للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عجاج نويهض


هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم؟

محاضرة ألقاها الأستاذ عجاج نويهض في مدرسة النجاح الوطنية بالقدس،
ونشرتها جريدة الجامعة العربية فيها وهي جديرة بأن يتدبرها كل مسلم، ولا
سيما المغرورين بالصحف المصرية الإلحادية ومقلديها في البلاد العربية، ولذلك
نشرناها برمتها مع تصحيح لفظي قليل فيها، قال نفع الله به:
جدير بنا، ونحن في دور انقلاب عظيم لم يشهد له فيما مضى من تاريخنا
مثيلاً، أن نقف ونتفكر قليلاً على نور العلم الصحيح، هل ما نراه اليوم من تبدل
في جميع أوضاعنا الاجتماعية والدينية، هو تبدل جارٍ على سنته الطبيعية،
ومشتق من الحاجة الحقيقية في نفوسنا، تحركه عوامل سليمة، وتدفع به نحو غاية
معينة، بحيث نستطيع أن نعرف ونحن وسط هذا الانقلاب ما كنا عليه البارحة وما
نحن عليه اليوم، وما سنصير إليه في الغد؟ أم أن هذا الانقلاب يرافقه طغيان من
على جوانبه، وتتخلله عناصر سقيمة، لا هي وليدة الحاجة بالذات، ولا هي مما
ترمي البصائر الصحيحة إليه؟
فإن أممًا كثيرة اجتازت مثل هذا الدور قبلنا، وبلت من أمر الانقلاب أمورًا
وافرة حتى استطاعت أن تعلم بالخبرة واليقين ما يتمشى مع مصلحتها ويتلاءم مع
غرضها، فحري بنا أن نأخذ العبرة من تاريخ تلك الأمم، وهذا يفرضه علينا العلم
على كل حال؛ لأن نهضة تناوحت رياحها في جميع الأجواء، واتسع مجالها حتى
شمل جميع مناحي الحياة، تدعونا إلى أن ننظر فيها نظرة سليمة حتى تمكن الدلالة
على الخير منها، فيؤخذ ويثابر عليه، وعلى الشر فينهى عنه ويتنكب الناس
طريقه.
والحالات السياسية التي قامت في فلسطين وسورية والعراق والجزيرة بعد
الحرب العامة، لا يجب أن تكون مانعًا يمنع توحيد المصلحة العامة في الأمور
الاجتماعية والدينية والثقافية لجميع الأمة العربية على محور واحد؛ لأن القوة التي
نراها اليوم تتبدد وتتلاشى في الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية، هي قوة عامة
مشتركة بين جميع الأمم الإسلامية، فبفقدانها يفقد المجموع قوته، ثم تفقد الفروع
قوتها لانقطاعها عن الأصول، ولانفرادها في العناصر الحيوية التي تستمد من
المجموع قوتها وسبب حياتها.
وهذا يعرف ويسلم به لأنه هو الأمر الواقع، فكل قوة من قوى الإسلام، إذا
عراها الضعف اليوم وتسلط عليها الانحلال، تصبح قوة الإسلام من حيث مجموعها
ضعيفة، ثم لابد بعد ذلك من أن ينزل الضعف بالأمة العربية نفسها، فتندم ولات
ساعة مندم.
ولعله من المفيد أن يشار ولو على وجه الإجمال والتقريب إلى مواطن الانفعال
في هذا الانقلاب فنقول فيه:
أولاً: الانقلاب في مصر، وما يكون له من الصدى والأثر في نفوس الأقوام
العربية شرقي مصر وغربيها في الدرجة الأولى، وفي سائر الأمم الإسلامية
القاصية والدانية في الدرجة الثانية، ووسائل الكتابة والنشر والمواصلات، كل ذلك
مما يسهل بلوغ ذلك الصدى والأثر إلى أقصى حد، فيظهر في القاهرة رأي شاذ
مثلاً يحمل صبغة الخروج على سنة من سنن الإسلام، أو على عقيدة من عقائده،
أو على وضع من أوضاعه، أو على ثقافته العامة، أو على تاريخه - فلا يلبث ذلك
الرأي أن ينتشر في الآفاق، ويقبل عليه جمهور المقلدة من النشء المتعلم، وينتحله
على وجه التباهي به، ثم يأخذ بعرضه على الناس من قبيل حب الظهور، حتى
إنكم تجدون فريقًا من المنتمين إلى الدين؛ ولكنهم على جمود مطلق يصطفون مع
فريق المقلدين من المتعلمين ويغترفون من ذلك الرأي المطير من القاهرة، بإحدى
الجرائد اليومية، أو بمجلة أسبوعية أو شهرية، أو بكتاب يحمل سمة جديدة وكلمة
تدل على ما يفيد أنه قد كُتب بروح (العلم) فالمنزلة التي تتبوءها مصر اليوم في
هذا الانقلاب بمطابعها وجرائدها ومجلاتها منزلة عظيمة قوية سواء كانت للشر أو
للخير [١] .
ثانيًا: في كل بقعة إقليمية موضعية، كفلسطين لوحدها، وسورية لوحدها،
والعراق لوحده، جو انقلابي مستمدة قوته من الروح الموضعية بطبيعة الحال،
ومن التأثير الذي يأتي من مصر، وهذه النزعة الموضعية إذا نظر فيها على حدة
في كل بلد من البلاد المذكورة، وجد أنها تمثل حالة في الانقلاب الاجتماعي
والديني والثقافي على نسق (ملوك الطوائف) ولأن حركة النشر والطباعة في هذه
الأقطار الثلاثة من سورية وفلسطين والعراق، ليست متوفرة كتوفرها في مصر؛
ولأن البيئة الموضعية ليست زاخرة بالعمران الاجتماعي كما في مصر، فلذلك لا
ترى عناصر التقليد عاملة بنشاط كما في مصر من الجهة المحسوسة؛ ولكنك تجد
في النفوس استعدادًا ليس بالقليل للسير على منهج التقليد، ويتجلى هذا بأحاديث
المجالس وتبادل الرأي والمشاورة، والأبحاث التي تسقط عليك مصادفة ومن غير
قصد.
ثالثًا: هناك جو عام يوحي بالجديد في كل شيء، وهذا الجو ينتشر تارة من
أنقرة ومن فيها، وطورًا من كابل، وأخرى من طهران، وأخرى من الينابيع
الأجنبية الواردة في أكياس البريد التي تحملها البواخر الأجنبية وتفرغها في المرافئ
كل يوم أو كل اسبوع، ومن المدارس الأجنبية المشيدة في نقاط معينة في البلاد.
