للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، الذي ختم به النبيين،
وأكمل به الدين، وأرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه
الهادين المهديين، ومن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن العدد الأول من مجلتنا هذه قد صدر في العشر الأخير من شوال
سنة ١٣١٥ الموافق لشهر مارس (آذار) سنة ١٨٩٨ ميلادية، بشكل صحيفة
أسبوعية ذات ثماني صفحات كبيرة، وفي السنة الثانية جعلناها مجلة أسبوعية
بشكلها الذي هي عليه الآن، وأصدرنا أول جزء من السنة الخامسة في أول المحرم
سنة ١٣٢٠ - ١٠ أبريل (نيسان) سنة ١٩٠٢ - واستمر ذلك إلى السنة السابعة
عشرة , فقد صدر الجزء الثاني عشر منها بتاريخ ذي الحجة سنة ١٣٣٢ (نوفمبر
سنة ١٩١٤) وكانت قد أُضرمت نار الحرب المدنية الكبرى، فاختل في أثنائها نظام
صدور المنار في أوائل سنيه وأواخرها، وجعلنا أجزاء السنة عشرة؛ لأن الورق
والحبر غلا سعرهما حتى تضاعف أضعافًا، وامتنع وصول الصحف المصرية إلى
كثير من الممالك والأقطار، وساءت معاملات الناس، ومن سنة ١٣٣٣ إلى سنة
١٣٤٧ لم يصدر من المنار إلا ١٢ مجلدًا في ١٥ سنة، فنقص من مجلداته ثلاثة
أُدْمِجَتْ أو أُدْغِمَتْ في هذه السنين، ولولا ذلك لوجب أن يكون المجلد الذي نفتتحه
اليوم المجلد الثالث والثلاثين.
ولكننا إذا اعتبرنا في تاريخه السنين الشمسية يكون هذا المجلد هو الحادي
والثلاثين، فالذي نقص من مجلدات المنار عن سنيه القمرية ثلاثة، وعن سنيه
الشمسية اثنان فقط، ونحمد الله تعالى أن قَدَّرَنَا على استمرار إصداره في تلك
السنين النحسات، فمن المعلوم أن أكثر قرائه المؤدين لحقوقه هم خيار المسلمين
المستنيرين، الذين يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حال أمتهم بالجمع بين سعادة
الدنيا وهداية الدين، وهم قليلون ومتفرقون، والموسرون منهم هم الأقلون، ومن
عداهم لا يؤدي الحق إلا ما دمت عليه قائمًا وكان المتقاضي له مُلازمًا {وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} (الأعراف: ٥٨) .
ونرجو من فضل الله تعالى أن نَثْبُت على هذا التاريخ في إصداره ما دمنا
متمتعين بالصحة، بعد أن مَنَّ علينا بدار صالحة للسكنى وللمطبعة، وقد تأخر
صدور بعض أجزاء المجلد الماضي لما عرض لنا من المرض في أول عامه والنقلة
في آخره.
وأما الذي نُذَكِّر به القراء في فاتحة المجلد الثلاثين من الشؤون الإسلامية على
عادتنا في هذه الفواتح، فهو أن الحملة على الإسلام قد اشتدت في هذا العهد من
خصومه في الداخل والخارج، أعني من قِبَل دول الاستعمار ودعاة النصرانية،
وهم طلائعها وحُداتها، ومن أعوانهم وأنصارهم وتلاميذهم في البلاد الإسلامية
نفسها، ولست أعني بهؤلاء من يستخدمهم المبشرون من نصارى القبط والسوريين
والأرمن وغيرهم، بل أعني من هم أشر منهم وأضر، وأدهى وأمر، من ملاحدة
المسلمين، من الترك والإيرانيين والأفغانيين، ودعاتهم وأخدانهم من المصريين،
وأشباههم من السوريين والعراقيين، ومن الهنود والأفريقيين، وسائر الشعوب
الإسلامية، الذين سممتهم التربية الإفرنجية، وأفسدتهم الآراء المادية، وخنثهم
الإسراف في الشهوات البدنية، ونحن نطلق لقب الإلحاد على كل من يسمي خطة
هؤلاء الكماليين في نبذ الشريعة الإسلامية برمتها من حكومتهم، والتمهيد لمحو
عقائد الإسلام وآدابه وعباداته من نابتة شعبهم، بمنع اللغة العربية من جميع بلادهم،
وترجمة القرآن بما لا يؤدي حقائق معانيه من لغتهم، وكتابته كغيره بالحروف
اللاتينية، للإجهاز على ألفاظه وأساليبه المعجزة، بل كل من يسمي هذه الخطة
إصلاحًا ويحسنها ويدعو إليها، فهو عدو للإسلام وولي لأعدائه، وعداوة الإسلام
أعم من الارتداد عنه والكفر به، فإن كان مع هذا زنديقًا يدَّعي الإسلام ويخفي
الكفر، فإفساده أعم وأكبر من إفساد الكافر الأصلي والمرتد، لأن الجاهلين بحقائق
الإسلام من المسلمين يغترون بكلامه، فيفتنهم عن دينهم أو يشككهم فيه.
