للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أداء الأمير شكيب لفريضة الحج
كان قلب الأمير شكيب يحن إلى أداء فريضة الحج منذ سنين، كما هو شأن
كل مسلم، وإن كان أمثال الأمير شكيب في تربيتهم المدنية والسياسية والاجتماعية،
صار يقل فيهم من يحج كما يقل من يصلي ويصوم إذا لم تقرن تلك النشأة
العصرية بمعارف دينية صحيحة راسخة كالطود لا تؤثر فيها أمواج الشبهات، ولا
تنال منها عواصف الشهوات، ولكن شكيبًا تلقى عقيدته من الأستاذ الإمام، وغذاها
بالعلم الصحيح والعمل، وقد كان لكبراء الرجال السياسيين من موانع الحج في
السنين الخالية ما ليس لغيرهم.
عزم شكيب على الحج في موسم السنة الماضية (١٣٤٧) وكان يحب أن
يسافر من أوربة قبل موعد الحج، فيعرِّج على مصر فيقيم فيها مدة مع صديقه
الحميم صاحب المنار بداره التي يُعِدُّها بحق داره، وكتب إلي بذلك، وأنه لقي في
برلين معالي وزير خارجية مصر الدكتور حافظ بك عفيفي، وكان بينهما صداقة
سابقة فكاشفه بعزمه، فتبرع الوزير بوعده بأن يمهد سبيل الإذن الرسمي له بزيارة
مصر في طريقه لعلمه بأنه كان ممنوعًا من دخولها بعد الحرب الكبرى، ومن
المعلوم بالبداهة أن المرجع الرسمي في هذا الأمر لوزارة الخارجية؛ ولكن الوزير
نفسه رأى أن الإذن له يحتاج إلى تمهيد وسعي! ! .
ثم أزمع الأمير السفر وخرج من داره في لوزان قاصدًا البحر عن طريق
إيطاليا، وطفق يراسل وزير الخارجية، ثم يراسل بعض أصدقائه في مصر،
سائلاً هل تأذن له الحكومة المصرية بالإلمام بمصر، ولو بميناءي بورسعيد
والسويس لينتقل من الباخرة التي يسافر فيها إلى باخرة من البواخر التي تنقل
الحجاج؟ وكانت هذه الرسائل برقية، فعلمنا بعد البحث أنه لا يزال ممنوعًا من ذلك،
وبعد بذل السعي من بعض المهتمين بالأمر لدى صاحب الدولة رئيس الوزارة، اقتنع
بأن اللائق بحكومة مصر بصفتها الإسلامية الرسمية أن لا تمنع أحدًا من الإلمام ببعض
ثغورها بقصد السفر إلى الحج من غير إقامة تزيد على مدة الانتقال من باخرة إلى
أخرى، فأصدر أمره بالإذن في آخر وقت أدرك به الأمير آخر باخرة تحمل الحجاج
في آخر وقت يمكن إدراك الحج فيه، وقد علمنا أن الأمير بذل في أجور البرقيات
أكثر من ثلاثين جنيهًا، وأنه لو كان يعلم هذا لفضَّل أن يسافر في باخرة إيطالية إلى
مصوع أو عدن ثم يسافر منها إلى جدة.
في أثناء هذه المساعي وتبادل البرقيات شاع بين الناس أن الأمير شكيبًا مسافر
إلى الحجاز، وأنه سينزل من الباخرة التي تقله من أوروبا في بورسعيد، وينتقل
منها إلى السويس، فعزم كثير من أصدقائه، وممن يحبون الحظوة بمعرفته،
لشهرته الشريفة في عالم العلم والأدب والسياسة، والجهاد الإسلامي والوطني -
على السفر إلى بورسعيد للقائه فيها، وطفقوا يتحدثون بتأليف الوفود لذلك في مصر
وفلسطين وسورية، ونُشر ذلك في الجرائد، ولكن بعضها ذكر خبر منعه من
الإلمام بالثغور المصرية، فلم يعلم بموعد وصوله إلى بورسعيد إلا بعض أصدقائه
في مصر، فسافر بعضهم إليها في ذلك اليوم، وبعضهم قبله بيوم، وقد نزلت مع
بعض السابقين في زورق بخاري، فاستقبلنا باخرته في البحر عقب وقوفها وإذن
طبيب المحجر بمخالطة ركابها للناس، وسبقنا ابن عمه الأمير أمين فصعد إلى
الباخرة مع الطبيب الرسمي، ولما تلاقينا لم أملك دمع السرور من حيث جرى،
ولا تسل هناك عما قد جرى، ووصل في ذلك اليوم إلى بورسعيد الأستاذ المربي
المصلح والزعيم الوطني الشهير الشيخ محمد كامل قصاب من حيفا لأجل استقباله،
وأخبرنا أن وفد حيفا ووفد القدس قد انفض جمعهما إذ نشرت جريدة الجامعة العربية
برقية من مصر بعدم الإذن له وهو إنما جاء للاحتمال، وقد جاءت الأمير برقيات
كثيرة، وعاد بعض المستقبلين له إلى القاهرة، وبات بعضهم في بورسعيد بعد
إلحاحه على الجميع بالعودة إلى أعمالهم، إلا كاتب هذه السطور، فقد قال له: أنت
تبقى معنا من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر.
