للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسائل إخوان الصفاء

لما تُرْجِمَتْ كتبُ الفلسفة بالعربية، وخاض المسلمون فيها وجدوا فيها ما
يخالف التعاليم الإسلامية أو النصوص التي ذكر فيها الخلق والتكوين من الكتاب
والأحاديث النبوية فتصدى علماء الكلام للرد على ما رأوه معارضًا؛ إذا لم يمكنهم
الجمع بينه وبين النصوص القطعية أو بتأويل ما ليس بقطعي منها.
وكان علماء الأثر يردون كل ما رأوه مخالفًا للظواهر، وأما أعداء الإسلام
المجاورة فكانوا يردون نصوصه مما يتلقفون من الفلسفة بزعمهم أنها حقائق ثابتة،
وقلما يثبت منها شيء ثبوتًا قطعيًّا، وأما أعداؤه من الزنادقة والمنافقين فكانوا
يتأولون نصوص الكتاب والسنة بحملها على أقوال الفلاسفة التي يزعمون أنها هي
الحقائق العليا التي يرتقي إليها خواص العلماء، وأن ظواهر الشريعة وسائل إقناعية
يراد بها تهذيب العامة، وأساطين هذه الضلالة فريقان: ملاحدة الصوفية الأعجمية
وزنادقة الباطنية.
وكان غرض هؤلاء سياسيًّا غايته عندهم إفساد دين الإسلام على أهله لإزالة
سلطان العرب من فارس ثم من سائر البلاد كالإسماعيلية ثم دخلوا في أطوار أخرى.
من هذا الفريق فريق الباطنية مؤلفو الكتب المشهورة برسائل إخوان الصفاء
وهي مشهورة، وقد طبعت في هذه الأيام بمصر بسعي بعض الملاحدة المعاصرين
وهم يروجونها لمثل الغرض الذي ألقيت لأجله، وهو إفساد عقائد المسلمين التي
يهاجمونها بالفلسفة العصرية وبغير الفلسفة مما يسمونه علمًا وأدبًا وفنًّا، ويجمع هذه
المعاني عندهم كلمة الثقافة.
لأجل هذا رأينا من الواجب علينا شرعًا أن نعتني ببيان الحق ونكشف ما
يغشيه من الدسائس والتلبيسات، وأول ما نبهنا إلى ذلك رسالة نشرت في المقطم
أيضًا، وهذا نص الرسالة والفتوى:
حضرات الأفاضل أصحاب
المقطم الأغر
قرأت ما دبَّجَتْه يراعتكم حول كتاب أعياني فهم مرامي مؤلفه أو مؤلفيه على
حد رأي الأستاذ زكي باشا ووقف نظري عند قولكم: (إن حرية الرأي في الزمن
الماضي لم تتسع لنشر هذه الموسوعة الفلسفية الهامة) أو ما في معناه فعلمت أن
لهذا الكتاب خطره وقيمته، وأنه كتب بأسلوب خاص لا يفطن إلى ما فيه من دقة
متعملة وأسلوب مُلْتَوٍ إلا من وُهِبَ اطِّلاعًا واسعًا على مختلف ما أنتجت العقول
الجبارة في القديم والحديث، ولا أكتمكم أني قرأ مقدمتيه مرات متكررة لعلي أعثر
على مفتاح السر فكان جُلُّ ما ظفرت به أن الدكتور طه حسين يقول:
(إن هذه الجماعة (إخوان الصفا) كانت متبرمة بنظام الحكم في بغداد
والقاهرة وأنها ما ألفت كتابها إلا لتغرس بذور تربية خاصة لإعداد جيل يغير
هذا النظام الممقوت مسترشدة في هذا برأي فلاسفة اليونان في التربية والنظام
السياسي) .
أما مقدمة العلامة زكي باشا فكلها كَرٌّ وفَرٌّ وبحث وتنقيب حول مؤلف الكتاب
أواحدٌ هو أم جماعة؟ وخرج الباشا ظافرًا بأنهم جماعة ولكن واحدًا منهم لم يعرف.
لكن الأولى بالعناية من كل هذا هو موضوع الكتاب، وما فيه من بحوث
علمية دقيقة وإشكالات عويصة لم يتعرض واحد من الذين كتبا للكتاب تصديرًا لذكر
شيء منها، بل هربوا هربًا ليس فيه من اللباقة بقدر هرب المقطم بقوله: (إن
حرية الرأي في الزمان الماضي لم تتسع لنشر هذه الموسوعة إلخ) وإذن فقد أصبح
من حقي كقارئ من قراء جريدتكم تعود الثقة فيما تكتب والصراحة فيما تبدي من
رأي أن أستوضحكم عما يأتي: قال إخوان الصفاء في الجزء الأول: (إن الله خلق
النفس والنفس هي التي تدبر العالم، فلعل معنى هذا أن للعالم صانعين؟
ثم قالوا: إن السموات السبع أو الكواكب السبعة هي كرات جوفاء سابحة،
كل كوكب منها سماء لما تحته وأرض لما فوقه، وإنها تدور وفق قرانات خاصة
ودوراتها مع اختلاف القرانات هو مبعث ما في العالم من خير وشر وشقاء وسعادة
وعدل وجور وليس فوق الكواكب السبعة إلا الفلك الأول وهو مبعث الحركة
والدوران فهل معنى هذا أن الفلك الأول هو الله؟ أو أي شيء هو إذا لم يكن كوكبًا
وإلهًا مع أنه يُكْسِب الكواكبَ الدورانَ والسبوح؟ وأين اللوح وأين العرش وأين
الكرسي وأين القلم؟ أيصح لي أن أسميهم ولو من باب حرية الفكر غير مسلمين،
وإن حمدوا الله وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم واستشهدوا بالقرآن.