الخوف على الإسلام والرجاء فيه:
من الضروري أن يُشار إلى نوع القضية التي يُراد علاجها، وهذه القضية
هي أن الإسلام بقواه الاجتماعية والدينية في مأزق حرج، وهناك قوى آخذة بدفعه
من على جرف هارٍ إلى الهوة السحيقة، وهناك قوة أصلية أولية آخذة بتمكينه في
الأرض من جهة، وبِرَدِّ العادية عنه من جهة أخرى، وهذه العادية كان ينظر إليها
حتى زمن قريب أنها آتية من الخارج، ولكن ظهر إلى اليوم أنها نشأت في الداخل
أيضًا، وأصبح الجسم عليه أن يقاوم ما به من ميكروب يسري فيه داخلاً، وأن
يطرد عنه ما ينزل به من شر خارجي، وإذا أُريد تحديد الزمن الذي عُرف فيه أن
للإسلام أعداء منه في الداخل، فيمكن أن يُقال إن فكرة الإسلام ظلت قوة مجموعة
تعمل لحفظ ذاتها وتقوية وجودها، إلى أول الحرب العامة، أو بتعبير آخر إلى
انهيار السلطنة العثمانية.
ففي أقل من عشرين سنة ظهرت أفكار وآراء من المسلمين الخارجين على
الإسلام، هي من التطرف وحب الهدم والانتقاض والتخريب، بحيث تمثل من هذه
الروح أضعاف ما ظهر من هذا النوع من التطرف في الثورات الأوروبية التي
جاوزت الحد تطرفًا وغلوًّا، كالثورة الفرنسية مثلاً، حتى أن البلشفية نفسها أخذت
أخيرًا تتلمس طريق الاعتدال شيئًا فشيئًا، فالمسلم الخارج على الإسلام وتاريخه
وثقافته ولغته، ترى في نزعته الغلو أكثر مما ترى في عشرة أو عشرين أو مائة من
الذين أظهروا الغلو في (دور الرعب) من الثورة الإفرنسية، أو في هذا الدور
البلشفي الحاضر.
وإذا أُريد حصر القضية في أضيق الحدود، أمكن أن يقال (هل يستمر
ضعف الإسلام الحالي أو تنقلب حاله إلى القوة الصحيحة؟)
وإذا أريد حصر أسباب التأثير وعناصره في أقل الكلام، أمكن أن يكون ذلك
على هذا الوجه:
١- مطبوعات مصر على اختلاف أنواعها ودرجاتها.
٢- المطبوعات الأجنبية التي ترد من أوربة بطرق شتى، وهذا النوع من
المطبوعات (وإن كان يرد بلغات أجنبية ويطالعه فريق قليل من أبناء هذه البلدان)
تأثيره واسع المدى لإقبال النشء على الكتب الأجنبية والنظر فيها والنقل والاقتباس
منها، زد على هذا أن هذا الفريق يجري على طريقة التلقيح الفكري أي أنه متى
قرأ شيئًا في كتاب أجنبي أو اطلع على رأي غريب، ولا سيما متى كان لتلك المادة
علاقة بالشعوب الإسلامية، أو بالإسلام، أو بالتاريخ الإسلامي، وبالانقلاب الحالي -
سارع إلى نشرها في الجمهور، تحت ستار العلم والمعرفة.
٣- (روتر) و (هافاس) وما أدراك ما روتر وهافاس؟ هما الوسيلتان
اللتان تجبران القارئ أن يتلو بلهفة وتعطش نبأ سباق الكلاب في بلاد الإنكليز،
ونبأ الفرقة التي فازت في لعبة الغولف، ونبأ خروج القطار عن الخط الحديدي في
أقصى شمال أوربة، من حيث تحرمان القارئ أن يطلع على كل شيء فيه إظهار
الحقيقة من ظهور حركات صالحة في الإسلام وقيام جماعات أو أفراد أو زعماء
بنهضة قومية أو وطنية على وجهها الصحيح، وإذا نخلت جميع الأنباء التي
يطيرها روتر وهافاس من الشرق إلى الغرب، وجدت أن الكثرة المطلقة من تلك
الأنباء قلبت رأسًا على عقب، أو شُوهت أو صُرفت عن معناها الحقيقي، أو أُلبست
لباسًا غير لباسها.
٤- المدارس الأجنبية، وخبر هذه المدارس والقائمين بأمورها والعاضدين لها
خبر طويل معلوم عند الجميع، وسيأتي شيء من الكلام على هذا.
النقد العصري وتأثيره في العالم:
ومن الضرورة بمكان من الوجهة العلمية الصرفة أن نُلم بحقيقة كبيرة منتشرة
في أرجاء العالم بعد الحرب العامة، وهي أن النقد بجميع ضروبه ومختلف أنواعه،
هو على الأكثر نقد هادم ناقض، لا نقد إنشائي بنائي، ويُراد بكلمة (نقد) جميع
ما يخرج من الآراء في المطبوعات المتنوعة، وما يجاهر به جماهير الكتاب
السياسيين وغير السياسيين، مما يدل على السخط والنقمة والتبرم، ومما يبعث في
جو العالم روح الانتقاض وطلب التبديل والتغيير، ومما ينفث في شرايين الفكر
الإنساني حب التطور على وجه السرعة والانفلات من الماضي.
إن هذا النوع من النقد الهادم الناقض على هذا الوجه، قد تفشى في أكثر
مناحي الحياة الاجتماعية والأدبية بعد الحرب فضلاً عن السياسة، حتى إن الأمم
التي هي أعرق أمم الأرض في التقاليد الموروثة ورعاية السنن القديمة في أصول
حياتها، قد هبت عليها عواصف كثيرة من هذا النوع، واجتاحت من قواها
الاجتماعية ما ليس بالقليل.
والسبب الأول في حصول هذه الظاهرة الكبيرة من النقد الهادم بعد الحرب
العامة، هو أن الحرب الكونية قد أورثت نفسية الأمم شيئًا كثيرًا من الكرب
والضعف، وخرجت نفسية الفرد من الحرب وهي على نصيب وافر من التمرد
والعصيان على النظم القديمة التي كانت منذ زمن بعيد ولم تزل هي الأصول التي
تتغذى منها الأمم في حياتها الاجتماعية، ولم يقصر أمر التأثر بهذه الروح الهادمة
على الأمم التي اشتركت في الحرب واكتوت بجمرة مصائبها، بل شملت تلك الروح
أغلب العالم على الإطلاق، ولكن على تفاوت بين أمة وأخرى.
وليس من الصعب أن يلمس الإنسان روح هذا النقد الهادم في كثير مما
تخرجه المطابع في الشرق والغرب، ومما ينشره كثير من المنتظمين في سلك
رجال الفكر والرأي في العالم، والأمم من حيث حب تقليد ضعيفها لقويها في مناحي
الحياة: تجري على سنة اجتماعية كما وصفها ابن خلدون وأسهب في الكلام عليها.