وقد سافرنا في اليوم الثاني إلى السويس فوجدنا بعض المستقبلين في
الإسماعيلية من طريقنا، وبعضهم في محطة السويس نفسها، وممن جاءها
بالسيارات الخاصة أحمد زكي باشا وعبد الحميد بك سعيد، وقد بلغ الأمير في
المحطة أمر الحكومة المصرية إياه بالانتقال منها إلى باخرة الحجاج الأخيرة التي
تبحر في ذلك اليوم ٢٩ ذي القعدة إلى جدة، وأنها أمرت شركة بواخر البوستة
الخديوية التابعة لها بتخصيص مخدع له (قُمْرَة) في الدرجة الأولى منها، وكان
يريد السفر في باخرة البريد في ٢ ذي الحجة، فركب الأمير ومن كان ثم من
المستقبلين المودعين السيارات إلى الباخرة توًّا، وذهبت أنا السوق فأخذت له منه
ثياب الإحرام؛ لأنني علمت منه أنه لم يحمل من أوروبا شيئًا من ذلك.
الأمير شكيب أكبر رجال السياسة من زعماء الأمة العربية، وأشهر كتابها
الذائدين عن حوضها والمنافحين عن حقوقها، والعاملين لمصالحها، فالمجاهدون
المخلصون منهم يسرون بلقائه لمجدد مُلك العرب ومجد العرب، وقبلة آمال العرب،
الملك عبد العزيز آل سعود، وتناجيهما في المصالح العربية السياسية والمدنية،
ويرجون من ذلك خيرًا كثيرًا
وللأمير شكيب مكانة إسلامية سامية عند طلاب الإصلاح الديني المدني الذي
يقتضيه هذا العصر من عرب المسلمين، وشعوب عجمهم الكثيرة، ولا سيما الترك
والهنود لما له من خدمة الدولة العثمانية عندما كانت تمثل الزعامة الإسلامية، ثم ما
جاهد به ملاحدة الترك بعد جهرهم بنبذ الإسلام ومعاداتهم بالقول والفعل، ولما له
من الدفاع عن الإسلام والمسلمين في مواقع أخرى كثيرة قد كان آخر ما نشر منها
مقالة الممتع الذي رآه القراء في جزء المنار الماضي، ومن الدلائل على مكانته
الإسلامية إجماع أعضاء المؤتمر الإسلامي العام من جميع الشعوب بمكة المكرمة
في موسم سنة ١٣٤٤ على اختياره لأمانة السر العامة (السكرتارية للمؤتمر الدائم)
ولم أكن أنا أشد تقريرًا وعناية بهذا الاختيار من الوفود الهندية، ولا سيما الزعيمين
محمد علي وشوكت علي، المناوئين لملك الحجاز ونجد لعدم اتباعه لهواهما، فأهل
الرأي من مسلمي الأقطار المختلفة يسرون برحلة الأمير شكيب إلى الحجاز لأداء
فريضة الحج، ولقائه للإمام المجدد للإسلام، في رحاب تلك المشاعر العظام؛ لأن
شخوص زعماء المسلمين السياسيين وعلمائهم العصريين إلى الحجاز مفيد بما فيه من
القدوة والأسوة الحسنة لأمثالهم المقصرين في أداء هذه الفريضة، ومفيد بما يرجى من
ورائه من التعاون على المصالح الإسلامية، ومن هذا الباب أنه لما شاع في السنة
الماضية أن الإمام يحيى حميد الدين سيحج في موسمها تناقلت هذا الخبر ألسنة
المسلمين وصحفهم وتلقته بالإكبار والإعظام لأمرين (أحدهما) أن ملوك المسلمين قد
تركوا أداء هذه الفريضة منذ قرون عديدة (وثانيهما) حرص مسلمي العالم كله على
اعتصام إمامي الجزيرة العربية وملكي الإسلام المستقلين بعروة التحالف والاتحاد
الوثقى، ورجاؤهم أن يكون تلاقيهما في بيت الله تعالى متممًا لما مهدا له السبيل من
ذلك بالوفود والمكاتبات والهدايا، ومن فضل الله على صاحب هذه المجلة أن كان هو
الساعي الأول إلى ذلك بالمكاتبات والوفود من قبل الحرب الكبرى ومن بعدها، ويليه
فيه صديقه الأمير شكيب.