أخاف أن أكون قد ثقلت على حضرتكم في توجيه أسئلتي وأخاف أيضًا أن
يحول عملكم فيما أخذتم به على أنفسكم من الخدمة العامة دون إجابتي، لكنه لا
يخيب لي سؤال ما دمت أعلم أن للأستاذ لطفي جمعة المحامي جولات فسيحة على
صفحات جريدتكم وهو ممن اشتهروا بالاطلاع الواسع في الفلسفة القديمة والحديثة،
وإن كان عند الأستاذ ما يحول دون إرشادي فلا عدمت من فيلسوف الشرق وحكيم
الإسلام الأستاذ طنطاوي جوهري هاديًا ومرشدًا سيما وقد قضى زهاء نصف
قرن وهو يوفق بين القرآن والعلوم الطبيعية والرياضية والكيميائية وغيرها من
فنون العصر الحديث، هذا وأختم عجالتي هذه بأن أهيب بحارس الشريعة خليفة
الأستاذ الإمام مولانا السيد رشيد رضا أن يفتينا فيمن ينكر العرش والكرسي واللوح
والقلم، ثم يحمد الله ويصلي على نبيه أهو من أهل القبلة أو من سواهم، وإلا فهل
لهذه الأسماء مدلولات غير المدلول العادي، أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحائر القَلِق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي درويش
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بالمدارس الإلزامية
جواب الاستفتاء في إسلام
مؤلفيها وأمثالهم
نشر المقطم منذ شهرين رسالة للأستاذ علي درويش المدرس في بعض
المدارس الإلزامية في رسائل إخوان الصفاء المشهورة التي كانت طبعت كلها في
الهند وطبع بعضها في مصر، وأعيد طبعها في هذه الأيام فرأيت صاحب الرسالة
يستفتيني في خاتمتها (فيمن ينكر العرش واللوح والقلم ثم يحمد الله ويصلي على
نبيه أهو من أهل القبلة أو من سواهم؟ وإلا فهل لهذه الأسماء مدلولات غير
المدلول العادي؟)
أي كما يزعم مؤلف أو مؤلفو تلك الرسائل فأقول:
إن هذا الاستفتاء مهم جدًّا؛ لأن المسألة واقعة في عصرنا فإننا نجد في
مصرنا، وفي غيرها من الأمصار أناسًا كإخوان الصفاء ينتمون إلى الدين
ويجحدون بعض أصوله القطعية ويكذبون كتابه المقدس بضرب من خلابة التأويل
الذي تتبرأ منه لغة الكتاب ونصوصه وآياته البينات {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ
أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: ٨-٩) .
إن الذي حقَّقه شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية في رسائل إخوان الصفاء
هو أنها لبعض الباطنية الذين كانوا يظهرون الإسلام على مذهب الشيعة، ويسرون
الكفر به والعداوة له ويحاولون هدمه وصرف أهله عنه بالتشكيك فيه والتأويل
لنصوصه لا تأويل صفات الله وأفعاله ونصوص عالم الغيب من العرش والكرسي
واللوح فقط.
بل كانوا يتأولون نصوص العبادات التي هي أركان الإسلام أيضًا حتى لا
يبقى عنده من الإسلام شيء على ما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم
ويستعينون على ذلك بالفلسفة اليونانية، وكان منهم خلفاء الفاطميين بمصر، وكانت
لهم دعاية إلى الإلحاد منظمة بيَّنَها المؤرخون وعلماء المقالات في نِحَل المبتدعين.
ويجد القارئ لتاريخ المقريزي المشهور خلاصة لها في الجزء الثاني منه في
سياق الكلام على أولئك الخلفاء يذكر فيها (وصف الدعوة وترتيبها) وهي تسع
درجات أو دعوات مرتبة تبدأ بالسؤال (عن المشكلات وتأويل الآيات ومعاني
الأمور الشرعية وشيء من الطبيعيات ومن الأمور الغامضة) يذكر المقريزي أمثلة
منها؛ ثم إن الداعي ينقل المدعو من درجة إلى أخرى بعد أن يقتنع بالسابقة حتى
إذا ما رسخت في نفسه جميع الدرجات كاشفه بالنتيجة المُرَادة من الدعوة ومنها قول
الباطل الخادع:
(إن الوحي إنما هو صفاء النفس فيجد النبي في فهمه ما يُلْقَى إليه ويتنزل
عليه فيُبْرِزُه إلى الناس ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبي شريعته بحسب ما
يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب العمل بها حينئذ إلا بحسب الحاجة
من رعاية مصالح الدهماء بخلاف العارف فإنه لا يلزمه العمل بها ويكفيه معرفته،
فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه، وما عدا المعرفة من سائر المشروعات فإنما
هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأغراض والأسباب (ويعني
باليقين هذا قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} (الحجر: ٩٩) أي
فحينئذ تسقط العبادة) .
