للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السنة والشيعة
أو الوهابية والرافضة
(٤)
نموذج من نقول في الطعن على ابن تيمية
أول شيء نقله الرافضي العاملي في طعن العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية
كلمة للفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهي دعوى التجسيم.
فنقول في الكلام عليها (أولاً) هل يعد الرافضي العاملي كلام ابن حجر هذا
في الدين ورجاله حكمًا صحيحًا مع علمه بما قاله في كتابه الصواعق، وفي كتابه
مناقب معاوية في بدع الشيعة وتضليلهم ... إلخ، أم يقبل قوله في ابن تيمية وحده
دون معاوية ودون الشيعة كلهم كما هي عادة أمثاله من المتعصبين الذين لا يقبلون
إلا ما يوافق أهواءهم؟
نحن لا ننكر أن ابن حجر الهيتمي طعن في ابن تيمية، وما هو من طبقته في
علم من العلوم: لا علوم الحديث ولا التفسير ولا الأصول والكلام ولا الفقه أيضًا،
فابن حجر هذا فقيه شافعي مقلد لمذهب الشافعي غاية شأوه بيان ما قاله مَن قَبله في
المذهب، وبيان الراجح من المرجوح والصحيح وغيره، وأما ابن تيمية فمن أكبر
حفاظ السنة، ومع كون طبقته في فقه الحنابلة أعلى من طبقة ابن حجر في فقه
الشافعية فهو حافظ لفقه الأئمة، ومن أهل الترجيح بينها، بل هو مجتهد مطلق كما
اعترف له أهل الإنصاف من علماء عصره ومن بعدهم، وإن أنكر عليه بعضهم
بعض المسائل المخالفة لمذاهبهم، وما من إمام مجتهد إلا وقد أنكر عليه المخالفون
بعض أقواله وهم خير ممن يقلدونه ويعدونه كالمعصومين في عدم مخالفته في شيء
مما ثبت عنه.
ومع هذا نعتقد أن ابن حجر الهيتمي هذا لم يطلع على كتبه؛ وإنما قال فيه ما
قال اعتمادًا على ما أشاع عنه خصومه من المبتدعة ومتأولة الأشاعرة ومغروري
المتصوفة، فمن أعظم سيئاته عند هؤلاء رده على الشيخ محيي الدين بن عربي
وبيانه لضلالة وحدة الوجود المشهورة عنه وعن أمثاله.
وأما قوله بإظهاره للعامة على المنابر دعوى الجهة والتجسيم فهو مقلد فيه
لأولئك الخصوم في تسميتهم إثبات العلو لله تعالى جهة مستلزمة للتحيز والتشبيه -
للتنفير والتشهير بشناعة الألفاظ كتسميتهم لإثبات الاستواء على العرش والنزول إلى
سماء الدنيا ونحوهما تجسيمًا أي بطريقة اللزوم، فإن كان يلزم من إثبات نصوص
الكتاب والسنة ما ذكروا كما زعموا فهل يترك المسلمون نصوص الكتاب والسنة
لأجل نظرياتهم في هذه اللوازم؟ ثم هل يقولون بضلال سلف الأمة وحصر الهداية
بالمبتدعة المتأولين، مع العلم بأن مذهب السلف ونصيرهم ابن تيمية نفى هذه
اللوازم كلها؟ .
وهذا عين ما ناظره فيه العلماء الذين شكوا أمره إلى سلطان مصر، قالوا: إنه
يذكر للعوام آيات الصفات وأحاديثها من غير تأويل، وطلبوا منه هو عدم التصريح
بذلك للعوام فأبى عليهم ذلك؛ لأنه كتمان لما أنزله الله، والله تعالى يقول في كتابه
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ
أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: ١٥٩-١٦٠) وأي طعن في الدين وجناية
عليه أعظم من القول بوجوب كتمان صفات الله المنزلة في كتابه بناء على أن
المبتدعة ومغروري المتكلمين قالوا بوجوب تأويلها.
وقد قال الرافضي العاملي بعد نقل ما ذكر عن ابن حجر الهيتمي: وقال ابن
حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حُكي: إن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم
من نسبه إلى التجسيم ... إلخ.