وإننا نرى ملاحدة بلدنا هذا طبقات بددًا، تسلك طرائق قددًا:
(الطبقة الأولى) :
المجاهرون بالكفر والصد عن الدين، والطعن في عقائده، وإلقاء الشكوك
والشبهات فيها، بما يكتبون في الجرائد والمجلات المختلفة، ومنهم صاحب مجلة
ومطبعة في مصر معروف، وفي حلب مجلة حديثة مثلها يظهر أن صاحبها مقلد
ينقل أقوال أشهر الكتاب من ملاحدة مصر، وقصائد شيخ ملاحدة العراق وأمثالهم،
ويثني عليهم وينوه بآرائهم، ولكنه لا يتجرأ على التصريح بكل ما يصرحون به
بإمضائه.
ومنهم أحد محرري الجرائد اليومية المأجورين، الذي كتب مقالات في تقبيح
النص في الدستور المصري على جعل الدين الرسمي للحكومة المصرية الإسلام،
وطلب أن تكون حكومة معطلة (لا دينية) ومقالات في سن قانون مدني للأحوال
الشخصية، لا يتقيد فيه بشيء من الأحكام الإسلامية، وقد كان من أركان محرري
السياسة، ويقال: إن له صلة وعلاقة ببعض جمعيات اليهود. وأفراد هذه الطبقة لا
يدّعون التدين ولا يمتعضون لوصفهم بالتعطيل، بل منهم من يفتخر بذلك.
(الطبقة الثانية) :
الزنادقة الذين يظهرون الإسلام، ويمتعضون إذا وُصفوا بالزيغ والإلحاد،
وهم مع ذلك يطعنون في أصوله، ويجحدون بعض ما هو مجمع عليه ومعلوم
بالضرورة منه، ويشككون في بعض آيات القرآن، وهم لأفراد من الطبقة الأولى
إخوان وأخدان وأعوان، ويسمون الترك الكماليين ومقلدتهم: مصلحين، ويدافعون
عنهم بألسنتهم وأقلامهم، أو أقلام أفراد الطبقة الأولى.
ورأي هؤلاء في الدين أنه رابطة اجتماعية سياسية يجب أن يكفي في
الاعتراف لأهلها به موافقتهم للجمهور في بعض الشعائر والمشخصات العامة،
كالتجمل والزيارات في الأعياد، وإن لم يصل صاحبها صلاة العيد، واحتفال
الجنائز ومآتمها، وقراءة القرآن فيها، وإن اشتمل ذلك على أعمال كثيرة يحرِّمها
الدين، وكزيارات ليالي رمضان وطواف المسحرين فيها، ولكن الصيام نفسه ليس
ركنًا من هذه الشعيرة، ولا شرطًا لها، وكذلك الصلوات الخمس - حتى الجمعة -
والزكاة لا يدخلان في هذا الدين الرسمي من باب ولا طاق، فإنهما عندهم من
الأمور الشخصية، وتُعَدُّ كاستباحة السُّكر والقمار وغيرهما من المنكرات والفواحش
مما تتناوله الحرية الذاتية، كما أن ما تقدم من الطعن في الدين وخلفائه وأئمته مما
تتناوله حرية الأفكار، ويباح الخوض فيه للألسنة والأقلام، ونشره في الكتب
والرسائل، والمجلات والجرائد. قال بعضهم ما معناه: إذا تكلمتُ بلسان الدين أقول:
إن ما في القرآن من كذا وكذا، صحيح مسلَّم، وإذا تكلمت بلسان العلم والعقل أقول:
إنه غير صحيح وغير مسلَّم، يعني أن هذا الذي يثبته القرآن صحيح في اعتقاد
المسلمين، صحيح ومسلَّم عندهم بمحض التقليد، ولكنه غير صحيح ولا ثابت بدليل
عقلي ولا علمي، بل ربما يبطله الدليل.