ومن دلائل اهتمام أهل الرأي والخدمة العامة من مسلمي الشعوب المختلفة،
وعرب الملل المختلفة، بحج الأمير شكيب ورجائهم الخير فيه للملة وللأمة، أنه ساء
دعاة الإلحاد في المسلمين ودعاة الاستعمار في العرب، ولا سيما السوريين من
الفريقين، فنشروا في بعض الجرائد مقالات سخيفة طعنوا فيها على الأمير في دينه،
وفي سياسته، وفي غرضه من أداء الحج، وكان الذي تولى كبر هذه الأراجيف
ذلك القناف النفاج الحسود المدعي للزعامة السورية؛ ولكن بإمضاء ألصق الناس
بخدمته، ولم يصده عن ذلك اشتهاره هو بالدعوة إلى الإلحاد، ونبذ الدين، وتهتك
النساء وغير ذلك، ومما اتهمه به أنه يسعى بحجه إلى جعل الملك عبد العزيز إياه
سفيرًا له في أوروبا! ! وربما كان هذا الملك أشد احتقارًا لهذا التشفي الدنيء فإنه
صار من أعرف الناس بفضائل الرجل، ورذائل حاسده، وقد احتفى جلالته
بضيافته احتفاء يسعر نار الحسد في كبد الحسود.
استقبلت الحكومة السعودية ووجهاء الحجاز الأمير شكيب في جدة، ثم في
مكة أحسن استقبال، فقد خف إلى لقائه في الباخرة الحاكم الإداري (القائمقام) وغيره
من الموظفين والوجهاء، وفي مقدمتهم عين أعيان الحجاز الشيخ محمد نصيف، ثم
قابله جلالة الملك في جدة إذ كان فيها، وبعد أن تمشى مع جلالته سار معه في
سيارته الملكية إلى مكة المكرمة فكانت هذه أول فرصة واسعة للمذاكرة في المصالح
العامة، وقد كتب إليّ جلالته عن هذا التلاقي ما نصه:
(وقد أنسنا بلقاء صديقكم وصديقنا الأمير شكيب أرسلان، وهو كما وصفتم
إخلاصًا وعلمًا وأدبًا) ويعني جلالته بهذا الوصف ما كتبته إليه أخيرًا من أنني لم
أثن له على أحد وهو فوق ما أثنيت ووصفت من كل جهة إلا الأمير شكيب.
وقد علمت علم اليقين أن جلالته رغَّب إليه أن يبقى لديه في الحجاز دائمًا أو
ما شاء، وطابت له الإقامة ليقوم بما لا يستطيع غيره أن يقوم به من أعباء
الإصلاح في حكومته، فاعتذر أولاً بوجود أهل بيته في أوربة، قال: نحضرهم إلى
الطائف، فاعتذر بأنه لابد له من البقاء في أوربة لأجل القضية السورية، وبأنه
يخدم القضية العربية هنالك بما شاء جلالته إلا الوظائف الرسمية؛ فإن فكرة
المناصب الرسمية قد خرجت من فكره، فهو لا يقبل منصبًا لا في الحجاز ولا في
أوروبة كالسفارة في بعض العواصم.
بعد هذا زار الملك جدة فذكر في مجلسه الحافل ما نشر في المقطم من اتهام
الأمير شكيب بالسعي إلى نيل سفارة في أوربة - وهو ما أشرنا إليه في المقال -
فغضب الملك، وقال من هذا - يعني صاحب مقالة المقطم - وإيش يكون؟ ؟ ثم أثنى
على الأمير شكيب ثناءً عظيمًا؟ قال في سياقه: والله إن السفارة التي يريدها في
أوربة تكون له بشرط أن يرضى.
ومن أخبار الأمير في الحجاز التي تسر محبيه الذين لا يحصيهم إلا الله تعالى
أن هواء الطائف قد وافق مزاجه، فزال هنالك ما كان أصابه في أوربة من مرض
الصدر الذي كان فيما يظهر من أسباب ما أنكرته عليه من استطالته لعمره ونعيه
لنفسه، ويسرنا أن ما رأينا عند تلاقينا الأخير في وجهه من الإشراق والبهجة، وفي
حديثه من جرس الصوت وقوة اللهجة، وفي مشيته من النشاط وخفة الحركة، وفي
أكلته من زقم اللقم، وجودة المضغ في غير نهم - ليبشرنا بأنه مستعد لحياة طيبة
طويلة الأجل، إذا لم يجن عليها بالإفراط في الانكباب على العلم والعمل، وفقنا الله
وإياه للقصد والاعتدال، والتوفيق لما يحب تعالى ويرضى من الأقوال والأعمال.