ونقول في هذه الكلمة: (أولاً) إن ابن حجر صاحب الدرر الكامنة ليس ابن
حجر الهيتمي المكي كما يدل عليه قوله: (أيضًا) بل هو الحافظ ابن حجر
العسقلاني وكتابه (الدرر الكامنة) تاريخ له في أعيان المائة الثامنة، وهو مشهور
وإن جهله الرافضي العاملي المدعي، فما أجهل هذا الرافضي برجال أهل السنة
وكتبهم! .
(وثانيًا) إن الحافظ ذكر في تاريخه هذا ما تقوَّله الناس على ابن تيمية،
وما طعنوا به عليه كما يذكر هو وغيره من المؤرخين مثل ذلك في غيره من الأئمة
حتى المعصومين عند الشيعة؛ ولكنه هو يثني عليه أجلَّ الثناء، وقد رأيت كلامه
في الانتصار لمذهب الحنابلة، وهو مذهب السلف في الصفات الإلهية، ومنها صفة
العلو، وكذا في مسألة الحرف والصوت في شرحه للبخاري الذي نقلناه آنفًا؛ ولكن
الرافضي يعمى عن رؤية ذلك، ويوهم قراء كتابه أن الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام
وأستاذ أشهر العلماء والحفاظ في عصره يطعن في ابن تيمية ويقول بكفره، لعدم
تأويله للآيات والأحاديث الواردة في صفات الرب تعالى، كما أوهم مثل ذلك في
الحافظ الذهبي إذ قال بعد ما تقدم نقله عنه في ص ١٣٢ من كتابه ما نصه:
(ورَدَّ أقاويله وبيَّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر
الكامنة، والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين) .
(وثالثًا) ننقل من ترجمة الحافظ ابن حجر لابن تيمية، ومن ترجمة الحافظ
الذهبي فيها ما يُعرف به الحق من الباطل في مزاعم هذا الرافضي الكذاب فنقول:
ترجمة
شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله سره
للحافظ ابن حجر في تاريخه الدرر الكامنة [١]
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية
الحراني ثم الدمشقي الحنبلي، تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين بن مجد الدين.
وُلد سنة إحدى وستين وستمائة وتحول به أبوه من حران سنة سبع وستين
وستمائة، فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأريلي والمسلم بن علان وابن أبي
عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود، وحصل الأجزاء،
ونظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر، وتميز، وتقدم، وصنَّف، ودرس،
وأفتى وَفَاقَ الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع
في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف.
وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين
وستمائة: قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية، وبحثوا معه، ومنع
من الكلام، ثم حضر القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال
الدين: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئًا عزّرناه.
ثم ذكر ما وقع له من الاضطهاد والحبس والإطلاق بتواريخه مفصلاً، فعلم منه
أن سببه سعاية بعض الجامدين على التقاليد الأشعرية والفقهية والمتصوفة إلى
السلطان في انتصاره لمذهب السلف، وفي إنكاره على الصوفية ولا سيما ابن عربي،
وفي مسألة الطلاق الثلاث حتى اتهموه بطلب الخلافة كما سيأتي ذكره وأن جميع
الحنابلة كانوا يضطهدون معه، وكان بعض المنصفين ينتصرون له لما امتازوا به من
الاستقلال في العلم، حتى إن الحكومة أكرهت الحنابلة كلهم على الإقرار بأنهم على
معتقد الإمام الشافعي، وذكر أن ابن تيمية نفسه كتب بخطه أنه على معتقد الشافعي،
وهذا تخلص حسن إن صح فالشافعي كان على مذهب السلف في اعتقاده بلا شك،
وذكر أن ممن انتصر لابن تيمية في دمشق قاضي الحنفية شمس الدين الحريري.
وأنه توفي معتقلاً في القلعة لعشرين ليلة خلت من رجب سنة ٧٢٨ ثم قال:
قال الصلاح الصفدي: كان كثيرًا ما ينشد:
تمرت النفوس بأوصابها ... ولم يدر عواها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي ... أداة إلى غير أحبابها
وأنشد له على لسان الفقراء:
والله ما فقرنا اختيار ... وإنما فقرنا اضطرار
جماعة كلنا كسالى ... وأكلنا ما له عيار
يسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار
وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره
كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عليه، وكابن الوكيل وغيرهما، قال: ورثاه محمود
بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين
بن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين بن غانم وشهاب الدين
بن فضل الله العمري وزين الدين بن الوردي وجمع جم، وأورد لنفسه فيه مرثية على
قافية الضاد المعجمة.
قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل
الخلاف واستدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه، قال: وما
رأيت أسرع منه انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها، ولا أشد
استحضارًا للمتون وعزوها منه ‍! كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة
رشيقة لا يسبقه بها غيره وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير
والتوسع فيه.
وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه، هذا مع
ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذّ النفس؛ ولعل فتاويه في الفنون
تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم (ثم قال)
ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى
التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده.
وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن
عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت،
فصيحًا سريع القراءة، تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم (قال) ولم أر مثله في
ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه، وأنا لا اعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له
في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه
وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وسطة
للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان لحلمه إجماع، فإن
كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بتفوقه، مقرون بندور خطئه وأنه بحر لا
ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالاً، وكل أحد يؤخذ
من قوله ويترك من قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قال) وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا،
لا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر، ولا
كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفرد بمسألة من التشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل
يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر
على خطئه، وأجران على إصابته.
إلى أن قال: تمرّضَ أيامًا بالقلعة بمرض حاد إلى أن مات ليلة الإثنين،
العشرين من ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع دمشق، وصار يُضرب بكثرة من
حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفًا.
قال الشهاب بن فضل الله: لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة
سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد، وأغلظ القول
للسلطان والأمراء، ورتبوا له في مدة إقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة طعام، فلم
يقبل من ذلك شيئًا، وأرسل له السلطان بقجة قماش فَردَّها.
(قال) ثم حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل،
ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها:
لما أتانا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فردٌ ما له وزر
على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر
حَبرٌ تسربل منه دهره حِبرًا ... بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تميم إذ مضت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان ينتظر [٢]
قال: ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيمية القول في سيبويه،
فناظره أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد ذا ماله، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر.
(قال) وحجَّ ابن المحب سنة ٢٤ فسمع من أبي حيان أناشيد، فقرأ عليه
هذه الأبيات، فقال: قد كشطتها من ديواني ولا أذكره بخير، فسأله عن السبب في
ذلك فقال: ناظرته في شيء من العربية، فذكرت له كلام سيبوبه، فقال: يفشر
سيبويه، قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب. ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما
كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا ما
تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره (البحر) بكل سوء،
وكذلك في مختصره (النهر) ورثاه شهاب الدين بن فضل الله بقصيدة رائية مليحة،
وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله تعالى، ورثاه زين الدين بن
الوردي بقصيدة لطيفة طائية.
وقال جمال الدين السرمري في أماليه: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل
زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب يطالعه مرة، فينتقش في ذهنه وينقله في
مصنفاته بلفظه ومعناه.
وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية: بارع في الفقه والأصلين
والفرائض والحساب وفنون أخر، وما من فن إلا له فيه يد طولى وقلمه ولسانه
متقاربان. قال الطوفي: سمعته يقول: من سألني مستفيدًا حققت له، ومن سألني
متعنتًا ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته. وذكر تصانيفه، وقال في كتابه
إبطال الحيل: هو عظيم النفع، وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع
الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد
أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه، فيأخذ منها ما يشاء، ويذر
منها ما يشاء، ومن ثم نسبت أصحابه إلى الغلو فيه، واقتضى له ذلك العجب بنفسه،
حتي زها على أبناء جنسه، واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء
وكبيرهم، قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء، فبلغ الشيخ
إبراهيم الرقي، فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق علي: أخطأ
في سبعة عشر شيئًا (كذا) ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها
زوجها أطول الأجلين.
وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى إنه سب الغزالي فقام
عليه قوم كادوا يقتلونه، ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه
بكلام قوي، فهمَّ بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ.
واتفق أن الشيخ نصرًا المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس
الجاشنكير فيه، فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي [٣] لأنه كان يعتقد فيه أنه
مستقيم، وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه،
فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتابًا طويلاً نسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة
الإلحاد [٤] فعظم ذلك عليهم وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد
مغيرة وقعت منه في قواعده وفتاويه، فذكر أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر
درجتين وقال: كنزولي هذا [٥] فنسب إلى التجسيم. ورده على من توسل بالنبي
صلى الله عليه وسلم واستغاث، فأُشخص من دمشق في رمضان سنة ٦٩٨ فجرى
عليه ما جرى وحبس مرارًا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك
يشتغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصرًا قام على الشيخ كريم الدين الأيلى شيخ
خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه، وعلى شمس الدين الجزري فأخرجه من
تدريس الشريفية، فيقال إن الأيلي دخل الخلوة بمصر أربعين يومًا، فلم يخرج حتى
زالت دولة بيبرس، وخمل ذكر نصر، وأطلق ابن تيمية إلى الشام.
وافترق الناس فيه شيعًا [٦] فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة
الحموية والواسطية وغيرها، من ذلك قوله في اليد والقدم والساق والوجه: صفات
حقيقية لله، وأنه مستوٍ على العرش بذاته، فقيل: يلزم من ذلك التحيز والانقسام،
فقال: إنا لا نسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام، فألزم بأنه يقول بتحيز
في ذات الله تعالى.
ومنهم من نسبه إلى الزندقة لقوله: النبي صلى الله عليه وسلم لا يُستغاث به،
وأن في ذلك تنقيصًا ومنعًا من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس
عليه في ذلك النور البكري، فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض
الحاضرين: يعزر، وقال البكري: لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصًا يقتل،
وإن لم يكن تنقيصًا لم يعزر.
ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله: إنه كان مخذولاً
حيثما توجه، وأنه حاول الخلافة مرارًا ولم ينلها، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة،
ولقوله: إنه كان يحب الرياسة، وأن عثمان كان يحب المال، ولقوله في أبي بكر
أسلم شيخًا لا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيًّا والصبي لا يصح إسلامه على قول،
وبكلامه في قصة خطبته بنت أبي جهل وما بها من الثناء، وقصة أبي العاص بن
الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه
وسلم: (لا يبغضك إلا منافق) .
ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى؛ فإنه كان يلهج بذكر ابن
تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكدًا لطول سجنه، وكان له وقائع شهيرة وكان إذا
حوقق وألزم يقول: لم أرد هذا؛ وإنما أردت كذا، فيذكر احتمالاً بعيدًا.
(قال) وكان من أذكياء العالم، وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن
بكر السكاكيني عمل أبياتًا على لسان ذمي في إنكار القدر أولها:
أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأعظم حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يَرضَه مني فما وجه حيلتي
فوقف عليها ابن تيمية، فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل
أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتًا أولها.
سؤالك يا هذا سؤال تعنت ... يخاصم رب العرش باري البرية
وكان يقول: أنا ما قرأت في الأقفاص.
وقال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفتح العمري في ترجمة ابن تيمية: حدا بي
(يعيش المزي) على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين، فألفيته ممن أدرك
من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل
رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه
وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من
درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه
مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويروون من بحر
علمه العذب المنير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه
من أهل بلده داء الحسد، وألَّب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد،
فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه
خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع
طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق ناظر منها
وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها على زعم بوائق، فآضت إلى الطائفة
الأولى من منازعيه، واستغاثت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء
أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألَّبوا الرويبضة [٧] للسعي
بهاتين للأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنُقل وأُوْدِع
السجن ساعة حضوره واعتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشروا لذلك قومًا من
عمار الزوايا وسكان المدارس، ما بين مجامل في المنازعة، ومخاتل في المخادعة،
ومجاهر بالتكفير مبادر بالمقاطعة، ليسوموه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن
صدورهم وما يعلنون، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل وقد دب إليه
عقارب مكره، فردَّ الله كيده في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على
أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم يزل ينتقل طول عمره من محنة إلى
محنة، إلى أن فوَّض أمره إلى بعض القضاة، فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل
بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله تُرجع الأمور،
وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهودًا ضاقت
بجنازته الطريق، وأتى لها المسلمون من كل فجٍ عميق، يتقربون بمشهده يوم يقوم
الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد.
