للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


ماذا يقال عن الإسلام في أوربة
(٢)

نشرنا في الجزء الأول تحت هذا العنوان ما ترجمه لنا الأمير شكيب أرسلان
من كتاب (العالم الإسلامي في المستملكات الفرنسية) للضابط (جول سيكار)
وننشر هنا ترجمة الفصل الثاني منه وموضوعه للتلميذ النجيب صاحب الإمضاء
هذا نصها:
احتكاك الإسلام بالمسيحية
(١) هل تنصير المسلم ممكن؟ وهل هو مرغوب فيه؟
إن البراهين مهما تكن قوية جلية الدلالة على تفوق المسيحية تفوقًا كبيرًا فهي
ستلاقي أمامها حتى عند المسلمين الذين لا يستنكفون عن المناظرة (وعددهم قليل
جدًّا) هذا الجواب البسيط: (هذا مخالف لما جاء في القرآن، ومن المعلوم أن
الكتاب الكريم فوق كل مجادلة لأنه كلام الله ذاته) .
ومع ذلك نقول بأن تنصير المسلم باختياره ممكن خلافًا للرأي الغالب، وإن
كان أصعب بكثير من تنصير الوثني.
وإننا نجد لذلك أمثلة قاطعة في الماضي أثبتها التاريخ، وأنا لا أتردد في قبول
النظريات التي بنى عليها رونيه بازان (Bazin) مقدمته القيمة لكتابه (حياة الأب
فوكو) : إن الإنسان في جملته وعامة أمره يصعب عليه من طبيعته أن يعيش بدون
دين، أولسنا نرى في كثير من الأحيان تلك العقول التي تتبجح بأنها تحررت من
الاعتقاد وصارت تراه وهمًا باطلاً تسقط - طال الزمان أو قصر - في الشك
المطلق أو تُحبس في نوع من التصوف الضار كالبلشفيكية أو الشيوعية الثورية؟
فإذا افترضنا أن المسلم المترقي وصل يومًا ما إلى هذا الحد وصار لا يستمد من
إيمانه ما يرضي عقله وقلبه، فلماذا لا نعتقد أن تفوق المسيحية سيستغويه كما
استغوى كثيرًا من الشعوب، وينتهي بالميل إليها من نفسه، فيعتنق باختياره دينًا
كثير الفضل ساعد على المدنية إلى درجة عظيمة؟ ومن الوجهة الوطنية المحضة
أليس الأحسن ترك المسلم يتجه في هذا الطريق من أن نراه يسقط في أحضان
المذاهب السلبية أو الضارة [١] .
ولا محيد لنا عن الاعتراف بأن أكثر نصارى اليوم ليسوا نصارى إلا بالاسم،
هذا إذا لم يتظاهروا بالردة والكفر، فلهذا هم لا يؤثرون التأثير المطلوب لجلب
إخواننا المسلمين إلى المسيحية [٢] .
قال أحد أعيان وهران السيد محمد بن رحال: (إن الأضرار التي يحدثها عند
الأوروبي انحلال العائلة، وانحطاط الأخلاق، وشرب الخمور، ومزاولة الميسر،
والانهماك في الملذات، والفوضى، ومحبة المال محبة لا حد لها، والإباحية، إلى
أضرار أخرى - تجعلنا نتساءل: أي الفريقين أشد مرضًا؟ أو أيهما المريض؟
ولماذا لا يصير الإسلام ملجأ لأوروبا وطريقًا لنجاتها؟ وهل يمكن للأوروبي أن
يتحمل كالمسلم وهو ليس له ذلك السند القوي الذي لا يؤثر فيه شيء ألا وهو
(الإيمان) ؟ [٣] .
هذا وإن العقبة الكئود في سبيل تنصير المسلم هي العداوة والاحتقار الذي
يلاقيه المتنصر في وطنه فالمتنصرون المغمورون في أوساطهم يظلون عرضة
للتعصب المحيط بهم، وهم بلا شك يكونون مرغمين لسلامة أنفسهم على أن
ينزحوا عن بلادهم، هذا إذا لم يصل الضغط عليهم إلى حد إرجاعهم عن اعتقادهم
الجديد.