وليس من الصعب أن تدرك السبب الحقيقي فيما ظهر إلى اليوم، وفيما قد
يظهر في مصر من آراء التطرف الهادمة، وضروب النقد الناقضة لأصول القديم
برمته، والداعية على وجه الغلو الشديد إلى قلب النظام الاجتماعي في مصر والعالم
العربي المجاور، على أن الفرق الجوهري بين ما ظهر في جو مصر من هذا
النوع من النقد الملبس لباس العلم على غير سداد وحكمة، وبين النقد الذي في
أوربة، هو أن النقد المصري يجب أن يعتبر فيه شيئان وهما:
(أولاً) أن هذا النقد ولا سيما الذي ظهر ثورة وانتقاضًا على تراث المدنية
الإسلامية بوجه الوضوح والصراحة، هو نقد تقليدي في مصر، ونشاط العاملين
على هذا النقد هو نشاط تقليدي للنقد الشائع في العالم عامة، فكما ظهر في البلدان
التي ليست هي في المرتبة الأولى من المدنية والحضارة جماعات دعت إلى الهدم
بدعوى فناء القديم ووجوب مماشاة الجديد، فكذلك ظهرت في مصر دعوات مثل
تلك وعلى غرارها، أضف إلى هذا أن جمهرة المتعلمين من المصريين يحملون
نزعة الثقافة الفرنسية موسومة بذلك الميسم الخاص، ومن المعلوم أن الأمة
الفرنسية تختلف عن غيرها اختلافات جوهرية لا محل لذكرها الآن.
(ثانيًا) أن الجماعات الداعية إلى الهدم والنقض في البلدان الأوربية وغيرها
هي على الأكثر منغمسة في درس ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بمعنى أن الجديد
الذي يطلبونه، والنظم التي يريدون نقضها وإحلال غيرها محلها، كل ذلك يقولون
فيه إنه مكسب لهم القوة والملاءمة العصرية لحياتهم هذه؛ لأن نظمهم التي يثورون
عليها قد بلي أكثرها، أو بليت كلها بحيث أن الحياة اليوم لابد لها من خلع القديم
وارتداء الجديد، وهم في ذلك على تفاوت ودرجات.
وأما النقد الذي ظهر في مصر إلى اليوم انتقاضًا على الموروث من الثقافة
العربية الإسلامية أدبًا وتاريخًا واجتماعًا، فهو انتقاض مُذهِب للقوة في مجموع
الأمة المصرية نفسها، والأمم التي تقلدها في العالم العربي الإسلامي؛ حتى إن
الغالين من الناقدين المصريين يدعون إلى الثورة فورًا على النظم الاجتماعية وعلى
قتل الثقافة الموروثة، فهم بهذا عاملون على إفناء القوة التي في الأمة المصرية
وفي الأمم الأخرى دون أن يكون من الممكن إيجاد قوة أخرى تحل محل القوة
المنتقض عليها، وهذا النوع من الانتقاض تنافيه مصالح هذه الأمم في حياتها
الاجتماعية والثقافية، ثم إن العلم نفسه لم يظهر إلى اليوم أنه معوان لأولئك الناقدين
فيما يدعون إليه ويعملون له.
بعد هذا ينبغي لنا أن نسأل في وسط هذا الانقلاب، هل هو واصل إلى
الروح الدينية فيُحْدِث فيها إيهامًا أو جروحًا وثغرات في مواضع، ويصادمها
مصادمة عنيفة في مواضع أخرى، جريًا مع التيار الانقلابي الحادث في أوربة؟
من الواجب أن نتدبر بغاية العناية حقيقة الانقلاب الروحي في أوربة وأمريكا،
وأن نعرف مسيره، ونستشف من ذلك مصيره، بما يظهر في التيارات الحالية
من نزعات واتجاهات ظاهرة فيها الأدلة والبراهين، وأما المسارعة إلى الإكبار
والإعظام لكل نزعة ينشرها مقلد تارة تحت لباس العلم، وأخرى لحب الشهرة
والظهور، وأخرى انسياقًا بعامل حب الهدم والتخريب، فهذا ليس من شأنه أن
يجعل الانقلاب الحالي في هذه البلاد والبلاد المجاورة يسير سير صحة وسلامة إلى
مستقر الخير والنجح، والحكمة تحتم علينا أن نزداد عبرة وتبصرة بالحال، فكما
أن المريض الذي يتثاقل عن الأخذ بأسباب علاجه يُسبِّب لدائه تمكينًا، فكذلك
السكوت والصمت والتهاون والجبن في هذه الأيام إزاء الأضرار التي تدس في
نواحي النهضة الحالية موجب لاستشراء الداء، وسيحل بكثير من الأقوام الندم،
ولات ساعة مندم.
ونظرة عامة تُلقى على الحالة الانقلابية الروحية اليوم في أوربة وأمريكا -
على شريطة أن تُلقى هذه النظرة على ضوء العلم ومصباح الحقيقة بعيدة من
المكابرة، وبريئة من العاطفة الكاذبة - تكون معوانًا كبيرًا لنا في أن نتفهم الحقيقة
كما هي، فيسهل علينا بعدئذ القياس ووضع الشيء في محله.
العالم النصراني وتأثير الحرب فيه:
إن تقسيم العالم المسيحي اليوم إلى كاثوليكي أو لاتيني، وبروتستانتي،
وأرثوذكسي، ليس تقسيمًا مسلحًا بحدود منيعة تمنع انسياب العوامل الجديدة من قسم
إلى آخر، بحيث ترى النزعات الجديدة في المسيحية تهب في بلد ثم تنتشر في
كثير من أصقاع العالم المسيحي دون تهيب الحدود الكاثوليكية أو البروتستانتية أو
الأرثوذكسية.
لما فتقت ريح الحرب العامة، وهاجت في أوربة روح الدفاع الوطني،
وجدت الكنيسة نفسها أمام تيار جارف يدعو إلى الحرب والقتال، وهي تدعو إلى
السلم والوئام؛ ولكن سرعان ما طأطأت الكنيسة رأسها إلى نفير الحرب فتحولت
منابرها عن الدعوة إلى عبادة الله، إلى دعوة التجند والدفاع عن الحدود الإقليمية
للوطن.
ولما ألقت الحرب بكلكلها، وصارت الألوف والملايين تجندل في الأراضي
الأوربية، صارت الكنيسة ترافق الجيش، وتذكي فيه القوة الروحية، فأصبح
الجندي يقاتل وأكثر إيمانه أنه يقاتل في سبيل غاية قدسية هو مجاهد فيها، وعدوه
كافر مبطل؛ ولكن على كل حال ما لبثت الكنيسة أن وجدت أن القوة الروحية في
الجيش واهية متزلزلة إلى حد بعيد، فقامت (الكنائس الحرة) في بلاد الإنكليز
بامتحان واسع النطاق في الجيش، لتعلم مقدار ما في نفوس الجنود من إيمان
وعقيدة، فكانت النتيجة أن تلك القوة ضعيفة، وأن ضعفها كان قد بدأ من قبل
الحرب العامة. ثم قامت الكنيسة سنة ١٩١٦ بتأليف لجان كنسية سمتها (لجان
التوبة والأمل) لتمتحن القوة الروحية في الشعب أيضًا، فكانت النتيجة فيه مثلها
في الجيش، وقد أصدرت الكنائس كتابًا في نتائج عملها هذا ضمنته تفاصيل ما
قامت به من العمل والامتحان.