ولولا أن قائل هذا زنديق ذو لسانين يُسِر الكفر بوحي الله، وإن قال أحيانًا:
قال الله، قال رسول الله - لما استباح التشكيك فيه بمثل هذا من قوله، بل لكان إثبات
كتاب الله تعالى للشيء أقوى برهان عنده على ثبوته في نفسه، وإن لم يثبته أحد
من خلقه بنظريات فكره وما وصلت إليه مباحث علمه، فإن علم الله محيط بكل
شيء من خلقه، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بإذنه، أي بما وهبهم من أسباب
كسبه من الحس والعقل، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن كل ما ثبت عند البشر
من هذين الطريقين الكسبيين لهم، كان مجهولاً قبل ذلك عندهم، وذلك لا يقتضي
عدم ثبوته في نفسه ولو لم يثبته الوحي الصحيح، فكيف إذا أثبته.
(الطبقة الثالثة) :
الغماليج الإِمعون من مرضى القلوب المقلدين، الذين يشايعون المؤمنين إذا
كانوا معهم، ويجارون الملحدين إذا وُجدوا بينهم، فلا يُعرف لهم رأي ثابت مستقر
ينصرونه ويردون ما خالفه، وأما سيرتهم في العمل فهي تابعة لتربيتهم في بيوتهم،
وحال عشرائهم من لداتهم وأترابهم، ورفاقهم في المدارس وجيرانهم، فتراهم
يجمعون بين الكفر والإسلام، ومنهم من يصلي الصلوات الخمس لأنه تربى على
ذلك، ثم يقر ما هو كفر بإجماع المسلمين، وينصر الملاحدة القائلين به، فإسلامهم
تقليدي، وإلحادهم تقليدي، والغالب على أمرهم من يكون أكثر معاشرة وارتباطًا
بهم، ومساعدة لهم على أهوائهم ورغائبهم، ومنهم منهوم المال، ومفتون الجاه.
وثَم طبقات أخرى مدغم بعضها في بعض، فيعسر الحكم عليها بالقطع، على
تفاوت الأفراد فيها في العمل والفكر.
وطالما ضربت مثلاً لمسلمي الأمصار المتفرنجة وطبقات الملاحدة: اختلاط
الماء الحلو بالماء الملح، في مثل شط العرب من جهة البصرة، وساحلي رشيد
ودمياط من مصر، فما كان بين العذب الفرات والملح الأجاج من المائين يتفاوت
على نسبة القرب والبعد من كل منهما، وهكذا نرى بعض المسلمين المتفرنجين،
منهم ما غلب عليه أجاج الكفر، فصار من أهله مُسرًّا له أو معلنًا، ومنهم المزُّ بين
عذوبة الإيمان وملوحة الإلحاد، والمزازة فيه على درجات، بعضها مقطوب لا
تكاد تشربه إلا مقطِّبًا، وبعضها مغلوب إذا تجرعته لا تكاد تسيغه إلا متهوعًا.
ومما ثبت عندنا بالخبر المستفيض، والخُبْر الطويل العريض، أن من أفراد
أولئك الملاحدة دعاة الكفر، وسعاة للصد عن الإسلام، وأن منهم من يأخذ على ذلك
جعلاً من جميعات التبشير بالنصرانية، ومنهم من يتقاضى مكافأة من بعض
جماعات اليهود البلشفية والصهيونية، ومنهم من يخدم الدول الاستعمارية ويأخذ
أجره منها، وأعظم هذه الأجور المناصب والوظائف في البلاد المسيطرة عليها،
ومنهم من لذته في ذلك التشبه ببعض فلاسفة الإفرنج وكتَّابهم الأحرار، والحظوة
عندهم، والثناء عليهم في كتبهم وصحفهم، وهم لا يثنون إلا على من كانوا عونًا
لهم على أقوامهم، ألم تر إلى المستعمرين والمبشرين من السكسون واللاتينيين،
كيف نوَّهوا وينوِّهون بعلي عبد الرازق وكتابه المعلوم كما رأيت في البرقيات العامة
في إبان ظهوره، وكما ترى في المقال الأول من مقالات هذا الجزء مترجمًا عن
كتاب فرنسي جديد، أُلِّف للإغراء بهدم الإسلام وتنصير المسلمين.
كان المرحوم الأستاذ الشيخ محمد مهدي وكيل مدرسة القضاء الشرعي أول
من أنبأني بأنه وجد في مصر جماعة تتعاون على الصد عن الإسلام، بالطعن في
شريعته، وفي حكومته، وفي لغته، وفي أئمته، وفي كل من نوَّه بهم التاريخ من
الخلفاء، وكبار العلماء والأدباء، وفي جمهور سلفه في أرقى العصور، ثم ظهرت
آثارهم الخفية في بعض الصحف العامة، وفيما نشروا من المصنفات الخاصة،
وكان تعاونهم بمقتضى تعارفهم وتوادهم، وانتماء بعضهم إلى حزب سياسي
ينصرهم.
ألم تر أن الوزارة الائتلافية كادت تسقط ويتمزق نسيج وحدة الأمة بانتصار
أعظم أركانها لمؤلف ذلك الكتاب الرجس الذي جهر ملفقه بالطعن في القرآن،
ترجيعًا لأصوات بعض أعدائه من المبشرين بالإنجيل.
وقد أخبرنا من خبر حالهم، وعاشر رجالهم، بطرق الدعوة التي يفتنون بها
الشبان عن دينهم، ولا سيما الأذكياء الفصحاء منهم، وسنبينها في مقال آخر، ومما
بلغنا من أمرهم أنه لم يكن لهم نظام للدعاية إلى عهد غير بعيد ثم وضعوه.
وقد علم الجمهور أنه كان قد تألف في مصر حزب لحرية الفكر، كان
الملاحدة هم المؤسسين له بالطبع، من حيث لا يدري كثير ممن انتظم في سلكه،
أو جعل نوتيًّا لتسيير فلكه ولكن بعضهم تجرَّأ فيه على كلام ساء بعض من حضره
من النصارى، فانتصروا لدينهم بالفعل، وكان ما كان من التشاجر الذي أفضى إلى
القضاء على ذلك الحزب.
وقد نشرت جريدة السياسة الأسبوعية في مارس سنة ١٩٢٨ مقالاً لأحد
أركانهم صرَّح فيه بأنه يوجد في مصر تعصب ديني (إسلامي) ضار، وأن
جماعة كانوا ألَّفوا حزبًا لمقاومته وتوطيد دعائم الحرية، وهذه الجماعة لا تزال
تعمل لهذه الغاية.
ولما أُلِّفت في مصر جمعية الشبان المسلمين، عارضوها بتأليف (جمعية
الشبان المصريين) لأجل القضاء عليها بدعاية الوطنية، قبل أن تشب عن الطوق،
وتشب نارها، فلا يكون لهم بها طوق؛ ولكنهم لم يقاوموا جمعية الشبان
المسيحيين بقول ولا عمل، بل وُجد فيها من يكبر شأنها، ويلقي المحاضرات في
ناديها.
وليس الإلحاد في مصر بحديث العهد، بل نبت قرنه مع التفرنج منذ أكثر من
قرن، ومازال يرتفع ويقوى حتى طمع أهله بإطفاء نور الدين، وقد استباحه مَنْ
استباحه باسم الحرية، وفنَّد الأستاذ الإمام جهالتهم ببعض مقالاته في الوقائع
المصرية. كان غربيًّا غريبًا، فأصبح شرقيًّا قريبًا، أو كان سيلاً أتيًّا، فأمسى
ينبوعًا وطنيًا، وكان شر مظاهره وأشدها خطرًا ما فاه به بعض ملاحدة المسلمين
في مجلس النواب، من الطعن في الشرع وفي نفس القرآن، إذ فاه فض الله فاه،
وسلَّ لسانه من قفاه، ولا رحمه ولا رحم مجلسه الموؤد، بتلك الكلمة التي تقشعر منها
الجلود،: أنه لا يحترم - أو قال: يحتقر - كتابًا يبيح تعدد الزوجات. ولكن ذلك
الملحد الإباحي لا يحتقر قانونًا يبيح الزنا للرجال والنسوان، وتعدد البغايا والأخدان،
دع اعتراض آخر منهم على من طلب وقف الجلسة بعض دقائق لأجل فريضة
المغرب، وتصريحه بأنهم لا يبغون الصلاة مطلقًا أو في ذلك المجلس، ووافقه
الجمهور على ذلك، فكان الأفراد الذين يحافظون على الصلاة على قلتهم يتسللون من
الجلسات فيصلون فُرادى ويعودون إليها.
وإنما الحديث عندنا هو تأليف الأحزاب وتعاون الجماعات على بث الدعوة
إلى الإباحة والإلحاد، ونشر الجرائد والمجلات لمقالاتهم المسمومة، وإلقاء
المحاضرات في ذلك ونشر الكتب الملعونة، حتى إنني كتبت في المنار أنه لا فرق
بين ملاحدة الترك الكماليين، وملاحدة هذه البلاد المفتونين والمقلدين، إلا أن أولئك
أولو قوة عسكرية، فينفذون إلحادهم بالقوة القهرية، ولا سلاح هنا إلا بيد السلطة
الأجنبية، ولقد كان بمجلس النواب في الآستانة مسجد خاص يصلي فيه الأعضاء
وتقام فيه الجماعة، كما كان يوجد في دور الحكومة مساجد يصلي فيها أهلها جميع
الصلوات التي تدركهم فيها.
تجديد ملاحدتنا وتجديد الإفرنج:
إن ما فعله ملاحدة الترك من هدم معالم الإسلام من حكومتهم، وما ظهر في
حكومتي الأفغان والإيران من بوادر الاقتداء بهم، وما ذكرنا القارئ به مما حدث
في مصر، بل سرت عدواه إلى كل قطر، هو الذي أطمع المستعمرين ودعاة
النصرانية في أوربة بالإجهاز على الإسلام، والتذفيف على ما بقي من مظاهر
الحكم الإسلامي في جميع بلاد الإسلام، وتجديد النصرانية وتعزيزها في الغرب
والشرق، وهاك إشارة إلى بعض ما فعلوا في تجديد دينهم مما يعد أكثره ذريعة
للتعدي على ديننا:
(١) عقد دعاة البروتستانتية من الإنكليز وغيرهم مؤتمرًا بعد آخر في
القدس مهد النصرانية للتشاور في تعميم تنصير المسلمين، ونشرت جمعية لهم في
لندن بيانًا ذكرت فيه أنه لم يبق للإسلام رسوخ ولا ثبات إلا في جزيرة العرب،
وأنها تحتاج إلى مائة مبشر من المجاهدين لنشر النصرانية في هذه الجزيرة
والقضاء عليه في مهده الأول، ومعقله ومأرزه الأخير.
(٢) أعادت الدولة الفرنسية للجمعيات الكاثوليكية ما كانت صادرته من
أموالها وأوقافها تنشيطًا لها على نشر النصرانية في مستعمراتها الأفريقية وسورية.
(٣) أُلِّفت كتب جديدة باللغة الفرنسية وغيرها في الطعن على الإسلام،
والحث على تنصير المسلمين ولو بالقهر والإكراه، وقد نشرنا فصول بعض هذه
الكتب في هذا الجزء وفيما قبله، وسننشر بعضها فيما بعده.
(٤) صالحت الدولة الإيطالية دولة الفاتيكان الكاثوليكية، وأعادت للبابا
سلطانه السياسي في دائرته ومئات الملايين مما كانت اختانته من أموال دولته،
فتجدد للكنيسة الرومانية بعض سيادتها وسياستها، وهذا بدء انقلاب جديد في تجديد
النصرانية في الشرق والغرب، وذلك لا يضيرنا إلا إذا اعتدوا علينا، وهو أهون
من التعطيل والإلحاد عندنا.
(٥) نشطت الجمعيات التي تدعو إلى توحيد كنائس المذاهب النصرانية في
الشرق والغرب وسارت في سعيها خطوات إلى الأمام.
(٦) إن حركة تجديد الدين في إنكلترة تلي في العناية حركة إيطالية، وقد
اشتهر ما كان من اقتراح تعديل كتاب الصلاة المتبع في الكنيسة الرسمية ورد مجلس
الأمة (البرلمان) له المرة بعد المرة. وقد أُلِّفتْ جمعيات أخرى للبحث في العقائد
المسيحية، وتقاليد الكنيسة، وتقريب ذلك من العلم، واستعداد العصر.
(٧) تبارت الأمتان الإيطالية والإنكليزية في الرجوع إلى آداب الدين في
أزياء النساء وعاداتهن، ومقاومة ما أحدثن من الإسراف في التبرج والخلاعة،
المفضية إلى الإباحة، فكتب بعض كبار الكتاب من الإنكليز في ذلك مقالات نشرت
بعضها الجرائد المصرية.
وأما إيطالية فقد منع رجلها المجدد ووزيرها الأكبر كثيرًا من هذا الإسراف في
الأزياء والرقص والسباحة تجديدًا للدين والأخلاق لتجديد قوة الأمة وعظمتها، وذلك
مما يحمده كل فاضل له ولها.
العبرة في تجديد أوربة وتجديد ملاحدتنا:
وأما ملاحدة بلادنا ودعاة الكفر والإباحة فيها، فالتجديد الذي يدعون إليه هو
هدم كل ما يربط الأمة ويشد أزرها، ويجمع كلمتها، ويهذب أخلاقها، من روابط
الدين والمحافظة على العرض، ويسمون الكفر والفجور وإباحة الأعراض تجديدًا
طريفًا، ومدنية وتقدمًا وترقيًا، ويسمون ما يقابل ذلك من التقوى والعفة والصيانة
قديمًا باليًا، وقد استشرى عيثهم وفسادهم، وعظم خطرهم بكثرة الجرائد والمجلات
التي ينفثون فيها سمومهم، على صغر شأنهم، وسوء سيرتهم الشافّ عن خبث
سريرتهم، فإنه لا مزية لأحد منهم في علم نافع، ولا عمل صالح، وإنما هي خلابة
الألفاظ التي وافقوا فيها أهواء كبار الفساق وصغار الأحداث، وإن أهل الرأي
والبصيرة عندنا يجزمون بأن جُل زعزعة العقائد وفساد الأعراض وإباحة النساء،
يناط بفساد أكثر الجرائد والمجلات، فيا حسرتا على جريدتي المؤيد واللواء،
ويا حسرتا على شعب يُعَدُّ من أرقى شعوب الشرق ثروة وحضارة وعلمًا ووطنية،
تعجز الأكثرية الساحقة فيه عن إيجاد جريدة يومية، تدافع عن عقائده وشريعته وآدابه
الملية، على حين نرى لكل الأقليات الملية المتعددة فيه جرائد متعددة تقوم بهذه
الوظيفة حق القيام! وهذه الأقليات بجملتها لا تبلغ عُشْر هذه الأكثرية الساحقة لها،
وإنما تفوقها في ثروتها النسبية وجامعتها.