ومن جملة المعرفة عندهم أن الأنبياء النطفاء أصحاب الشرائع إنما هم
لسياسة العامة، وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة) إلخ.
وذكر قبل ذلك في الدعوة السادسة أن المدعو إذا تمكن في المرتبة الخامسة
أخذ الداعي في تفسير معاني شرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والحج والطهارة
وغير ذلك من الفرائض بأمور مخالفة للظاهر بعد تمهيد قواعد تبين في أزمنة على
عجلة تؤدي إلى أن هذه الأشياء وضعت على جهة الرموز لمصلحة العامة وسياستهم
حتى يشتغلوا بها على بغي بعضهم على بعض، وتصدهم عن الفساد في الأرض،
حكمة من الناصبين للشرائع وقوة في حسن سياستهم لاتباعهم، إتقانًا منهم لما رتَّبوه
من النواميس ونحو ذلك حتى يتمكن هذا الاعتقاد في نفس المدعو.
فإذا طال الزمان وصار المدعو يعتقد أن أحكام الشريعة كلها وضعت على
سبيل الرمز لسياسة العامة، وأن لها معاني أخر غير ما يدل عليه الظاهر، نقله
الداعي إلى الكلام في الفلسفة وحضَّه على النظر في كلام أفلاطون وأرسطو
وفيثاغورس ومن في معناهم ونهاه عن قبول الأخبار (أي الأحاديث النبوية)
والاحتجاج بالسمعيات (أي نصوص القرآن) وزيَّن له الاقتداء بالأدلة العقلية
والتعويل عليها، فإذا استقر ذلك عنده واعتقده نقله بعد ذلك إلى الدعوة السابعة
ويحتاج ذلك إلى زمان طويل) اهـ المراد منه.
إذا علم المستفتي هذا، وعلم أن إخوان الصفاء من هؤلاء الباطنية الملاحدة
الذين كانوا يُظْهِرُون الإسلام ويُسِرُّونَ الكفر علم أن حمدهم لله وصلاتهم على نبيه
خداع للمسلمين؛ ليقبلوا كلامهم، ولذلك قال بعض الفقهاء: إن من علم حاله منهم
لا يعتد بدعواه التوبة والرجوع إلى الإسلام، وإن نطق الشهادتين وصلى وصام
وزعم أنه مسلم.
وليس كل تأويل من تأويلاتهم للنصوص ارتدادًا عن الإسلام بحيث لو قال به
غيرهم يُعَدُّ مرتدًّا بل منه ما هو كفر صريح، ومنه ما هو ابتداع قبيح، ومنه ما
هو محتمل للترجيح والتجريح، ولكنه كله صادر عن الإلحاد في الدين والغرض
منه إفساد عقائد المسلمين، ولذلك صار لقب الإلحاد والزندقة في القرون الوسطى
علمًا عليهم، قال صاحب المصباح المنير: والملحدون في زماننا هذا هم الباطنية
الذين يدعون أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وأنهم يعلمون الباطن فأحالوا بذلك وجه
الشريعة؛ لأنهم تأولوا بما يخالف العربية التي نزل بها القرآن اهـ.
وهذا حكم ملاحدة زماننا غير المجاهرين بالكفر والتعطيل، والطعن في محكم
آيات التنزيل، وقد ثبت عندنا أن لبعضهم جمعية كبعض جمعيات الباطنية تعنى
بإفساد العقائد وتنكر ضروريات الشريعة، وتزعم أن الإسلام دين روحاني لا
تشريع فيه يجب اتباعه، بل يجوز لأهله أن يأخذوا بكل قانون يعجبهم ويتبعوا كل
دولة تحميهم وتعزهم، وهم يبنون دعايتهم على تفضيل كل جديد على كل قديم
فالتشريع البلشفي على قاعدتهم خير للحضارة من التشريع الإسلامي فبعض ما
يقولونه وينشرونه ارتداد عن الإسلام لا يحتمل التأويل، ولا ينفع معه النطق بكلمة
التوحيد، وبعضه ليس ردة ظاهرة في نفسه، ولكنه صادر عنها، ولهم صحف
تنشر دعايتهم لا يخفى على أحد أَمْرُها.
ويقال: إن لبعضهم علاقة ببعض الجمعيات الغربية من بلشفية وتبشيرية،
وإن جل عنايتهم موجهة إلى إفساد عقائد طلبة المدارس ولا سيما العليا وهم
يحرصون على إضلال أذكيائهم واصطناع الكتاب والخطباء منهم، ولهم من الكبراء
من يؤيدهم فهو أكبر خطر على دين الأمة ودنياها، كما سنبين ذلك في مقالات
أخرى ننشرها في مجلتنا (المنار) وغيرها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا