للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تعليق المنار وتنبيه المسلمين الأغرار

اعتبروا أيها المسلمون الغافلون الأغرار بتصريح عظماء الإنكليز وحكومة
السودان بهذا المشروع تنصير السودان.
اقرءوا هذه الوثائق الرسمية الناطقة بلسان دينكم مصرحة بأن الغرض الأخير
الأعلى للإنكليز من حملهم صاحب مصر الذي أضاعها على إرسال (غوردون)
الإنكليزي القائد القسيس إلى السودان إنما هو انتزاع أهله من حظيرة الإسلام
وجعلهم نصارى تستخدم الدولة البريطانية أرواحهم كما تسخر أجسادهم في سبيل
ترقية البريطانيين محرري الأمم والشعوب.
وأما الغرض الأول من دسِّ هذا الإنكليزي القائد الفاتح المبشر فهو التمهيد
لانتزاع أمبراطورية السودان من سلطان الحكومة المصرية الغافلة المغفلة، ونقله
إلى حظيرة الإمبراطورية البريطانية المرنة، التي يعمل أبناؤها الأيقاظ لرفع علمها
الصليبي فوق رءوس جميع البشر.
هذان هما الغرضان الحقيقيان المقصودان بالذات من تحكيم (غوردن) في
السودان، ولكن كان له غرضان آخران صوريان بل وسيلتان إنسانيتان له لذينك
الغرضين (إحداهما) إنسانية عامة وهي تحرير الرقيق حبًّا في البشر والسود منهم،
وإن كان في الإنكليز من الإفرنج من يقولون: إنهم ليسوا من ذرية آدم، ومنهم
من يقول: إنهم من أصل غير أصل الإنسان الأبيض - وعلى كل قول من الأقوال
يستحق السوداني أن يجعل مسيحيًّا، وإن لم تلحقه معصية آدم الذي ظهر للمسيح -
وهو عندهم رب البشر- بناسوت أحد أنبائه، وولد من بطن بعض بناته لأجل
تخليص ذريته من تَبِعَة المعصية ومعصية زوجه - وإنما الذي لا يجوز فهو أن
يكون مساويًا في النصرانية للإنكليز بحيث يصلي معهم في صف واحد في الكنيسة
كما يتساوى المسلمون في المساجد، وكذلك يستحق اسم الحرية الشخصية لأفراده
وإن كان معناها استعباد شعبه لبريطانيا العظمى.
والوسيلة الثانية لتنصير السودان وأنكلتهم أو سكسنتهم أو كلنزتهم - وأعني
الوسيلة الصورية الرسمية - هي خدمة الحكومة المصرية، وهل احتل الإنكليز
مصر بعد إخماد تألب أهلها على أميرهم إلا لأجل حفظ سلطانه عليها؟ وهل أنقذوا
السودان من الدراويش بجند مصر ومال مصر وأنشئوا فيه السكك الحديدية بهما إلا
إخلاصًا في خدمة مصر وأمراء مصر. فإن كانوا رأوا بعد ذلك أن السودانيين أولى
بالحب والعشق الإنكليزي والخدمة البريطانية من المصريين وأمرائهم فأنقذوهم منهم
فما خرجوا عن شنشنتهم في عشق الشعوب وخدمتها فهم كما قال عاشق الحسان:
محا حبها حب الأولى كن قبلها ... وحلت مكانًا لم يكن حل من قبل
وكان مبدأ الوظيفة الرسمية التي نِيطَ به في أول الأمر أن إسماعيل باشا
الخديو واضع الألغام تحت مصر والسودان قد أصدر أمره في أواخر سنة ١٢٩٠
يناير سنة ١٨٧٤ بجعل الكولونيل غوردن حاكمًا على خط الاستواء ومنحه مائة
ألف جنيه من الخزينة المصرية نفقة لحملته، وسموه لا يدري أنها لفتح السودان
لدولته.
لم أكتب هذا التنبيه لأحث حكومة مصر أو شعبها المسلم على السعي لمنع
تنصير الإنكليز لمسلمي السودان فإنهم في هذا مضرب المثل العربي (الصيف
ضيعت اللبن) ولا لأدعوهم أو أدعو غيرهم إلى الاحتجاج على هذا العلم فإنني لا
أرجو أن يرتفع لهم صوت ند في ذلك يُشهر به ويؤثر في أنفس سامعيه على أنه لا
يصد الإنكليز عنه بعد أن أظهروه وشرعوا فيه.