على كل حال يجب أن نترك لمبشرينا حرية تامة في أعمالهم، على أنها
يجب أن تكون مجردة عن كل ضغط وإرهاق؛ لأن ذلك ينافي روح المسيحية،
فإذن يجب ألا يجد المبشرون في أعمالهم سواء الخيرية أو التبشيرية عقبات من حقد
بعض موظفي الإدارة الملحدين أو المعادين للكنيسة فقط، الذين يغتنمون مثل هذه
الفرصة لإظهار عداوتهم للدين، وكذلك يجب ألا تجد الأعمال التبشيرية قيدًا من
حذر بعض الموظفين الجبناء أو القليلي الدراية الذين في خشيتهم انفجار التعصب
الإسلامي قد يستنتجون من هذه الحركة الاختيارية الروحية المحضة نتائج غير
مرضية لسلطتنا.
فالنتيجة التي يمكن أن تحصل هي ضد ما يعتقدون، نعم إن من قلة المعرفة
عدم الاعتراف بأن المسلم (إلا ما قل) يجد حتمًا في تعاليم علمائه حاجزًا لا حد له
في سبيل التقارب التام بين القلوب.
وإذا تنصر الأهلي [٤] كان تنصيره سببًا في جعله من أنصارنا نهائيًّا، هذا
بقطع النظر عن الواجب الذي يحتمه عليه وجدانه من احترام النظام والسلطة
الموجودة كما تقتضيه روح الإنجيل [٥] .
ولتعضيد هذه النظرية نقتبس من بحث كان نُشر في مجلة أفريقية الإفرنسية
(عدد ١٠ أكتوبر سنة ١٩٢٦) باسم كافيه (Cavê) قوله:
(لابد من بيان أن تنصير أبناء العرب في تونس وكذا في الجزائر ودخولهم
في الجيش الفرنسي، واتباع أبنائهم أيضًا هذه الطريقة يفتح طريقًا سهلاً للتفرنج،
ولو لم يتجنسوا بالجنسية الفرنسية، فكأننا نخلق نوعًا من المالطيين لا همَّ لهم إلا
أن يذوبوا فينا، ويجب أن نعترف بأن الاندماج الديني على الطريقة التي اتبعت فيه
ينتج عند الأهالي من كل وجهة نتائج تفوق الاندماج المدني الذي كان أُعلن (أي في
مجلس النواب) ولكن لم ينفذ بمرسوم للتجنيس، ومن جهة أخرى نرى أن النزاع
الديني يمكن أن يستحيل إلى عداء وسوء تفاهم حتى في أوروبا يضمحل، والنتيجة
الأخيرة أن تبديل الاعتقاد يتبعه تبديل العقلية كلها) .
وما أصدق هذا القول أيضًا: (لو أن مجهودات رجال مثل الكردينال لفيجري
لم تعترض لكنا نجد في شمال أفريقية بضعة ملايين من المدغمين فينا بدلاً مما هو
الواقع إلى اليوم من وجود بعض آلاف من الفرنسيين في وسط عشرة ملايين من
السكان الأهليين (أي المسلمين) وأخص بهذا الإدغام والاندماج البربر سكان بلاد
الأصليين أبناء القديس أغستينوس والقديس بولي من غير أن يشعروا، فكان يمكنهم
اليوم أن يتكاتفوا معنا تحت العلم الفرنسوي ضد أعمال التفرقة التي يسعى لها منذ
بضع سنين بعض دعاة وطنية مضطربة ذات لهجة معادية للأجنبي) .
فحينئذ أصرح بدون تردد أنه يجب على رجالنا السياسيين، وكذا على الرجال
المكلفين بحكم الأهالي (أي المسلمين) أن يعضدوا حركة التبشير بطريق مباشر أو
غير مباشر على أن تكون مجردة عن كل ضغط، نعم يجب تعضيدها عوضًا عن
خنقها، ويجب أن ينظروا في ذلك بعين المصلحة الوطنية وانتشار السلطة
الفرنسوية، فهاك نتيجة تستحق البحث بكل إمعان من طرف الذين يقبضون على
زمام حكمنا والذين لا غاية لهم إلا عظمة فرنسا.