ثم لما وضعت الحرب أوزارها، وصار الناس يتوقون إلى أن يعودوا إلى
حالة الاستقرار الروحي والنفسي، رأوا أنهم طلبوا الزيادة فوقعوا في النقص، فإذا
بظواهر الضعف الروحي تتفشى في أوربة وأمريكا، ولم يكن الأمر مقصورًا عند
هذا الحد، بمعنى أن هذا الضعف الروحي كان عارضًا لم يُحْدِث أثرًا سيئًا في العالم،
بل رافقه ما هو أكثر هولاً، وهو أن ظواهر الضعف الروحي رافقتها ولم تزل
ترافقها حالات الضعف الخلقي مرافقة قوية الفعل والعمل، كأن ظواهر الضعف
الروحي إذا وجدت وصارت تعمل في المجتمع عملها المطلق بلا قيد، لا بد أن
تكون ظواهر الضعف الخلقي والأدبي متفرعة عنها أو مبنية عليها بناء النتيجة على
المقدمات، وقد ذكرت الكنائس الحرة في بلاد الإنكليز أن من أكبر الأسباب في هذه
الظواهر بنوعيها - الضعف الخلقي والضعف الروحي - هي أولاً: الهجرة من
الأقاليم إلى المدن، فتحمل هذه الهجرة أربابها على الانغماس في ملذات ما ألفوها
من قبل، فيعكفون عليها ويغترفون منها ما شاءت شهواتهم، واحتملت أجسامهم،
وأطاقت أبدانهم، أضف إلى هذا ما هنالك من ضائقات اقتصادية يضيق الخلق منها،
ولا سيما أهل الطبقات الوسطى والعاملة، وضيق الخلق يدفع أصحابه إلى ما هو
شر من ضيق الخلق. ثانيًا: كثرة الملاهي وتنوعها وانتشارها على وجه كثير من
الإغراء والاستمالة بحيث لا يحتاج الناس إلى كثير من ضبط النفس عند مقاومتها،
فيقبلون عليها وتكون صارفة لهم عن رعاية الحرمات والأخذ بحالة الاقتصاد. ثالثًا:
ما سمته الكنائس الحرة (روح العصر) وهو جميع ما في هذا الدور من أسباب
ووسائل وحالات تسهِّل حصول ظواهر الضعف الروحي والخلقي في الشعوب
الأوربية.
في سنة ١٩٢٦ وضعت جريدة الناشن (Nation The) وجريدة الديلي
نيوز (News Daily) أربعة عشر سؤالاً بمعرفة أربعة من فحول العلماء
الإنكليز، منهم برنارد شو الذائغ الصيت، ونشرت الجريدتان هذه الأسئلة طالبة
من القراء الإجابة عليها، فأجاب عن أسئلة الناشن ١٨٤٩ قارئًا، وعن أسئلة
الديلي نيوز ١٤٠٤٣ قارئًا، ثم استُخرجت النسبة المئوية من الأجوبة فكانت
النتيجة تدل على أن الاعتقاد بالمسيحية اعتقادًا خاليًا من الإلحاد، والاعتقاد بألوهية
المسيح، لم يزل قائمًا في نفوس الكثرة من الأمة الإنكليزية، وقد كانت هذه الكثرة
سبعين بالمائة، وقال الذين تولوا هذا العمل: إنه لو وُجهت هذه الأسئلة منذ خمسين
سنة أو عشرين سنة على الأقل لكانت الكثرة مطلقة لا تقل عن تسعين بالمائة،
وقالوا أيضًا: إنه مع بقاء الكثرة من الأمة على العقيدة في الدين، فإن الضعف
الروحي ملحوظ جدًّا، وهو يزداد ذيوعًا وانتشارًا، ولما كانت هذه الأسئلة التي
وُجهت إلى الأمة الإنكليزية بلسان جريدتين من أهم الجرائد الإنكليزية، وكان الذين
أجابوا عليها ليسوا من سواد القوم، بل هم من صفوة الأمة الذين يقام لهم وزن،
كان من المفيد أن نعلم هذه الأسئلة بالضبط لندرك منها حقيقة من أكبر الحقائق
الساطعة، وهي أن الضعف الروحي في أوربة دليل على المرض والعلة، لا على
الصحة والسلامة، وأن الأمم التي ظهر فيها هذا الضعف بعد الحرب أخذ القلق
يساورها، والمشكلات الخانقة تزداد استفحالاً فيها، ومن ذكر بعض المذاهب
الناشطة للعمل اليوم في أوربة وأمريكا تزداد هذ الحقيقة وضوحًا.
... (الأسئلة) ... ... ... ... ... ... (الأجوبة)
... ... ... ... ... ... ... الناشن ... ... الدايلي نيوز
... ... ... ... ... ... نعم لا فراغ ... نعم لا فراغ
١- هل تعتقد بإله مجسد؟ ... ... ... ٤٠ ٥٥ ٤ ... ٧١ ٢٦ ٢
٢- هل تعتقد بقوة مجردة غير مجسمة
لها تصدر غاية، ولها استطاعة الخلق
والإبداع بحيث إن المخلوقات المشهودة هي من آثارها؟
وهل تعتقد أن الحياة كناية عن قوة
نشوئية؟ ... ... ... ... ... ... ٣٧ ٤٨ ١٣ ... ٣٣ ٤٦ ٢٠
٣- هل تعتقد أن المادة هي أساس
الحقيقة؟ ... ... ... ... ... ... ٢٧ ٥٧ ١٥ ... ٢١ ٥٩ ١٨
٤- هل تعتقد بخلود النفس؟ ... ... ٤٣ ٤٧ ٨ ... ٧٢ ٢٢ ٥
٥- هل تعتقد أن المسيح ذو ألوهية
بمعنى أنه لا يمكن أن يقال إن جميع
النس هم ذوو ألوهية كألوهيته؟ ... ... ٣٥ ٦١ ٣ ... ٦٨ ٢٩ ٢
٦- هل تعتقد بشكل ما من أشكال
الكنيسة؟ ... ... ... ... ... ٥١ ٤٣ ٥ ... ٧٥ ٢٠ ٤
٧- هل تعتقد بمذهب الرسل أي
تلاميذ المسيح؟ ... ... ... ... ٢١ ٧١ ٧ ... ٥٣ ٣٦ ١٠
٨- هل تعتقد بالمذهب الذي ترسمه
الكنيسة؟ ... ... ... ... ... ٢٤ ٦٨ ٧ ... ٥٢ ٣٧ ١٠
٩- هل أنت عضو عامل في إحدى
الكنائس؟ ... ... ... ... ... ٤٣ ٥٥ ١ ... ٦٢ ٤٣ ٢
١٠- هل تذهب إلى الكنيسة ذهابًا
مداومًا من تلقاء نفسك؟ ... ... ... ٤٣ ٥٥ ١ ... ٧١ ٢٧ ١
١١- هل تعتقد أن الإصحاح الأول
من سفر التكوين تاريخي؟ ... ... ٦ ... ٩١ ٢ ... ٣٨ ٥٣ ٨
١٢- هل تعتقد أن التوراة موحى بها
بمعنى أنه لا يمكن أن يقال أن كتب
الأدب إن كتب الأدب في بلادك
موحى بها كالتوراة؟ ... ... ... ٢٩ ٦٨ ٣ ... ٦٣ ٣٣ ٣
١٣- هل تعتقد باستحالة العشاء
الرباني إلى لحم ودم كأنه من
جسد المسيح؟ ... ... ... ... ٤ ... ٩٣ ٢ ... ١٠ ٨٦ ٣
١٤- هل تعتقد أن الطبيعة لا تبالي
بما عندنا من معالي الأفكار والمثل
العليا؟ ... ... ... ... ... ٥٨ ٢٣ ٤٨ ... ٤ ٣٥ ٢٣
فظهر من هذه الأسئلة والأجوبة على معدل النسبة المئوية أن عدد المعتقدين
بالمسيحية إجمالاً هم أكثر من الذين على مذهب خاص من مذاهبها، على حد قول
من قال: إن المتدين لا يتمذهب.