وإنما كتبته للمقاصد الآتية:
(١) توجيه أنظار المسلمين ما عدا العميان المنكوسين ولا سيما العرب
الغافلين إلى خطة الإنكليز في استعمار الأقطار واستعباد الشعوب وهدم حكوماتها
وديانتها.
(٢) ما هو أهم من هذا، وهو أنهم لم يستولوا على قُطْر من الأقطار
بقوتهم البرية أو البحرية إلا باستخدام الجهلة أو الخونة من ساداتها وكبرائها لذلك،
فمن لم يعرف شيئًا من تاريخ استعمار الهند فلينظر في سيرتهم في بلاد العرب
وليقس مستقبل فلسطين وشرق الأردن والعراق على ماضي مصر والسودان
وحاضرهما.
(٣) تفطينهم لما هو أخفى عليهم من هذا، وهو أن دعاة تجديد الإلحاد
والزندقة بهدمِ عقائد الإسلام وآدابه - أو ثقافته كما يقولون - وتشريعه ولغته حتى
حروفها هم أضر على الإسلام والمسلمين من الإنكليز والفرنسيس والهولنديين
والإيطاليين، سواء أكانوا في أعاجم الترك والفرس والأفغان، أو في عرب مصر
وسورية والعراق.
فإذا كان أولئك الرؤساء والأمراء قد باعوا ولا يزالون يبيعون بلادهم للأجانب
بتأمير الأجانب إياهم فيها، فهؤلاء الملاحدة دعاة الهدم المسمى بالتجديد - كتسمية
الاستعباد بالانتداب وتسمية الشِّرْك الخرافي بالتوسل - يسعون لهدم جميع مقوماتها
ومشخصاتها التي كانت بها أمة ولا سيما الدين وهم بذلك يخدمون الأجانب
المستعبدين لهم بما يمكن لهم في أرض الشعوب التي يحتلونها بالأسماء الخادعة
(كالاحتلال المؤقت والانتداب وغير ذلك) حتى لا يُرْجَى أن تبقى لهم جامعة توحد
قواهم وتمكنهم من استعادة استقلالهم عند سنوح الفرص له.
وقد حدثني الثقة الذي لا يماري أحد يعرفه في صدقه أن أحد دكاترة الإلحاد
بمصر قال له: لولا تعصب المسلمين الديني الذي من تعاليمه أن تكون حكومة
المسلمين لأولي الأمر منهم لأمكننا إقناع الشعب المصري بالجنسية الإنكليزية
والتبعية لحكومتها العزيزة القوية واسترحنا من هذا الكفاح في سبيل الاستقلال.
(٤) تذكير المسلمين من جميع الطبقات بأن يعتبروا بعناية الإنكليز بنشر
دينهم ومذهبهم، وجعل ذلك غاية الغايات لفتوحهم الذي يسمونه في أول الأمر
بأسماء لطيفة لخداع أهلها، فإذا كان الدين من الأمور العتيقة البالية، التي لا يصح
أن يبقى لها في القرن العشرين من باقية، فما لأقوى الأمم وأعز الدول يبذلون
الجهود، والقناطير المقنطرة من النقود في المحافظة على دين شعوبهم فيها، ثم
على نشره مع مراعاة مذاهبهم في الشعوب الأخرى، فإذا تأملوا هذا يدركون مقدار
ضرر دعاة الإلحاد منهم فيهم، وكونهم يخدمون بل ينصرون خصومهم عليهم.
ومن العبرة في هذا المقام تنافس كل من إيطالية وفرنسة في استمالة البابا
رئيس الكنيسة الكاثوليكية إليها، بل يقال: إن اقتراح بعض رجال الإنكليز لتعديل
كتاب الصلاة لكنيستهم لا سبب له إلا التقرب من البابا والتمهيد لتوحيد كنائس
النصرانية كلها، وهو ما تعقد لأجله المؤتمرات في كل عام في الأقطار المختلفة،
ومنها بلدنا هذا في قطرنا هذا.