خطر إباحة النساء أو تحريرهن:
إن مسألة فوضى النساء التي يعبر عن دعايتها بتحرير المرأة، وتفضيل
تهتكها - المعبَّر عنه بالسفور - على صيانتها وعفتها المعبر عنهما بالحجاب، قد
هبطت بالقطر المصري وغيره من شعوب الشرق المتفرنجة إلى مهواة من أشد
المهاوي خطرًا على أعراضها وتكوين بيوتها (عائلاتها) وعلى ثروتها وصحتها،
وإن سمى المفسدون دعاة الإباحة والدياثة هذا الخطر تجديدًا وتمدينًا، فقد صار النساء
من ربات البيوت والأمهات، ومن العذارى المتعلمات، يمشين في الشوارع بالليل
والنهار، مخاصرات للرجال، ويغشين الملاهي والمتنزهات، وهن كاسيات عاريات
، مائلات مميلات، ومنهم من يسبحن في البحر حيث يسبح الرجال أو معهم، وحيث
يراهن المارون بقرب الشواطئ منهم، ومنهن من يختلفن إلى المراقص المشتركة
فيرقصن معهم، وهن أشد من الأجنبيات عريًا وتهتكًا وخلاعة ومجونًا ورقاعة،
ومنهن من يدخلن في خلوات الحلاقين حيث يقصون لهن شعورهن ويحلقون لهن
أقفيتهن، ويزينون لهن نحورهن وصدورهن، وهنالك يلتقين بأخدانهن، ولا تسل عن
حديثهما جهرًا، وتواعدهما سرًّا، دع ذكر تعدد المواخير السرية، على كثرة الجهرية،
ومن المخادنات الشخصية، والجرائد والمجلات الكثيرة تغري بهذا أو تذكر من
وقائعه ما يجرئهن عليه.
وكان أول ما أعقبه هذا الفساد من الخطر قلة الزواج، المهدد للأمة بالوقوف
عن النماء، فالانقراض والفناء.
إن خصوم الإسلام القاعدين له كل مرصد يضحكون سرورًا مما أصابه من
الخزي بأهله، الذين يمهدون لهم السبل لاستعبادهم، والاستعمار لسائر بلادهم،
ويرقبون كل نبأة للإصلاح تخرج من فم أحد حكمائهم، أو حركة للتجديد الحق
يختلج بها بعض أعضائهم، فيبادرون إلى تحذير دولهم منها، وحضهم على تلافي
ما يخشى من تأثيرها، ثم إنهم يطعنون فيمن صدرت عنه لصد المسلمين الغافلين
عنها، كما ترى في مقال (ما يقال عن الإسلام في أوربة) من هذا الجزء نقلاً عن
(جول سيكار) العسكري الفرنسي (والأب لامنس) القس الجزويتي، والدكتور
(سنوك) السياسي الهولندي، من كلامهم في الأستاذ الإمام وصاحب المنار، وما
قاما به من دعوة الإصلاح، ورأيهم في المجلة وتفسيرها، ورسالة التوحيد وتحقيقها،
وتعزية أنفسهم بأن حركة التفرنج العصرية، قد أخذت تنتقص الأصول الدينية،
وبأن أفكار الشيخ محمد عبده التي تغلغلت في عقول المفكرين، وكان لها المجال
الواسع لدى الشبان المسلمين، تلقى أشد الإنكار من أرباب العمائم الجامدين، قالوا
(ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن يجهروا بأفكارهم، لقلة
عددهم، ولشدة مقاومة الجامدين لهم) .
بشائر الإصلاح:
وإننا نبشر هؤلاء الشامتين، الذين يتربصون ريب المنون بالإسلام والمسلمين،
معتمدين على مساعدة الملاحدة المتفرنجين بأن طلائع النصر قد رفعت أعلامها
على رؤوس المصلحين، وانتهت رياسة علماء الدين إلى أحد تلاميذ الأستاذ الإمام،
ونوابغ مريديه الأعلام، وهو الأستاذ الأكبر، الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ
الجامع الأزهر، وقد لقي من جلالة ملك مصر وحكومته من المساعدة، بقدر ما كان
يلقى الشيخ محمد عبده نفسه من المناهضة والمعارضة، فصارت ميزانية الأزهر
تبلغ مئات الألوف من الجنيهات، وصار للمتخرجين فيه نصيب من مصالح
الحكومة، فنكس الجامدون على رؤوسهم، وارتكست فتنتهم بين جراثيم شيوخهم،
وانطلقت في المعاهد الدينية ألسنة العلماء المستقلين، وصارت رسالة التوحيد تُدَرَّس
في الأزهر للقسم العالي من الطلبة النظاميين، وتفسير المنار هو المرجع لمدرسي
التفسير فيه، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية متغلغلة في أحنائه ومناحيه، بل صارت
مرجعًا للفتاوى الرسمية، وأخذ ببعضها في إصلاح الأحكام الشخصية للمحاكم
الشرعية.