المذاهب الدينية الحديثة والقديمة في الغرب:
والآن لابد لنا من أن ننظر إلى التيارات الكبيرة، والمذاهب الكبيرة العاملة
في الانقلاب الديني في أوربة وأمريكا، ونعلم على وجه الحقيقة والضبط ما بيد كل
مذهب من تلك المذاهب من قواعد وأسس، وما يرمي إليه من غاية وقصد، كل
ذلك مضافًا إلى المسيحية قربًا وبعدًا، وهذه التيارات والمذاهب كما يلي:
أولاً: العصريون Modernists
ثانيًا: الأصوليون Fundamentalists
ثالثًا: الروحانيون Spiritualists
رابعًا: أهل العلم المسيحي Christian
خامسًا: الكاثوليكية البابوية Scientists
١- (العصريون)
هم فريق كثير العدد والانتشار، والذين ينتحلون عقائده يزدادون على التوالي،
وهذا المذهب كان قبل الحرب العامة؛ ولكن بعد الحرب تجددت قواه كثيرًا وهو
أكثر انتشارًا في الولايات المتحدة الأمريكية وبلاد الإنكليز، والقواعد الجوهرية في
هذا المذهب هي:
أ - أن الحياة تزداد قيمتها من حيث هي حياة ذات جهاز حي، ويجب أن
تكون قيمة الدين ظاهرة من الوجهة العملية المحسوسة لا من وجهة العقيدة فقط.
ب - أن قيمة الحية الدنيا إنما هي من أجل الحياة الدنيا نفسها غير معلقة على
أمل الحياة الأخرى.
ج - إن العقل من الوجهة الدينية كان مقيدًا فيما مضى، أما اليوم فيجب أن
يكون مطلقًا حرًّا عاملاً في نطاق الشخصية الإنسانية.
وأصحاب هذا المذهب يتخذون الوسائل الآتية لنشر مذهبهم وإعزاز قواعده
في الناس:
أ - نشر البر والإحسان في جميع الطبقات إيماء إلى أن الدين هو في العمل لا
في القول.
ب - عضد الكنيسة في تحريم المسكرات.
ج - الوساطة في حل المشكلات العامة التي تمنى بها الطبقات العاملة مثلاً.
د - الاستيلاء على الطبقات العاملة بطريق الاشتراك معها في تمريضها وحل
مشكلاتها.
هـ - الاستعانة بالوعظ الكنسي العام لنشر هذه المبادئ والتبشير بها.
٢- الأصوليون
أصحاب هذا المذهب هم في الولايات المتحدة أكثر منهم في بلاد الإنكليز،
وهذه الحالة هي عكس حالة العصريين الذين هم في بلاد الإنكليز أكثر منهم في
الولايات المتحدة، وأهل هذا المذهب يختلفون عن العصريين اختلافًا بينًا، لا بل
يمكن أن يقال: إن الفريقين على حدين متقابلين بعيد ما بينهما، وهذا يتضح بإيراد ما
عندهم من قواعد وأسس وهي:
أ - قبول التوراة بحوادثها التاريخية كما وردت فيها.
ب - أخذ التوراة بمعانيها الظاهرة بلا تأويل.
ج - رفض الآراء المناقضة للتوراة كرأي النشوء والارتقاء.
د - الرجوع إلى عقيدة الأسلاف أهل القرن السابع عشر الذين هاجروا من
إنكلترا إلى أمريكا أيام الضغط الديني.
ويظهر من إمعان النظر في القواعد التي عليها أهل هذا المذهب أنهم أصحاب
رجعة إلى العقائد المسيحية دون أن يقبلوا تسلط أي قوة من القوى العلمية الحادثة على
تفسير ما ورد في التوراة من أنباء وأخبار، وهم يعضِّدون مذهبهم هذا بشيء من
الرأي الفلسفي اكتسب قوة بعد الحرب، فهم يقولون: إن استناد الإنسان إلى العقائد
الثابتة في وسط كثرت فيه المصائب وعمت البلايا، هو أهنأ للنفس والروح، وأنشط
للقلب والعزيمة، وأطرد للجزع والخوف، فالرجل يجد في اعتصامه بالعقيدة الثابتة
ذلك النوع من الطمأنينة العذبة والاستراحة المنعشة، وأما إذا استولت على المسيحي
الشكوك والريب في مثل هذه السنوات بعد الحرب والشدة والأزمة ما هما، فيزداد قلبه
اضطرابًا ونفسه هلوعًا، فيحل به التلاشي والانحلال؛ ولذلك هم يقولون بأنه خير
للمسيحي أن يُحمل على اعتناق العقيدة آخذًا بها صبرة واحدة، فإذا أخضع هذه العقيدة
لقوى التفسير والتأويل بما يناقضها أحيانًا، ويضعفها أخرى يزداد أمره بلوى وحيرة.
والوسائل التي بيد أهل هذا المذهب كادوا يكونون فيها منفردين، وإلى نوعها
سابقين، إذ هم فيها يشبهون أصحاب الأحزاب السياسية التي تود الاستيلاء على
الحكم والسلطان من طريق تكثير السواد والحصول على كثرة نيابية، كذلك يفعل
هؤلاء الأصوليون فهم يسعون إلى تكثيف سوادهم، وتكوين كثرة نيابية في الولايات
التي كثرت فيها جموعهم، ثم هم بعد ذلك يريدون استنان الشرائع والقوانين الرسمية
المؤيدة لمذهبهم، والمقاومة لمخالفيهم، وهم الذين قاموا منذ سنتين تقريبًا بمحاولة منع
تدريس رأي النشوء والارتقاء في إحدى الولايات الأمريكية.
