للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جمعية الرابطة الشرقية ومجلتها
وما كان من الخلاف والصلح بيننا وبين لجنة تحريرها

تأسست جمعية الرابطة من أفراد متعارفين يكرم بعضهم بعضًا بل كان بعضهم
لبعض صديقًا، ثم صاروا كلهم أو جُلُّهم أصدقاء تجمعهم فكرة واحدة، وإن اختلفوا
في غيرها من عقيدة ورأي وخلق , وكنت أعرف كلا من صاحب السماحة عبد
الحميد البكري وصاحب السعادة أحمد شفيق باشا ويعرفاني ثم ازددنا بكثرة الاجتماع
في هذه الجمعية تعارفًا وتآلفًا وتزاورًا وتآزرًا، فلم نختلف في هذه السنين في رأي
ديني ولا علمي ولا اجتماعي ولا سياسي، اللهم إلا في انتقاد (كتاب الإسلام
وأصول الحكم) الذي كان سبب انفصام عروة الصداقة بيننا وبين مؤلفه كما هو
معروف فقد كان حكمي عليه وعلى صاحبه أشد من حكمهما أو غير حكمهما.
وقد اتفق أن بعض إخوان علي أفندي عبد الرازق كثروا في جمعية الرابطة
الشرقية، وأن صار هو عضوًا في مجلس إدارتها مع بعضهم ممن سبقه إليها - ثم
اتفق أن تمكنت الجمعية في هذا العام من نشر المجلة التي كانت من مقاصدها
المذكورة في قانونها، وأن قرر مجلس إدارتها تأليف لجنة لإصدار المجلة من
رئيسها ووكيل مجلسها وسمي علي أفندي عبد الرازق مشرفًا على التحرير فيها -
وكان من أمري ما كان من الإنكار على المجلة وانتقاد خطتها بالشدة التي أعتقد أنها
واجبة عليَّ لديني ولجمعية تعبتُ في تأسيسها وخدمتها بعض سنين.
ساء هذا النقد الشديد كلا من صديقي الرئيس والوكيل، ورأيا أنه كان ينبغي
لي وأنا عضو في مجلس إدارة الجمعية أن أتكلم معهما أولاً فيما أنكرته فإن لم
ينصفاني كان لي حينئذ أن أكتب وأنشر , وأما أنا فلم أكتب ما كتبته إلا لاعتقادي
أنه واجب شرعًا ومصلحة كما قلت آنفًا، وإن كلامي معهما آخرًا، لا يكون إلا كما
كان أولاً أعني أنه لا يكون إلا مراءًا وجدلاً، وإن كوني عضوًا من مجلس إدارة
الجمعية لا يرفع عني واجب الإنكار شرعًا، بل يؤكده توكيدًا.
ثم إنني عرضت المسألة على مجلس إدارة الجمعية لتحكيمه في المسألة لكن
ظهر لنا في المجلس أن أعضاءه لم يكونوا قد اطلعوا كلهم على ما كتبته في المنار
ونقلته جريدة كوكب الشرق مقرة له وناصرة لي فيه، وقال سماحة الرئيس: إنه
سينشر في الجزء الثالث من المجلة شيء في الموضوع، فلا يصح نظر المجلس
في المسألة إلا بعد صدور هذا الجزء واطلاع الأعضاء عليه وعلى ما سيكون من
رأيي في المجلة بعده ويجب أن أبينه للمجلس مكتوبًا.
وكنت قد علمت قبل الجلسة أن سماحة الرئيس وسعادة الوكيل لا يوافقاني
على إنكار شيء مما أنكرته إلا على مقالة سلامة أفندي موسى وأن الرئيس نفسه قد
رد عليها بمقال طويل سينشر في الجزء الثالث، وقد بينت في الجزء التاسع من
المنار ما ظهر لي أنني أخطأت فيه في نقدي على المجلة وأنني أنتظر من رَوِيَّة
الرئيس والوكيل أن يفصلا في المسألة فصلاً معقولاً يحل الإشكال، بما ينصف
المُنْتَقِد ويحفظ كرامة المُنْتَقَد عليهم فماذا كان؟
كان أن ظهر الجزء الثالث مفتتحًا بمقالة لسماحة الرئيس تشعر برضاه عن
كل ما أنكرته مما نشر في الجزء الثاني إلا بعض عبارات من مقال سلامة موسى
بحث معه فيها بحثًا علميًّا أدبيًّا مع المبالغة في الثناء على علمه وأدبه، والإعجاب
والإكبار لآرائه وأفكاره.
وهو مع هذا يشتمل على مقالة عنوانها (نحن وصاحب المنار) سداها
ولحمتها النبز بالألقاب، كلقب الدعي والكذاب، الذي يكذب على الله والناس، مع
تكبير شأن المشرف على تحرير المجلة وإخوانه الذين انتقدنا عليهم. وهو الكاتب
لذلك كله ولكن باسم المجلة لا باسمه.
فلما رأينا هذا المقال مع مقال الرئيس حمدنا الله تعالى أن نصرنا عليهم
بحكمهم على أنفسهم.. وبعد صدور هذا الجزء من المجلة نشر مجلس إدارة الرابطة
بلاغًا في الصحف اليومية جاء فيه أن المجلس قد انعقد وكان من أهم ما قرره إقرار
خطة مجلة الرابطة إلى هذا اليوم واستنكار خطة صاحب المنار في حملته عليها،
ففهم الناس من هذا أن مجلس الإدارة موافق للجنة تحرير المجلة على خطتها
المذكورة وفهموا أن ذلك يشمل الجزء الثالث منها.