(٢) موقفنا في المسألة السياسية الدينية
إنني أريد بهذا العنوان بيان الموقف الذي أقترحه في هذا الطريق الوعر بما
لدي من التجارب الشخصية، محررًا فكري من كل حكم سابق، ومن كل احترام
إنساني، ومن كل ما تملق نحو الأفكار التي كانت معتبرة منذ زمان قليل، ولا
يهمني إلا شيء واحد هو المصلحة الفرنسوية:
إذا احترمت الدين والعادات والتقاليد، وتسامحت في بعض الأفكار الباطلة
عند المسلم، وإذا لم تتكلم عن النبي إلا باحترام تكون قد أحسنت الأدب، وتكون قد
أحسنت السياسة.
ومن آيات التسامح التي يمكن أن تظهرها لإخواننا المسلمين ما يجب علينا
اتقاؤه من جرح عواطفهم، مثال ذلك أنك إذا كنت معهم في شهر رمضان فليس من
الذوق أن تدخن وخصوصًا إذا كنت في مكان مغلق؛ لأنه يكفي استنشاق رائحة
الدخان لإبطال الصيام [٦] ، وكذلك يجب ألا تأكل لحم الخنزير بمحضرهم في أي
وقت كان، وهم يعترفون لك بجميلك هذا؛ ولكن لا تبالغ.
ليس من الأوفق أن تشجع الإسلام، ولا أن تحاربه، فتشجيعك إياه علامة
ضعف يؤسف لها كثيرًا، ومحاربتك له قد توقظ التعصب، وفي هذا المعنى قال
كاتب فأجاد في قوله: (إن الإسلام في أصله قوة معاكسة لرغائبنا وأمانينا وميولنا،
وتلك القوة يمكن أن تخمد وتسكن، ولكن لا يمكن أن تقهر أبدًا، ومن الواضح أن
من مصلحتنا أن نُعْمِل جهدنا في عدم انتشاره عند الشعوب التي تحت سلطتنا،
وهذه السياسة التي أبانت التجربة حكمتها لم تكن متبعة دائمًا) .
وقال الجنرال بريمون (Bremond) المعروف باختباره للعالم الإسلامي:
مما لا شك فيه ولا ريب أن الإسلام لا يمكن أن يكون مواليًا لمن هو غير مسلم،
إذن فليس معقولاً أن نجعل أنفسنا في مقام حماته، فإذا احترمناه وإذا أعطيناه جميع
الحريات الممكنة كان ذلك من جنس السياسة؛ ولكن من الخطأ الكبير أن ننشر
الإسلام بين قبائل البربر، وأن نجبرهم على اللغة العربية والشريعة الإسلامية،
وأن تكون معاملتنا للمسلمين أحسن من معاملتنا لغيرهم: إن للعربية مزاياها وجمالها؛
ولكنها كثيرة التعقيد فلا تصلح أن تكون أداة بسيطة واضحة سهلة التعليم للحياة
العصرية [٧] .
إنه لمن خطل الرأي أن تكون نية بعض الكتاب والرجال السياسيين الحسنة قد
فاتت خبرتهم، ذلك بأنهم كثيرًا ما يُظهرون أمام المسلمين أنهم يعتقدون تفوق
الإسلام، فالمتعصبون من المسلمين أو أولئك الذين لا يزالون يعتقدون علوية دينهم
منهم - وأعني الأغلبية الساحقة - يغتنمون ما في مدحنا من مبالغة ويظنونه احترامًا
منا للحقيقة دُفعنا إليه بإرادة الله الذي يدفع الإنسان لإظهار خضوعه بارزًا ماثلاً أمام
ما يعتقدون هم أنه الدين الحقيقي.