٣- الروحانيون
كان علم الروح في أول هذا القرن ضئيل الشأن جدًّا، حتى إن الجمهرة من
علماء النفس ما كانوا يحفلون به ولا يقيمون له كبير وزن، ففي سنة ١٩٠٤ نشرت
طائفة من الصحف الكبرى أسئلة طلبت فيها من الجمهور أن يبدي رأيه فيما كان
وقتئذ لعلم الروح من مباحث سيارة وآراء منتشرة، فكانت الأسئلة دالة على أن
الجمهور لا يعبأ كثيرًا بذلك العلم وما إليه، ثم إن سير هذا العلم بعد مفتتح القرن
العشرين كان ضعيفًا بطيئًا حتى جاءت الحرب العامة فورًا، ووقع تأثير ما جرَّته
من المصائب والبلايا موقعًا عميقًا في نفوس الأمم الأوربية، فذُهل الناس، واشتدت
الحيرة وساد القلق، وكانت الألوف وعشرات الألوف تنقلب من على ظهر الأرض
إلى جوفها ما بين عشية وضحاها، فوقعت النفس البشرية في ضنك ما روى له
التاريخ مثلاً، وقد كان من طبيعة الحال أن صار الناس يتساءلون ما الموت؟
وكيف يحدث؟ وما حقيقته؟ وهل تلك الألوف المؤلفة من الرجال ماتت حقيقة ميتة
لا رجوع بعدها؟
هذه صفة الحال في وسط الحرب سنة ١٩١٦ فإذا بالسير أوليفر لودج شيخ
علماء الروح في هذا العصر، وهو عالم كبير في ضروب العلوم الكونية على
الإطلاق يباغت أوربة بكتابه الذي أخرجه تلك السنة موسومًا بـ (ريموند) وفي
ها الكتاب جال صاحبه في عالم الروح والمخاطبات الروحية جولة كبيرة لم يظهر
مثلها من غيره بعد، وهو كان له ابن تجند في الجيش وقُتل، وذكر السر أوليفر
لودج في كتابه أن روح ابنه خاطبته بواسطة الوسيطة مسز ليونارد.
ثم تجدد لعلم الروح شأنه الكبير، ولم يزل يعلو وينتشر كما نرى إلى هذه
الساعة، والأحوال التي يذكر الأصوليون أنها هي السبب لجعل الإنسان يستند إلى
العقيدة الثابتة، هي الأحوال المفعمة بالضنك والضيق، التي ساعدت علم الروح في
انتشاره الحديث، لما صادف هذا العلم في النفوس المضطربة القلقة على إخوانها
المفقودة، من ارتياح إلى تعليلاته في إمكان مخاطبة الأرواح الغائبة.
هذا ما يقال على الإجمال في نشأة هذا العلم ومسيره، أما مؤتمر الأساقفة سنة
١٩٢٠ فقد أعلن الحرب على هذا العلم بلسان أساقفة كنتربوري، بدعوى أنه
ضلال شديد؛ لأنه يُخْضِع العقل والإرادة لقوة مجهولة.
٤- أهل العلم المسيحي
العلم المسيحي - وهو مذهب يبدو اسمه غريبًا لأول وهلة - هو طريقة حديثة
في المسيحية قائمة على أساس مشترك بين التصوف وتعاطي العلاج النفساني
والجسماني بوسيلة العقيدة فحسب، دون الالتجاء إلى شيء من العقاقير الطبية، أو
تشخيص الطب لماهية العلل والأمراض، وقد سُمي بالعلم المسيحي لأن من أساس
العقيدة فيه التوسل بمعرفة التوراة والإنجيل إلى الفناء في المسيح طلبًا للخير
والشفاء من العلة والاقتداء به في حياته.
إن الذي أسس هذا المذهب هو سيدة أمريكية اسمها مسز ماري بيكر كلوفر
أيدي Eddy Glover Baker Mary.Mrs
وُلدت في أمريكا سنة ١٨٢١، وتُوفيت سنة ١٩١٠، وفي سنة ١٨٤٣
تزوجت من الكولونيل كلوفر الذي توفي بعد سنة من زواجهما، وفي سنة ١٨٥٣
تزوجت من دانيال براترسون ودامت حياتهما الزوجية عشرين سنة، ثم طلقها سنة
١٨٧٣، وفي سنة ١٨٧٧ تزوجت لثالث مرة من الدكتور آسا جيلبرت أيدي وكان
هذا الرجل آخر رجل تزوجته ومات سنة ١٨٨٣، هذا ملخص حياتها الزوجية وقد
عاشت حياة طويلة، تسعين سنة.
وفي سنة ١٨٦٧ أظهرت للناس مذهبها، وهو الشفاء بواسطة العقيدة العقلية
بانية تعاليمها على التوراة، وعلى أساس أن جوهر طبيعة الإنسان هو جوهر
روحاني، وأن روح الله هي المحبة والخير، وأن الشر المعنوي والشر المحسوس
هما ضدان مقاومان لروح الله، ووجودهما في الإنسان دليل على أن نفسه خالية من
الروح الحقيقية التي كانت في المسيح.
وهي تقول أنه ليس هناك إلا عقل واحد وإله ومسيح واحد، وليس هناك ما
يعد حقيقة إلا العقل، وأن المادة والمرض هما عارض موهوم تمكن إزالته إزالة
تامة بقيام العقل قيامًا حسنًا بمعرفة الله والمسيح، ومن هنا غلبت تسمية هذا المذهب
بالعلم المسيحي، وفي سنة ١٨٧٦ بعد أن كان هذا المذهب قد عُرف أمره وشاع
ذكره، وعمت أصوله، وأقبل جمهور كبير من الناس عليه - أسست صاحبته
(جمعية العلم المسيحي) ودعت الناس إلى الدخول فيها، والسير على مبادئها،
وكانت المؤسِّسة قبل ذلك التاريخ بسنة واحدة قد وضعت كتابها الموسوم بـ (العلم
والصحة) وهو الكتاب الذي أصبح اليوم الإنجيل المرعي عند أهل هذا المذهب،
وطُبع عدة مرات، وقرأه كثير من الناس، وفيه فصَّلت مسز أيدي أصول المذهب
تفصيلاً كافيًا.
وانتشار هذا المذهب كان سريعًا جدًّا كما يدل عليه هذا الإحصاء التالي:
سنة ١٩١٠ كان لهذا المذهب ١٢٠٧ كنيسة منها ١٠٧١ في أمريكا، و٥٨
في بلاد الإنكليز.
سنة ١٩٢٠ كان لهذا المذهب ١٨٠٤ كنيسة منها ٤٥٩ في أمريكا و ٩٨ في
بلاد الإنكليز.
سنة ١٩٢٦ صار مجموع الكنائس في البلدين ٢١٥٠ كنيسة.