فيا أيها المسلمون: اعلموا أن جميع دعاة التجديد الإلحادي أعداء لكم وأولياء
لأعدائكم، وأن كل من يمدح لكم خطة الكماليين ومقلديهم من الإيرانيين والأفغانيين
فهو لكم عدو مبين، فلا يغرنكم خداعهم لكم بذكر مخترعات الصناعة من الطيارات
وآلات المواصلات والغواصات وغيرها، فهذه الأشياء مما يوجبها الإسلام على
المسلمين، وليست من مبتكرات الملاحدة الإباحيين، فهو يحث عليها ويفرضها
على الأمة فرضًا، فلا ننكرها على تلك الشعوب بل نحثهم عليها، وإنما ننكر
عليهم إفساد العقائد الدينية والفضائل الشرعية، وإباحة الكفر والسُّكْر والزنا والقمار
وغيرها من المفاسد المهلكة للأمم القويمة فضلاً عن الضعيفة كهذه الشعوب الشرقية،
وإننا نؤيد هذا التنبيه ببعض الأخبار عن عظماء أوربة من رجال العلم والسياسة
بالمختارات الآتية من الصحف:
***
المسألة الدينية في إنكلترا وغيرها [*]
ورد تلغراف من لندن إلى جميع جرائد أوربا مفاده أنه في مجمع الأساقفة
الإنكليز الذي انعقد في وستمنستر قرئ الكتاب الآتي الذي وجهه المستر ويليام
جونسون هيكس ناظر الداخلية الإنكليزية وهو:
(ينبغي لكنيسة بريطانيا العظمى أن تحدد خطتها بجلاء، هل تريد أن تتحد
مع رومية اتحادًا تامًّا أو ناقصًا؟ وهل تريد أن تستند على تأويلاتنا للكتب المقدسة
وتتحد مع الكنائس البروتستانتية التي في البلاد؟)
ثم قال ناظر الداخلية المشار إليه: إنه لا يقدر أن يصدق (أن الكنيسة
الإنكليكانية تريد أن تعود إلى ما تحت سلطة الباب كما أن سائر الكنائس
البروتستانتية التي تتبع العقائد التي تتبعها الكنيسة البروتستانتية هي معها في هذا
الأمر) .
ومن هنا يعلم القارئ أن فصل الدين عن السياسة هو فصل إداري لا غير،
وأن الحكومات في الممالك الراقية تهتم بالمسائل الدينية وتبحث فيها؛ لأنها تتعلق
بوجدان الأمم التي وجدت تلك الحكومات لإدارتها. أو الثرثرة التي معناها تخطئة
المسلمين لجعلهم الخليفة رئيسًا دينيًّا كما هو رئيس دنيوي إن هي إلا من جملة
الثرثرات التي لا طائل تحتها.
فالخليفة عند المسلمين رئيس ديني كما أن ملك إنكلترة رئيس للكنيسة
الإنكليكانية. والمسلمون يدعون للخليفة في الجوامع كما يدعو الإنكليز لملك إنكلترة
في الكنائس بلا فرق. لا بل عندما تفتح الإنكليز هذه المرة كتاب الصلاة الذي هو
دستور الكنيسة الإنكليكانية اختلفوا في أشياء كثيرة ولكنهم اتفقوا على زيادة صيغ
الأدعية المتعلقة بحفظ حياة الملك وعائلته وتوفيقهم وتأييدهم.
ومنذ أيام قلائل احتفل في قصر دورن من هولاندة بدخول القيصر الألماني
السابق ويليام الثاني في سن السبعين، وتواردت عليه التهاني من أحد عشر ألف
شخص، واجتمع في القصر أكثر أبناء الأسر النبيلة يتقدمهم ملك الساكس السابق
وولي عهد بافاريا، وأقيمت المراسم الدينية بمناسبة هذا العيد في كنائس ألمانيا
وتليت الأدعية بحفظ حياة القيصر وعائلته ونعت بلقب (رئيس الكنيسة المسيحية
في ألمانيا) وذلك أن إمبراطور ألمانيا وملك بروسيا هو رئيس الكنيسة اللوثيرية في
العالم وحاميها كما أن ملك إنكلترة هو رئيس الكنيسة الإنكليكانية وحاميها. ولا يزال
اللوثيريون في ألمانيا يعدون الإمبراطور ويلهلم الثاني رئيسًا لكنيستهم ويدعون له.