إن خيلاء المسلمين الذي لا حد له ينبغي ألا يشجع على أن عقليتهم قابلة
للتطور، وإذا كان المسلمون - حتى أحرار الفكر منهم أو من يزعمون ذلك - لا
يقبلون أن يمس اعتقادهم المحترم ككل اعتقاد مخلص؛ فإن المسلمين المتنورين [٨]
يزيد عددهم يومًا فيومًا، والتعصب يضحمل أمام مصلحة حسن فهمها، وبعض
الآيات القرآنية التي تعارض روح العصر معارضة عنيفة أو تُعارض العقل فقط [٩]
تسقط بسهولة وسيزيد سقوطها كما دلت على ذلك السوابق.
ويجب أن نعترف بأن روح التسامح مع الديانات المخالفة كثيرًا ما تقع من
المسلم أو يتظاهر بها على الأقل.
فإذا كان احترام عقلية محكومينا الخاصة هو محور سياستنا، فذلك لا يقتضي
المبالغة فيها أكثر مما يجب في الخضوع إلى المبدأ لأننا إذا فعلنا سنؤخر إلى ما لا
نهاية كل إصلاح، وكل تقدم في كل مرفق من مرافق الحياة خوفًا من جرح
عواطف المسلمين، وذلك لأن عندهم أوهامًا لا تتفق والتقدم.
إياك وأن تخوض في أمر الدين مع المسلمين، فالرجل ذو التربية الحسنة
سيترك لك الكلام ويتحاشى جرح عاطفتك، وفي كثير من الأحيان يكتفي بابتسامة
ويخرج بالحديث عن موضوعه، وأما إذا كان الكلام مع رجل بسيط أو متعصب
فستتعرض لجواب قاسٍ منه.
إنك إذا تكلمت عن الإسلام لتمدحه أو لتذمه فإنك في الحالة الأولى تستفيد
الظنة والشك في إخلاصك، وفي الحالة الثانية تلقي في القلوب حقدًا كبيرًا، وكذلك
مدح المادية أو الإلحاد أو ذم الديانة المسيحية ضلال محض، وكثيرًا ما يقف بعض
الأشخاص هذا الموقف، فهم يريدون إظهار اختيارهم للإسلام؛ ولكن في الحقيقة هم
إنما يستسلمون لدافع فيهم إلى إظهار عدائهم للدين المسيحي أولأي حركة لرجال
الكنيسة.
المسلم تشمئز نفسه من عدم الدين، وإذا كان من المتنورين؛ فإنه يرى أن
محاربة الأوربي لعقيدته وهدمه بهذا العمل للركن الأصيل في مدنيته الخاصة غير
معقول.
وعند كلام فيو Veuillot عن أولئك السياسيين الذين يجتهدون في إخفاء
البقية الباقية لنا من الدين بحجة عدم إيقاظ التعصب الإسلامي قد اتهمهم بأنهم
يرتكبون أعظم خطيئة وسوس لهم بها الشيطان، فلا شيء يكرهه التعصب
الإسلامي كشعب بلا اعتقاد ولا إله [١٠]
وبهذه المناسبة نقول بأنه لا بأس بتبديد بعض الأوهام وبعض الجهالات
المتمكنة من الأهالي (أي المسلمين) فمثلاً نجد كثيرًا منهم لا يزالون يعتقدون أنه
ليس من عقائد المسيحية خلود الروح وإثبات الحياة الأخرى، ويتخيلون أيضًا بأن
الصور والتماثيل التي تزين الكنائس يعبدها المسيحيون عبادة وثنية، مع أنهم إنما
يحترمونها كرمز لإيمانهم أو لمحبتهم، كما يحترم العلم الوطني رمز الوطن وكما
يقبل الإنسان صورة شخص عزيز عليه [١١] .
(٣) عقيدة التثليث
إن لعقيدة التثليث في قلوب المسلمين عداوة شديدة جديرة بالاهتمام بما لها من
النتائج المهمة في التفريق بيننا وبينهم، والفكرة التي يتصورونها من هذا الاعتقاد
تضرنا كثيرًا حتى عند من يتجملون منهم بإظهار حرية الفكر، مع أن التثليث كما
يقول علماء الكلام عندنا ليس إلا مظهرًا من مظاهر الوحدة الإلهية خضع أمامها
أكثر العقول تكبرًا ودعوى، وهذا علامة على ما يسمونه بساطة التفكير
(وبالألمانية Keit.Eiseitig Die) في الشعوب السامية.
فهم لا يفهمون أو على الأقل أغلبيتهم بأن كلمات (أب) (ابن) لا تطلقها
المسيحية بكيفية مادية ولكن روحية محضة، ويجب أن نقف عند هذا الحد في كل
مناظرة في هذا الموضوع [١٢] .
قال مسلم صديق في كلامه - وقد كنت بينت له ما تقدم - إن هذا الإيضاح
كشف له سرًّا، وإن هذا الإيضاح يمكن أن يبدد ما يعتقده المسلمون ضد المسيحية،
وبذلك تضعف كراهتهم للأجانب.
(٤) (الاتفاق في مسألة الاعتقاد)
يعتقد المسلمون أن كل من لا يشاركهم في الاعتقاد سَيَخْلُدُ في العذاب، قال
بوتجان وأحمد ضيف في كتابهما المسمى (منصور) : والتقينا في الإسكندرية
بصبيان أوربيين، وهم في جمالهم كالملائكة، فقلت إن هؤلاء الصبيان سيكونون
خدمًا لنا في الجنة، وفكرت في الكفار الذين سيذهبون إلى جهنم، وكلما نضجت
جلودهم بدَّلهم الله جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب. إذًا فقد حان الوقت لنبين لهم إلى
أي حد بلغ تسامح المسيحية واتساع صدرها مع الديانات الأخرى.
ونحن نقتبس هنا كلامًا في القضاء والقدر ورد في نشرة البابا بيوس التاسع
بتاريخ ١٠ أغسطس سنة ١٨٦٣: إن أولئك الذين يتحملون جهالة مظلمة عن ديننا
المقدس يتبعون بكل خضوع القوانين الطبيعية التي وضعها الله في قلوب الجميع،
وهم مستعدون للخضوع لله واتباع حياة شريفة قويمة؛ لذلك يمكنهم أن يحصلوا
على الحياة الخالدة بواسطة النور الأبيض والرحمة الإلهية (التي يجهلونها لأن الله
الذي لا حد لرحمته لا يتحمل أن يخلِّد عبدًا في النار إذا لم يكن مسئولاً عن ذنب
اختياري) [١٣] .
وقد كتب أغريفوريوس السابع وهو أحد كبراء البابوات في القرون الوسطى
إلى أحد أمراء المسلمين. نحن أقرب الناس إليكم لأن الإله الذي تعبدونه نعبده نحن
أيضًا [١٤] .
إن الاحترام العميق الذي تكنه قلوب المسلمين لاسم الله يذكِّرنا بإيمان القديسين
المسيحيين القوي، وقد شاهدت ذلك وأثَّر في نفسي.
من جهتهم ليسوا كلهم متفقين على كراهتنا كراهة بالغة، فهم يعلمون أن الله
سيحكم يوم القيامة فيما فرق بين الناس في هذه الدنيا وخصوصًا الديانات المختلفة.
على أنه إذا كان هناك بيننا وبين المسلمين خلاف في الاعتقاد الأساسي فهناك
نقط نتفق عليها ويجب أن نتشبث بما يوحد لا بما يفرق.
قال الدكتور أنريكو أنسباطو الإيطالي: إن الشرقي في وقت مجده رجل على
الفطرة، فعدم الفهم يبعده ويملؤه حذرًا، وهو كثير الحذر مما لا يفهمه، والمسلم
الذي يتأمل في الأزل واللانهاية (الأبد) لا يمكنه أن يكون عدوًّا للمسيحي الذي
يعمل بمثل أعلى في العدل والحرية، وإنما يجب على أوربة المسيحية أن تنير
العالم الإسلامي، وأن تتعلم كيف تعطيه النور.
وإذا أبعدنا من الطرفين الآراء المتطرفة للمتعصبين أو المتشددين الذين لا
يقبلون أي تنازل، فيمكن القول بأن الاتفاق على محايدة دينية يمكن الوصول إليه
بسهولة نسبية.
ومن الواضح أن التعصب لا يخشى من جهتنا [١٥] ، إن التحامل الوراثي في
الأهليّ علينا لا يزال قويًّا، وإن كان هناك بعض الشواذ، وإذا كان الأهلي لم يصل
بعد إلى محبتنا (وأنا لا أستثني الأهلي الذي أسبغ عليه فضلنا وأخذ ثقافتنا ويتمتع
بمدنيتنا) فالسبب الأصلي في ذلك راجع إلى الشقة التي حفرها الإسلام بين أهله
وبين الخارجين عن عقيدته [١٦] .
قال رونيه بازان: هل الأهالي أقرب (أي المسلمون) منا الآن بفكرهم من
أول الاحتلال الجزائري، وهم صاروا يستعملون عن طيب خاطر كثيرًا من
الخيرات التي أتت بها مدنيتنا؟ فهل قبلوا هذه المدنية؟ وهل يمكن أن نقول بأنهم
يعتبرون أنفسهم رعايا مخلصين لفرنسا إلى الأبد؟ يكفي أن نعرف شيئًا من تاريخ
الثلاثين أو أربعين سنة الأخيرة، لا تاريخ النواحي التي ضُمت إلينا قريبًا؛ ولكن
تاريخ المقاطعات الثلاث القديمة - الجزائر ووهران وقسنطينة - ليكون الجواب: لا،
بل يكفي أقل من ذلك مجرد فسحة مدة ساعة في وسط الجماهير الإسلامية، ومعرفة
قراءة ما في عيونهم، لا شك أنه في مدة الحرب الكبرى جاءت الألوف من رعايا
فرنسا من عرب وبربر ليحاربوا مع جنودنا جنبًا لجنب، وكثير منهم ماتوا لسلامتنا،
وهذا برهان على الإخلاص لا ينسى أبدًا؛ ولكن كثيرًا من الشعوب والقبائل منذ
كان العالم حاربت لا ليدافعوا عن قضية لهم؛ ولكن ليرضوا شجاعتهم ومصلحتهم
وكبرياءهم، فمن الخطأ ومن الخطر أن نعتقد بأنه منذ سنة ١٩١٤ اندمج فينا مسلمو
أفريقية أو تقربوا منا أو بيننا وبينهم تفاهم واعتبار ومودة وتلك هي الصلات
المتينة [١٧] .
والخطأ راجع إلى الرجال (المختلفين في الأصل والمواهب، المتشابهين في
الوهم والحكم الباطل) الذين تولوا الأعمال الأفريقية في القرن السابق وفي أول هذا
القرن؛ فإنهم لم يفهموا أن مدنيتنا مسيحية قبل كل شيء.
ولكن لتكن لنا الثقة بالمستقبل، وفي أثناء الانتظار يجب ألا نضيع الفرص:
فرص التقرب، ولا شيء أثمن منها في الوقت الحاضر بعد التأثير الأدبي الناتج
عن اشتراك المصالح، وكلما نمت العلائق الفردية اضمحلت الأوهام وزاد الرخاء
المادي، وتكونت أجيال مستعدة للتفاهم، وراغبة في العيشة المشتركة.
والنظر إلى قوتنا المادية والعسكرية والاختراعات العصرية سواء الجدية أو
الهزلية يستهوي خيالهم، وإن لم يُظهروا الإعجاب بها، ووسائل الراحة التي
يوجدها التقدم وخصوصًا نظرهم إلى اتحادنا وتكاتفنا، كل هذا يمكن أن يقرِّب بين
الجنسين [١٨] .
(٥) التأثير الأدبي
إن على الأوروبيين الذين يعيشون بالقرب من المسلمين أن يشغلوا وظيفة
المربي، إن خير خدمة يؤدونها لهم إعطاؤهم طرقًا للعمل والتعمير، ومُثُلاً للصبر
والمثابرة والجهد الذي لا يعرف الكلل والملل، وخير القدوة التي يمثلونها لهم هي
الحياة الشريفة التي لا عيب فيها، والفضائل العائلية، والاستقامة التامة والوفاء
بالعهد، والشرف في المعاملات، والصدق في كل المناسبات، تلك كلها خصال
يحتاجها مسلمونا أشد الاحتياج، فينبغي أن تنتمي فيهم وتقوى.