هذا وإن مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين، معدود
من هؤلاء المريدين، وكذلك رئيس المجلس الإسلامي الذي أنشئ أخيرًا في بيروت.
وهنالك بشارة أخرى في تحول الأحوال، ونصر حزب الله على أحزاب
الشيطان، من الشيوخ الجامدين، والمتصوفة الخرافيين، والمتفرنجين الملحدين
الفاسقين، وهو تأليف جمعية الشبان المسلمين، وتعدد فروعها في الأقطار العربية
من شرقية وغربية، وفوق ذلك كله يقظة الأمة العربية في جزيرتها، وشروعها في
تنظيم قوتها، واتفاق إماميها في الجنوب والشمال على شد أواخي وحدتها باليمين
والشمال، والأمم إذا عرفت نفسها وتعارفت شعوبها، تعذر على غيرها القضاء
عليها والاستبداد فيها، فلا يستعجلن سيكار الفرنسي وسنوك الهولندي وأمثالهما
بإغراء دولهما بسرعة القضاء على المسلمين، فربما كان هذا الاستعجال قضاء
على سلطان مجترحيه فيهم لا عليهم ولو بعد حين، وربما كانت محاسنتهم،
والتوسعة عليهم في حرية دينهم، ومساعدتهم على تنمية ثروتهم، أقرب إلى طول
العهد على الاستفادة منهم.
وليعلموا أن المنار ليس عدوًّا لدولة من الدول، ولا خصمًا لشعب من الشعوب،
ولا لعلوم الغرب وفنونه المنزهة عن فسقه ومجونه، كما يقول سيكار وأمثاله؛
وإنما هو صديق لأمته ولمن يصدق في ودها، وليسأل إن شاء مسيو (روبير
دوكيه) أشد خصم للمسلمين في سورية وأقوى داعية إلى استعمارها، عما نصحت
به له ودللته عليه في سنة ١٩٢٠ عن الطريق المعقول لكسب فرنسة مودة المسلمين
عامة والعرب خاصة، وسورية بالأخص بما يُعلي نفوذها الأدبي والاقتصادي في
الشرق كله، وعن قوله لي أن هذا مشروع معقول لا خيالي، وأنه يمكن تنفيذه إذا
وُجد منا ومنكم من يقول به.
ثم ليسأل مسيو (هانوتو) عما كتبته إليه بهذا المعنى في جنيف سنة ١٩٢١،
فإذا علم هذا وعقله حكم بأنه يوجد فيمن يعدونهم أعداء لفرنسة من هم خير لها من
بعض ضباطها وقسوس جزويتها، الذين يسخرون نفوذها لمنافعهم دون مصلحتها.
والعاقبة للتقوى، والسلام عن من اتبع الهدى.
هذا وإننا على ما عهد قراء المنار منا وهو ما عاهدناهم عليه منذ سنته الأولى
من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهم أول من يتلقاها
منهم، ويدخل في ذلك الدفاع بيان حقائق التنزيل، وما بيَّنه من سنة الرسول،
ومقاومة البدع والخرافات، وإبطال شبهات الزندقة والإلحاد والتحذير من أخطار
الاستعمار، والدمدمة على ضلالات المبشرين، وفضيحة مخازي المتفرنجين.
وتزييف مغالطات الماديين، وتأييد حرب الإصلاح والمصلحين والإصغاء لانتقاد
المخلصين، ونرجو من أهل الغيرة على الأمة والحرص على إحياء مجد الملة من
إخواننا العلماء، وسائر أفراد القراءة أن يشدوا أزرنا، ويؤدوا لنا حقنا، فقد آن لهم
أن يعتبروا بتعاون الملحدين والمفسدين على باطلهم، وتظاهرهم على من يَرُدّ على
أحد منهم، بل آن لحزب الإصلاح - الوسط بين حزب الجمود والتقليد، وحزب
التفرنج الملقب بالتجديد - أن يجمعوا كلمتهم، ويوحدوا شتيتهم، ويتعارف شرقيهم
بغربيهم، وجنوبيهم بشماليهم، فإن يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم
القاصية، وأرجو أن يكون آخر المنار خيرًا من أوله، وأن يزيده الله توفيقًا
بإحسانه وفضله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.