إذًا الدعاء للملوك حماة الأديان ليس خاصًّا بالمسلمين ولا موجبًا للهزؤ
بالمسلمين.. بل ليس منحصرًا بالمسلمين والمسيحيين معًا. فقد فات المسلمين
والمسيحيين في هذا الأمر اليابانيون الذين ليس اليوم في الشرق ولا في الغرب أمة
تسبقهم في ميدان التقدم، ومع هذا فعند تتويج إمبراطورهم منذ نحو شهرين أو ثلاثة
كانت الحفلة كلها دينية واستمرت نحو شهر من الزمن، ولبس الإمبراطور حلة
الكهنة وأخذ بيده العكاز الذي يتوكأ عليه؛ وذلك لأن الإمبراطور هو الرئيس الفعلي
للديانة اليابانية وهو الذي يقال له: ابن الآلهة الشمس، وقد كان من جملة المراسم
التي أقيمت في حفلة تتويج ملك اليابان أن الإمبراطور أكل الأرز المقدس مع الآلهة
التي يتعبدون لها ... وكان هذا الأرز قد زرع هذه السنة زراعة خاصة توكل عليها
عمال من قبل الحكومة تحت ملاحظة الكهنة، فالإمبراطور في الحقيقة هو رئيس
الدولة ورئيس الديانة معًا، ولم يضر ذلك شيئًا برُقي اليابان المدهش الذي يبهر
الأبصار وليست في الدنيا حكومة لا تعرف الدين إلا الحكومة البولشفيكية، فكان
الأولى بهؤلاء الذين لا يزالون يهزءون بصبغة الملوك الدينية أن ينشروا الثقافة
البولشفيكية ويحبذوها دون غيرها، هذا إذا أرادوا أن يكون عندهم شيء من
المنطق.
والحال أنهم لا يكرهون صبغة الملوك الدينية إلا إذا كانت المسألة متعلقة
بالإسلام، فلم نفهم لماذا؟ لا تراهم يعترضون على صفة ملك إنكلترة الدينية ولا
على صفة آل هونسولرن الدينية ولا على الثقافة الدينية التي أقامتها الحكومة
الإيطالية في زمن موسوليني، ولا على إدخال تنصير أهالي الكونغو في بروغرام
حكومة بلجيكا ... إلخ إلخ، ولا على صفة عاهل اليابان الدينية التي هي اليوم كما
كانت من ألفي سنة.
ولو سقط البلاشفة وأعيدت القيصرية إلى الروسية وسيكون بالطبع قيصر الروسية
رئيسًا حاميًا للكنيسة الأرثوذكسية كما كان من قبل، وهذا شيء لا مفر منه - فلن
تجد لهؤلاء اعتراضًا بل يكون لهم بذلك مزيد الرضى والاغتباط.
فالاعتراض إذًا منحصر في الصبغة الدينية إذا ظهر بها ملوك الإسلام.
فهناك ما شئت من قذف وطعن وسخرية....
ولا نظن ذوي العقل والإنصاف يفرقون بين الأمرين ويجعلون الدين
معرة للحكومات إذا كان إسلاميًّا، ومفخرة لها إذا كان مسيحيًّا أو يابانيًّا، فالدين
دين مبدؤه واحد فإذا صح الاعتراض على انتحال الملوك له إذا كانوا مسلمين فقد عم
هذا الاعتراض على انتحال الملوك له إذا كانوا مسيحيين أو شيلتوبيين , وإذا
جاز لمجالس إنكلترة النيابية أن تبحث عدة أسابيع في الخبز والخمر، وهل
استحالتهما إلى جسد المسيح حقيقة أم رمز؟ فقد جاز للحكومات الإسلامية أن تهتم
فيما هو عائد لعقيدة شعوبها. وإذا كان ملك إنكلترة لدى تتويجه يحلف على أنه
سيحمي الدين الإنكليكاني.. فليس إذًا من غرابة في اهتمام خليفة الإسلام
بالمحافظة على الدين الإسلامي وبالاختصار لا نفهم لماذا لا يجوز هنا الذي هو
جائز هناك؟
ولماذا الذي هو إكليريكي في هذا الموضع ينقلب (لابيكيا) في الموضع
الآخر؟
ولماذا الذي لا يأتلف مع الرقي عند زيد يأتلف تمام الائتلاف عند عمرو؟
وأما الذين أقوالهم أشبه (بعنزة ولو طارت) فلا أحد يبالي بسفاسفهم، وهي
من نحت الجدال ومن دون الخطاب.