ونزيد على تلك الأخلاق المثال العالي للأخلاق الإنجيلية، وتجدها ممثلة في
جماعات التبشير في أفريقية الشمالية (! !)
وينبغي لنا نحن الإفرنسيين أن لا نشارك في هذا المدح جماعات التبشير
الأجنبية؛ لأنها في كثير من الأحيان تعمل لغرض سياسي لخير دولتها أكثر مما
تعمل لغرض ديني [١٩] .
وأكون ملومًا إذا أنا لم أشارك جميع الرجال المنصفين الذين يُظهرون إعجابهم
بالآباء البيض والأخوات البيض التابعين للكردينال لفيجري لما قاموا به من الأعمال،
وقد شاهدت ذلك مدة توظيفي الطويل في الجزائر وتونس، فتبشيرهم ينحصر في
إعطاء المثل بواسطة الإحسان والانقطاع الكلي لمساعدة أصحاب العاهات الأخلاقية
والمادية من الأهالي، وبواسطة مدارسهم يعملون على رفع مستوى المسلمين
الفكري المنحط، وتحسين حالة معيشتهم.
ومنذ احتلال المغرب الأقصى ما انفك الآباء الفرنسيسكان والأخوات يقتدون
بهم بانقطاع وإخلاص يستحقان الشكر من فرنسة كما يستحقانه من الكنيسة، وإن
في المثل الشريف الذي يضربونه ما يشرف بلادنا أعانهم الله.
وفي الختام يجب بواسطة حكومة حازمة عادلة محسنة أن نقطع الطريق على
أخطار الشيوعية والاشتراكية الثورية التي تجد مذاهبها عند سكان أفريقية الشمالية
أهل الفكر الخفيف المعادي لسلطننا غالبًا أرضًا خصبة [٢٠] .
... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد عبد السلام بلافريج
تعليق المنار على جملة الكتاب
وخطاب إسلامي حر إلى العقل الفرنسي الحر- إن أمكن أن يبلغه الخطاب
قد اطلعنا على كتب كثيرة لكتاب فرنسة المختلفي الأفكار والآراء في بيان
حال مسلمي مستعمراتها الأفريقية (ما يريدون جعله منها كسورية) وما ينبغي أن
يعاملوا به، وقد رأينا كل كاتب يتَّبع هواه، ويغني على ليلاه، دون ليلى حكومة
فرنسا الجمهورية الحرة، ويبغي مصلحة نحلته أو فرقته دون مصلحتها،
فالكاثوليكي المتعصب يرمي في كل ما يكتبه إلى إقناع الحكومة بمقاومة دين الإسلام
نفسه، ومحاولة إفساده على الأهالي بحجة أن المسلمين لا يمكن أن يخلصوا لفرنسا
ويحبوها، ويؤمَن انتفاضهم عليها ما داموا مسلمين، ومن هؤلاء جول سيكار مؤلف
هذا الكتاب، ومن يؤيد كلامه بالنقل عنهم من قسوس الجمعيات الدينية ومبشريها.
والمالي المفتون يحصر همه في إقناع هذه الحكومة بسلب ثروة المسلمين
بالوسائل النظامية - كما تفعل الآن في المغرب الأقصى من انتزاع ملكية الفلاحين
والقبائل لأرضهم - والحيلولة بينهم وبين العلم العصري بحجة أنه لا يمكن أن يدوم
خضوعهم لها إلا بالفقر والجهل.
والعسكري الذي لا يرى وسيلة لترقيته ونيله المكافآت المالية والرتب العسكرية
إلا بوجود العداوة بينهم وبين فرنسة، فهو يحاول إقناعها دائمًا برسوخ هذه العداوة
ويتمنى دائمًا حدوث الثورات والفتن التي يظهر فيها الحاجة إلى الجند واقتناع
الحكومة بأنها مدينة لهم.