سنة ١٩١٤ ألقي ٥٠٠ خطاب على ٠٠٠,٠٠٠,١ من الناس.
سنة ١٩٢٦ ألقي ٣٤٢٣ خطابًا على ٨٨٩,٦٦٩,٢ من الناس.
ومما هو جدير بالنظر والمقارنة بين العلم المسيحي والمذهب الروحاني أن
العلم المسيحي نشط من أول الحرب في الوقت الذي عمت فيه البلوى الجمهور من
كثرة الموت في ساحات القتال، وكان نشاط هذا المذهب ولم يزل معاصرًا لنشاط
المذهب الروحاني وبينهما فرق بعيد، فالمذهب الروحاني يقول: إن الموت لا يذهب
بالروح إلى حيث لا تعود بل من الممكن أن تخاطب الروح عن طريق الوسيط،
فتجد النفس القلقة شيئًا من الارتياح إلى هذا. ويقول العلم المسيحي: إن هذا الموت
الذي تحارون فيه لا قيمة له وليس هو بحقيقة؛ وإنما هو عارض، فإذا اعتقدتم في
حياتكم أن المرض والألم وهمان يزولان بالاستمساك بالعقيدة الإنجيلية ومعرفة
المسيح، فالموت الذي تلاقونه بعدئذ لا تنالون منه ضرًّا، وليس هو بشيء تهلع
له قلوبكم.
وقد انتشر هذا المذهب انتشارًا كبيرًا في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والدانيمرك
وأسوج ونروج وأسبانيا والروسية وهولاندة واليونان، وسنتا ١٩٢٣-١٩٢٥
كانتا زمن الفوز الأكبر لهذا المذهب.
٥- الكاثوليكية البابوية
ذكرنا قبل الآن أن الكنيسة الأوروبية على الإجمال انقلبت عندما نادى منادي
الحرب سنة ١٩١٤ من منابر وعظ وإرشاد على منابر الدعوة إلى الكفاح والجهاد،
والمعني بالكنيسة الأوروبية على الأغلب في هذا القول، الكنيسة البروتستانتية
وغير البروتستانتية مما انكمش ضمن الدائرة الإقليمية، وخضع خضوعًا تامًّا
لفكرة لدفاع الوطني، وصار يبث روح الحرب في الجند بداعي أن القضية التي
جرت المدافع من أجلها واستلت السيوف من أغمادها، إنما هي قضية مقدسة من
جهة ذلك الوطن، وأما الكرسي البابوي فقد اتخذ نهجًا سلميًّا لسياسته إزاء الحرب
وويلاتها، وسارع البابا إلى إظهار الدعوة التي ينادي هو بها من زمن طويل،
وهي السلم المسيحي وتأييد الأخوة، ولم يتخذ الكرسي الرسولي فكرة الدفاع الإقليمي
عن الأوطان الأوروبية بمعنى استعمال السلطة الكنسية لتأييد القوة الروحية الحربية
في الجيوش الأوروبية.
ومذ انقلبت الأرض الأوربية إلى حفرة من النار وساحة من الدماء، أخذ البابا
ينادي السلم السلم، فلا يسمع له صوت، فينادي الصلح الصلح، فلا يفلح، فينادي
الرفق بالأسرى، حقن الدماء، إغاثة الملهوف، وما إلى هذا من تخفيف البلاء إذ
لا سبيل إلى إزالة البلاء.
حتى إن الدولة الإيطالية لم تستفد من الكرسي الرسولي في الحرب كما
استفادت إنكلترا من كنائسها، ولا كما استفادت كل البلاد المحاربة من السلطة
الكنيسية أو الروحية التي فيها.
فلما انجلت الحرب، إذا بالكرسي البابوي تنتشر هيبته، لا في أصقاع العالم
الكاثوليكي فقط، بل في البروتستانتي أيضًا، وإذا بتلك المبادئ السلمية التي كان
يدعو إليها البابا وقت الحرب تصبح من المثل العليا في أعين الأمم الأوروبية التي
صارت تتوق بملء نفسها وجوانحها إلى تحقيق الطمأنينة والعودة إلى السكينة، ثم
بعد الحرب أيضًا أعاد الكرسي الرسولي نظره فيما له من أوضاع وقصّاد،
ومُرسَلين في الداخل والخارج، فأفرغ على كل هذا جلبابًا جديدًا ماؤه النشاط وطلب
السعة والانتشار، فازدادت هيبته وعلا مقامه، وقاربت القواعد الأصلية في
الكاثوليكية ذلك الشوق المستكن في نفوس الأمم المسيحية المتألمة إلى الراحة
والسكون.
زد على هذا أن الرأي الفلسفي الذي يعتضد به الأصوليون أصحاب المذهب
الآنف الذكر، هو رأي يطابق بمعناه القاعدة الكبرى في الكاثوليكية، من الاعتصام
بالعقيدة، والأخذ بها على ما هي عليه، دون أن يسلط عليها عامل التفسير والتأويل
والتضييق والتوسعة، فاجتمع للكرسي الرسولي من كل هذا شيء جديد، هو القوة
المعنوية والأدبية، منتشرة في غالب أصقاع العالم المسيحي، والذي يدعو إلى
الدهش هو أن الكاثوليكية من حيث هي دين أصبحت عاملة مستميلة، آخذة بالدعوة
حتى إن كثيرًا من البروتستانت في بلاد الإنكليز يدخلون فيها، وعدد الداخلين في
الكاثوليكية يزداد سنة فسنة، يؤيد هذا إحصاء يركن إليه وهو أن في سنة ١٩١٤
كانت نسبة الداخلين في الكاثوليكية من البروتستانت في بلاد الإنكليز سنويًّا ٦٥١
نفسًا، وفي سنة ١٩١٧ كانت النسبة السنوية للداخلين في الكاثوليكية في بلاد الإنكليز
أيضًا ١١٠٦٤، وقد رأى الكرسي الرسولي ما حصل لمقامه من شأن حتى بلغ هذه
الذروة العالية، فتوسع في سد الحاجات التي في نفوس الأمم الأوروبية، ولا سيما
الكاثوليكية، فأخذ يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي ومكافحة التطرف الضار في
الاجتماعية، وقد مر القول أن الضعف الروحاني الذي بدأ في العالم بعد الحرب العامة
رافقته ظاهرة الضعف الخلقي الأدبي، حتى أصبحت مملكة الآداب الخلقية منذرة
بأخطار هائلة، وقد هتك سياجها في مواضع عديدة.
وكل ما نسمعه في هذه الأيام من ظهور جهود في إيطالية ترمي إلى الأخذ
بدرجة الاعتدال في الحرية الاجتماعية، والاستقرار على الصحيح من العادات
الاجتماعية، كمحاربة الأزياء الفاحشة وما أشبه، كل ذلك إن لم يكن من الكرسي
البابوي مباشرة فهو صادر بوحي منه وتدبير.