أما أنا فلما رأيت هذا القرار الذي صدر في جلسة لم أحضرها مخالفًا لما اتفقنا
عليه في الجلسة التي قبلها فكان باطلا شكلاً وموضوعًا شرعت في كتابة مقال
طويل لينشر فصولاً متوالية في جريدة كوكب الشرق التي نشرت مقالتي في الإنكار
على مجلة الرابطة دفاعًا عن ديني وعقيدتي وعن عرضي وشرفي.
فبعد أن كتبت فصلين من المقال نشر أولهما في الكوكب زارني صديقي
صاحب السماحة والفضيلة السيد محمد أمين الحسيني الشهير وكلمني في الصلح،
فقلت له: إن الله عز وجل يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: ١٢٨) وإنما
يكون خيرًا إذا صلح به الأمر، وزال به الشر، فأشترط فيه أولاً استنكار ما نشر
في المجلة من الطعن عليَّ بما رأيت.
وثانيًا: أن لا ينشر في المجلة شيء من مسائل الإلحاد في الإسلام بأي معنى
من معانيه التي بَيَّنْتُها في المنار.
ثم جمعنا السيد عنده فعلمت في هذا الاجتماع أن للسيد البكري عذرًا في بعض
ما كان، لا يحسن نشر مطويه الآن، وقد قررنا قواعد الصلح بالاتفاق، ومنها أن
أكف عن المضي فيما كنت أنشره في جريدة كوكب الشرق، وكان قد نشر الفصل
الأول منه وهُيِّئَ الفصل الثاني في مطبعته للطبع فحاولنا منعه فلم يمكن.
ثم اجتمع مجلس الإدارة وبحث في المسألة بحثًا طويلاً كان مما أثر في نفسي
منه قول الأستاذ علي عبد الرازق إنه عنى بكلمة (الدَّعي) فيه أنني لست من
علماء الأزهر لا في نسبي وإنه مهد لهذا المعنى، وأنا لم أدع يومًا ما أنني أزهري،
وإنما الذي أثر في نفسي قوله بعد ذلك: إنني لا أحترم في الدنيا أرستقراطيةً إلا
النسب النبوي، ولما كان السيد رشيد من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم فأنا
أفضل قطع لساني على الطعن في نسبه وقطع يدي إن كتبته - أو ما هذا مؤداه.
ثم أصدر المجلس القرار الآتي في الموضوع ونشره في الجرائد اليومية
وهو:
قرار مجلس إدارة الرابطة في فض الخلاف
في يوم ٦ مارس سنة ١٩٢٩ انعقد مجلس إدارة الجمعية برياسة حضرة
صاحب السماحة الرئيس، ونظر فيما لديه من الأعمال، ومن أهمها الاقتراح المقدم
من حضرة الأستاذ السيد محمد الغنيمي التفتازاني أحد أعضاء مجلس الإدارة بحسم
الخلاف الذي نشأ عن شيء من سوء التفاهم بين فضيلة الأستاذ الشيخ محمد رشيد
رضا صاحب المنار وأحد أعضاء مجلس الإدارة وبين مجلة الرابطة الشرقية.
وحضر الاجتماع سماحة السيد محمد الحسيني أفندي مفتي القدس الشريف
ورئيس المجلس الإسلامي، ودار الحديث حول ما تضمنه اقتراح السيد التفتازاني،
وقد تجلى بين الجميع روح الصفاء والحرص على خدمة الجمعية، والأسف على ما
جر إليه سوء التفاهم من الخلاف مع إظهار الاستياء والاستنكار لما جر إليه سوء
التفاهم من تبادل الحملات بين مجلتي: الرابطة والمنار.
وتقرر إسدال الستار على ما مضى مع رجاء جميع الكتاب أن يقلعوا عن
الخوض في هذا الموضوع.
ويكرر مجلس الإدارة أن الرابطة الشرقية ومجلتها بعيدتان عما يمس المسائل
الدينية والسياسية عن قرب أو بُعد طبقًا لقانونها.
وقرَّر مجلس الإدارة إسداء الشكر لسماحة السيد أمين الحسيني أفندي لما أبداه
من الغيرة في سبيل الوفاق.
وقد شهد هذا الجلسة فضيلة السيد محمد رشيد رضا بصفته عضوًا في مجلس
الإدارة كما شهدها حضرات أعضاء لجنة المجلة اهـ.
كنت قبل هذا الصلح كتبت مقالة شرحت فيها المسألة بصورتها الظاهرة
وسريرتها الباطنة وجعلتها مقدمة للفصول التي شرعت في نشرها على صحائف
جريدة كوكب الشرق وكانت مطبعة المنار جمعت ذلك كله لنشره في المجلة فأمرت
بتفريق حروفها كلها واستبدلت بها ما نشر هنا.
وكانت جريدة السياسة قد نشرت مقالة تنصر فيها الإلحاد وأهله على هداية
الدين ومنارها، وتستعدي فيها الوزارة الحاضرة علينا تأييدًا لها ولمن تنصرهم،
وكانت مقالة سخيفة في عدواتها واستعدائها، ومسيئة إلى الوزارة بمطالبتها على
حماية سلاطتها بسلطاتها، فرددت عليها بمقالة كسهام القدر أريتها فيها أنني لا
أخاف إلا من الله تعالى، ورأيت أن لا أخلدها في المنار، تكريمًا لمن بلغنا أنه
ألجمها عن العود إلى مثل ذلك بلجام من نار.