لقد انسلخ على استيلاء فرنسة على الجزائر قرن كامل، ولا يزال هؤلاء
الكتاب يقولون لها إن المسلمين لم يزدادوا في هذا القرن بطوله إلا بغضاء لها،
ويلفقون الأدلة الخطابية والمغالطات الجدلية لإقناعها بمعالجة هذا الداء، والذي جزم
به موسيو جول سيكار أن العلاج محصور في مداراة المسلمين في الظاهر وإفساد
دينهم عليهم بالإلحاد المادي العصري توسلاً بذلك إلى تنصيرهم الذي هو العلاج
الأخير الممكن عنده، ويصح أن يقال في كل هؤلاء الكتاب ما قاله معروف أفندي
الرصافي الشاعر العراقي الشهير في وزراء الدولة العثمانية الثلاثة الذين تولوا
منصب الصدارة العظمى عقب إعلان الدستور:
مضى (كامل) من قبل (حلمي) وإن جرى ... كما جريا (حقي) فمثلهما حقي
إن لم يبصروا للحق غير طريقهم فإن طريق العدل هو أوضح الطرق
سبحان الله! أَيُستذل شعب ويهان وتسلب ثروته وأوقافه، ويُفَضَّل غيره عليه
في بلاده بل يؤمر بترك دينه ويحال بينه وبين العلم والنور ولا يكتفي منه مع هذا
كله بالطاعة بل يؤمر فوقها بالشكر والمحبة.
ولم أر ظلمًا مثل هضم ينالنا ... يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
إن وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات في فرنسة يحيط بهما نفوذ الجمعيات
الدينية ورجال المال ورجال العسكرية: ثلاثة أسوار تمنع من وصول أي رأي حر
يخالفها، ولو وجد في فرنسة زعيم حر واسع الفكر، كبير الهمة قوي الإرادة
كالسنيور موسوليني في إيطالية - لأمكنه حين يضع مصلحة الدولة والأمة فوق كل
مصلحة مع عدم التصعب الديني أن يعرف الطريقة المثلى لإرضاء مسلمي أفريقية
في ممالكهم الثلاثة، وما به تعمر بلادهم ويرتقي مجموعهم، وتستفيد فرنسة من
ثروتهم وقوتهم أضعاف ما تستفيده الآن من غير أن تخسر هذه الملايين التي تنفقها
لتوطيد الأمن وقمع الثورات، وإيقاع الرعب والإرهاب في القلوب لحفظ الهيبة.
ولو شاء مثل هذا الرجل أو غيره من كبار الرجال أن يستشير في هذه المسألة
كبار أهل الرأي من مسلمي هذه البلاد وغيرها، لأمكنه أن يعرف من مصلحة
فرنسا ما لا يمكن أن يعرفه من هؤلاء الكتاب الافرنسيين وأمثالهم من المسلمين
كالسي قدور بن غبرايط مثلاً، ولو وُجد هذا الرجل لاقترحنا عليه أن يعقد مؤتمرًا
للنظر في هذه المسألة تحت رياسة رجل فرنسي حكيم حر كالدكتور غوستاف لوبون
يدعو إليه من يشاء من الرجال المستقلين منهم ومنا، ولكن لا سبيل لنا والحالة في
فرنسة كما نعلم أن نبلغ أولي الأمر فيها ما نجزم بأنه خير لفرنسا مما هي عليه في
سياسة المغرب وسياسة سورية.
إنني كنت عرضت على موسيو روبير دوكيه أشد غلاتهم في هضم حقوق
سورية ما أراه خيرًا لها في سياستها وتجارتها ونفوذها الأدبي مما تجري عليه في
ذلك، فقال إن هذا أمر معقول غير خيالي وقابل للتنفيذ إن وجد منا ومنكم من يقوم
بتنفيذه، وإنني إلى الآن أضمن وجود من يقوم بتنفيذه منا إذا رضيت فرنسة به،
ومن ذا الذي يستطيع إيصاله إليها وإقناعها به وموسيو روبير دوكيه لم يفعل ذلك؟
إذن يجب أن تنظر فرنسة ما يفعل الزمان في أطواره في سورية والمغرب
والزمان أبو العجائب.