قال الذهبي مترجمًا في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل
وهو دون البلوغ، وبرع في العلوم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين،
وصنَّف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وتصانيفه نحو
أربعة آلاف كراسة وأكثر.
وقال في موضع آخر: وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن
المذاهب الأربعة فليس له نظير.
وفي موضع آخر: وله باع طويل في معرفة أقوال السلف، وقل أن يذكر مسألة
إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنَّف فيها
واحتج بالكتاب والسنة.
ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض
مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده من حفظه بحيث يعجز أن
يعمل بعضه أكبر من يكون، وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين.
وقال في موضع آخر: بصير بطريق السلف، واحتج له بأدلة وأمور لم
يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها غيره، حتى قام عليه خلق من العلماء
المصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق إذا أداه
إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقعات
مصرية وشامية، ورموه عن قوس واحدة، ثم نجَّاه الله تعالى، وكان دائم الابتهال،
كثير الاستغاثة، قوي التوكل، رابط الجأش، له أوراد وأذكار يديمها يومية وجُمعية.
وكتب الذهبي إلى السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه،
ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبر قدره،
وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية، وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه
في كل فن، ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في
نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع والديانة،
ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض في هذا سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه
بذلك المأخذ الأوفى، وغرابة مثله الزمان بل من أزمان.
وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي في بيت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء
الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين
شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق، السالك بمن اتبعه
أحسن الطريق، ذي الفضائل المتكاثرة، والحجج القاهرة، التي أقرت الأمم كافة
أن هممها عن حصرها قاصرة، متعنا الله تعالى بعلومه الفاخرة، ونفعنا به في الدنيا
والآخرة، وهو الشيخ الإمام العالم الرباني، والحبر البحر القطب النوراني، إمام
الأئمة، بركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد
علماء الدين، شيخ الإسلام، فخر الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتكلمين، قامع
المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن،
أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، تقي الدين، إمام المسلمين، حجة الله على
العالمين، اللاحق بالصالحين، والمشبه بالماضين، مفتي الفرق، ناصر الحق،
علامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون
البديعة، أبو العباس ابن تيمية.
وقرأت بخط الشيخ برهان الدين محدِّث حلب، قال: اجتمعت بالشيخ شهاب
الدين الأذرعي سنة ٧٩ لما أردت الرحلة إلى دمشق، فكتب لي كتبًا إلى الباسوقي
والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إذ ذاك، فحصل لي بذلك
منهم تعظيم، وذكر لي في ذلك المجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية وأثنى عليه وذكر
لي شيئًا من كراماته، وذكر أنه حضر جنازته، وأن الناس خرجوا من الجامع من
كل باب، وخرجت من باب البريد، فوقعت سرموذتي فلم أستطع أن أستعيدها،
وصرت أمشي على صدور الناس، ثم لما فرغنا ورجعت لقيت السرموذة، وذلك
من بركة الشيخ رحمة الله تعالى انتهى.
(يقول أبو محمد شفيع صاحب المنار) هذا ما قال الحافظان الذهبي وابن
حجر وما نقلاه من ثناء الحفاظ والمؤرخين المنصفين في شيخ الإسلام أحمد تقي
الدين بن تيمية، وما نقلاه من تقولات حُساده وخصومه من المشايخ المقلدين
الجامدين، وما حققه بعضهم من أسبابها، ومنه يعلم كنه كذب السيد محسن العاملي
الرافضي وتعصبه وجهله؛ فإنه أوهم قراء كتابه الملفق أن الحافظين الذهبي وابن
حجر كانا يطعنان في عقيدته، وأنه لم يوجد في المسلمين من زكاه إلا تلاميذه، ثم
الشيخ محمد عبد الوهاب ثم صاحب المنار، وحسبنا هذا في بيان كذبه وافترائه
عليه وعلى العلماء وعلى الوهابية عن عمد وعلى جهل، وما زال غلاة الشيعة
أكذب الفرق وأبعدها عن طلب الحق في خلافها لغيرها كما قال أحد علماء الألمان
المستشرقين.
وأما طعنه علينا فإننا نفوض إلى الله تعالى أمر جزائه عليه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (الحج: ٣٨) .
(تمت الرسالة الأولى)