وأكبر السبب الذي حدا بالدولة الإيطالية إلى عقد المعاهدة الرومانية مع
الكرسي البابوي هو أنها رأت ما للبابوية من ذلك المقام الرفيع في العالم، فتاقت
نفس موسوليني إلى أن يعتضد بتلك القوة إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يجعل له
من توسله بذلك الكنف الحصين طريقًا إلى الفائدة والمنفعة في إيطالية وخارجها.
بعد كل هذا البيان، المعزز بالأرقام الإحصائية والأدلة الواقعية، يتبين لنا
أجلى تبيان أن العالم الغربي على الجملة مصاب بمحنة الأزمة الروحية، ونزلت به
جائحة عامة هي ضعف القوة الروحانية، للأسباب التي سردناها، وبعضها كان قبل
الحرب فجاءت الحرب وزادته فعلاً وعملاً، وبعضها الآخر ولَّدته الحرب وأورثته
الأمم جميعًا، وتبين لنا أيضًا أن هناك في أوروبا وأميركا نزعات متنوعة،
ومذاهب عديدة، كلها يسارع إلى العمل على النحو الذي تمكن به مؤاساة النفس
الأوروبية الجريحة، ورد الطمأنينة إليها بحيث تذهب عنها حالات القلق
والاضطراب، وغالب تلك النزعات والمذاهب نشأ من الروح المسيحية ليواسي
النفس المسيحية بالوسيلة المسيحية، وإذا استثني علم الروح لكونه لا يحمل شارة
المسيحية الخاصة، فهو من جهة أخرى يطلب الاتصال بالروح ولا ينادي بأن
المادة هي كل شيء في العالم.
وإذا كانت جميع هذه الحركات الرامية إلى الإصلاح في حالات النفس
والروح والدين تنشأ في الأقطار الأوروبية والأميركية، فمعنى ذلك أن القائمين بتلك
الجهود وأصحاب تلك المذاهب هم يعتقدون أن مداواة النفوس بطريقة الدين أنجع ما
يمكن عمله، وهم لم يطرقوا في جهودهم هذه أبواب رجال السياسة، ولا الملوك
والأمراء، ولا طلبوا من حزب سياسي شيئًا، بل انقلبوا بمجموع ما في أيديهم من
قواعد وأصول ومبادئ إلى النفس المسيحية يداوونها ويعالجونها على النحو الذي
تقدم.
فهل الحركات التي طغت في بلادنا - ولها مريدون وعمال ووسائل وطرق
وأساليب - هي من حيث استقرارها على برهان علمي، ملائمة لنفسية هذه الأمم
التي تقطن مصر وسورية والعراق وفلسطين والجزيرة؟ أو هي تصادم ما في
نفسيات هذه الأمم من دين وعقيدة وإيمان؟ الجواب: إن تصادم ذلك لا يكون
عسيرًا، وحالتنا الحاضرة يجب أن يظهر فيها منطق اجتماعي يأمر بالمعروف فيما
هو مبقٍ لهذه الأمم في هذه البلدان قوتها الروحية وكيان ثقافتها وتاريخها ولغتها.
إفساد المدارس الأجنبية في البلاد العربية:
شر القوى المسلطة على النفسية العامة في هذه البلدان هي المدارس الأجنبية
بمختلف علاماتها وأنواع جمعياتها التي تنتمي إليها، ولا فرق بين التبشيري منها
وغير التبشيري، والسواد الأعظم منها هو تبشيري على كل حال.
هذه المدارس هي مراكز مسلحة بأحدث آلات الإفساد، وعملها في الغارة على
الأمة ونشئها لا يقل بوجه عن الوجوه عن الغارة العسكرية الحربية، بل غارة
المدارس الأجنبية أقتل وأنفذ، وأستر عن العين، وأخبث وسيلة، وأكبر شرًّا، فإذا
كان ابن الثلاثين أو الأربعين فما فوق يؤدي للأجنبي الضريبة المالية الفاحشة،
والأعشار من نتاج الأرض، ويخنع للقوانين الجائرة (فهو) يفعل كل هذا ولكن
يبقى له دينه وتقاليده، وما ورثه من آبائه وأجداده من عز نفس، وكرامة، وشمم،
وإباء، وهو يرى هذا العصر قد طغت فيه الخبائث وغارت الفضيلة لشدة ما رميت
به البلاد من المهالك الأجنبية، السالبة لكل عزة وكرامة؛ ولكنه عندما يجول في
خاطره مظهر الشرق القومي الكامل، يصعد الزفرات من بين حنايا ضلوعها،
وينتفخ وجهه حسرة وألمًا، هذا ما يفعل اليوم ابن الثلاثين أو الأربعين.
أما الناشئ، والحدث، والشاب، الذي لم يشب عن الطوق بعد، أو شب عنه
بعد الحرب العامة، والذي يدخل المدارس الأجنبية، المجهزة بكل الوسائل
المدرسية للاستيلاء على عقول الطلاب، فهو عندما يدرك الثلاثين أو الأربعين، أو
هو من اليوم وهو لم يزل على مقعد التحصيل في المدارس، قد انقلب ليس إلى أن
يكون عاملاً مسخرًا للأجنبي يؤدي للمسيطر عليه الضريبة والعشر وما إلى ذلك فقط،
بل هو مسلوب الدين والعقيدة، فاقد الأنفة العربية الصحيحة، بريء من الثقافة
القومية، تاريخ العرب في نظره قطعة بالية، وتاريخ الإسلام في رأيه ساقط
مكذوب، والتقاليد القومية يراها ضحكًا وسخرية.
على مثل هذا النوع من النشء تعمل المدارس الأجنبية، وتعتني بتخريج
الطلاب من أبناء هذه الأمة، والمدارس التبشيرية الموزعة في البلاد مرتبط بعضها
ببعض ارتباطًا وثيقًا محكمًا، بحيث إنك ترى في غاياتها ومراميها ومجالات أعمالها
وجهودها مقصدًا واحدًا، وهدفًا واحدًا لا يتغير.
والمدارس التبشيرية لها من الأنظمة ورؤوس الأموال ما يحير العقول
والأفكار، وبعد الحرب العامة دخلت جهود هذه المدارس في دور لم يسبق له مثيل
في التنظيم وكثرة الوسائل والارتباط.
وصار أكثر ما تخرجه مطابع الجمعيات التبشيرية الكتب والنشرات والمقالات
في استصراخ العالم التبشيري للحملة على هذه الديار حملة صادقة، والمدارس
الأجنبية من هذه الوسائل، وهي في المقام الأول، فحرام أن يسلِّم الوالد ولده،
والأخ أخاه إلى المدرسة التبشيرية، لتأخذه عدة سنوات، فتتسلمه ولدًا صحيحًا
بعقيدته وثقافته ودينه، ثم بعد حين ترده إلى أهله وأمته وبلاده ولدًا مزيفًا ما كان
فيه قد أُخذ منه، وما أعطيه ففاسد لا جدوى منه ولا منفعة.
(للمحاضرة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))