعية وأوقافهم الخيرية وتعليمهم الديني فناطوا ذلك
بمجلسهم الملي الذي أسسوه برضاها وسموه (المجلس الإسلامي الأعلى) فقام به
قيامًا لا نعلم له نظيرًا في قطر إسلامي آخر، وكان الفضل الأكبر في هذا لرئيس
هذا المجلس الحازم الشجاع السيد محمد أمين الحسيني الذي يجدر بفلسطين أن
تفتخر به على جيرانها، وحسبه منقبةً ما قام به من جمع المال العظيم لعمارة
المسجد الأقصى، ولدينا من العلم بما تفعل الحماية الفرنسية في المغرب الأقصى
من التصرف في أوقاف المسملين ومراقبة أمورهم الشرعية والدينية ما يخشى أن
تكون عاقبتهم فيه شرًّا من عاقبة مسلمي الجزائر لا تونس فقط! !
***
المجلس الملي
الإسلامي في بيروت
وقد فكر مسلمو بيروت عقب الاحتلال الأوربي لسورية بعد الحرب الكبرى
في إنشاء مجلس ملي؛ إذ كلف وجهاؤهم المرحوم أحمد مختار بك بيهم وغيره
بإقناعي بأن أتولى إدارة شئونهم الدينية كلها إما بتفويضهم ذلك إليَّ شخصيًّا، وإما
بالاستعانة بمجلس ملي بعد أن اقترحت عليهم هذا المشروع، وذكرت لهم مجلس
القبط الملي بمصر، ولكنني اعتذرت عن قبول ذلك، وكان ذلك في أثناء إلمامي
بسورية في أواخر سنة ١٩١٨ ومما رغَّبَنِي فيه أحمد مختار مع بعض أصدقائه أن
المسلمين يتعهدون لي بأداء زكاة أموالهم لأصرفها في مصالحهم بما أراه.
ومن الغريب أن بعض رجال فرنسة المحتلة عرض عليَّ وقتئذ من قبل
المندوب السامي الأول (جورج بيكو) أن أنقل مركزي من مصر إلى بيروت؛
لأكون زعيمًا للمسلمين فيها، وأنه - أي المندوب السامي- يعدني بأن حكومته
تعترف لي بما يراه المسلمون من إمامة وزعامة لهم وتسهل لي عملي في إصلاح
شئونهم الدينية والأدبية.
ولم تزل أمنية المجلس الملي تجول في أنفس مسلمي بيروت حتى حققها الله
في هذه السنة فوضعوا له نظامًا وانتخبوا له أعضاء من خيرة الشبان المعروفين
بالغيرة والنشاط فسررنا بذلك جد السرور ويا حبذا لو كان معهم بعض فضلاء
الشيوخ وتمنينا لو يتبعهم فيه مسلمو طرابلس وسائر الأمصار، فيؤسسون فيها
مجالس ملية كهذا المجلس؛ ثم يؤلفون في سورية وملحقاتها ولبنان بينها،
فيجعلون لها مجلسًا كليًّا جامعًا يسمونه المجلس الإسلامي الأعلى للمصالح الملية
ترجع إليه المجالس الموضعية في الشئون العامة المشتركة كالتعليم الديني والإدارة
العامة للمحاكم الشرعية وما يخص ذلك من ريع الأوقاف مع مراعاة الأحكام
الشرعية فيها، وفي شروط الواقفين التي لا تنافي الشرع.
وقد اتفق في هذه الأيام أن بعض رجال حكومة لبنان الكبير اقترح عليها سلب
المحاكم الشرعية الحكم في قضايا غير المسلمين فسَنَحَتْ للمسلمين فرصة المطالبة
بجعل هذه المحاكم تحت إدارة المسلمين ورفع سلطة وزارة الحقانية اللبنانية عنها
وجعلها كمحاكم البطركيات لطوائف النصارى التي تحكم بين أبناء كل طائفة في
أمورهم الشخصية، فإن حكومة لبنان غير إسلامية وقد راعت السلطة الفرنسية فيما
ألحقته بلبنان من البلاد السورية أن يبقى أكثر أهله من النصارى؛ لتكون لهم
السلطة العالية، فليس من العدل والمساواة ولا الإنصاف في شيء أن تكون
محاكمهم الملية وأوقافهم غير تابعة لإدارة الحكومة التي تعد مسيحية، وتكون محاكم
المسلمين وحدها وأوقافها هي التابعة لهذه الحكومة.